الرأسمالية، الاكتئاب واسترجاع قيمة الحياة!
تحتل بعض الأمراض النفسية والعصبية نسباً عالية جداً في المجتمعات كافة، مع فروقات بين المجتمعات وفي كيفية التعامل معها. فيصيب الاكتئاب سنوياً حوالي 300 مليون فرد في العالم، في مختلف الأعمار، ويتم التعامل معه بطرق مختلفة، إمّا عبر العلاجات النفسية أو الاستشارية أو عبر الأدوية. ويؤدي في أعلى مراحله إلى الانتحار، الذي كان مسؤولاً عن إزهاق حياة حوالي 800,000 فرد عام 2015، بين عمر 15 و 29 عاماً، بحسب منظمة الصحة العالمية.
ماذا يعني الاكتئاب؟
الاكتئاب، هو فقدان القدرة على رؤية المستقبل، أو الاستمتاع بأي شيء يحصل في الحاضر، وما يصحب ذلك من شعور بالوحدة والقلق والحزن، وما ينعكس على المهام اليومية، فيتم تعويض هذا الشعور إما بالأكل المفرط أو انقطاع الشهية أو بالنوم المفرط أو الأرق، وذلك تفادياً لأي عمل أو مهام من تلك الأعمال اليومية البسيطة كالذهاب إلى العمل، إلى تلك الأعقد منها التي تستدعي مهامّ فكرية أعقد. أو هو بمعنى آخر فقدان قيمة الأشياء، وبالتالي قيمة الفرد لنفسه، فيصبح كل شيء فاقداً لقيمته، وهذا ما يجعل من يشعر بالاكتئاب يهرب من الواقع إلى الانزواء عادة، أو إلى السلبية في الأمور. والاكتئاب لا يعني الحزن، لكون الكلمة مستعملة كثيراً بصفة متلازمة، بل يعني: أنّ الشعور بالسلبية والانحطاط المنسحب على جميع الأشياء لدرجة أنّها فقدت قيمتها، ولدرجة أنّ الشعور بحد ذاته لم يعد موجوداً. لذلك يؤدي الاكتئاب في مراحله المتقدمة إلى الانتحار لكون فقدان قيمة الذات والأشياء يعني فقدان قيمة الحياة بشكل عام، وفقدان السبب للوجود فيها.
الفروقات في الاكتئاب
العديد من الأبحاث تؤكد على أنّ المرأة تصاب بالاكتئاب بنسب أكبر من الرجل، والسبب غير معروف حسب أغلبية الأبحاث، أو غير مدقق فيه. هذا ينسحب على العديد من الأمراض النفسية، مثل: الهستيريا أو تلك المتعلقة بالقلق. وبغض النظر عن انطلاقات علم النفس العديدة في تحليل، لماذا نُصاب بأي مرض (اضطراب) نفسي، فإننا ننطلق من أننا نُصاب بمرض نفسي نتيجة ارتفاع نسبة الضغط، أو نتيجة صدمة قوية لم نستطع التخلص منها، فتكاثر هذا الضغط وعدم القدرة على حلّه يؤدي إلى مرض نفسي أو عضوي، أو الاثنين معاً. ولهذا الضغط وتكاثره أسباب اجتماعية متعلقة بالدور الاجتماعي للأفراد، فالدور الاجتماعي للمرأة يتحدد منذ الصغر، في الألعاب التي تُجلَب لها، مثل: الاهتمام بالألعاب وإطعامهم، أو دور الطبخ والتنظيف والألوان البسيطة، مثل: الوردي التي تحاط به الفتيات. وهذا الدور ينسحب على ما يمكن للفتاة أن تقوم به، ما مدى اتساع محيطها الاجتماعي، وما الذي يُخوّلها هذا المحيط القيام به. فبالتالي تكبر الفتاة على حدود تعبير معينة وقدرة حركة معينة، وتكبر مع ارتفاع نسب الكبت لأن اتساع محيطها واتساع حاجاتها النفسية والجسدية يؤديان لاتساع الكبت الذي يجب أن تمارسه على نفسها، ويمارسه المجتمع عليها لما تنشئهُ الحاجات والظروف الجديدة من صراعات هي غير مهيأة على التعامل معها، وهذا يجعلها أضعف من الرجل من حيث تكاثر الضغط. وليس صحيحاً أنّ وضع المرأة هكذا في المجتمعات التابعة، بل هو مشابه في المجتمعات «المتقدمة» لكون تقسيم العمل الحالي ودور الفرد في المجتمع موضوع من قبل النظام الرأسمالي، حيث إنّ نظرة على الأغاني والأفلام الغربية ترينا كيف يُصنف النظام الرأسمالي المرأة في أنها إما للتربية أو للتمتع الجسدي.
وعندما نصنف الاكتئاب على أنّه فقدان قيمة الذات والحياة، يعني أنه فقدان مهامنا في هذه الحياة. هذه المهام التي تأطرت في النظام الرأسمالي على أنّ نجاحنا وفشلنا هو جهد فردي لا علاقة له بالظروف، وعلى أطر اجتماعية مركبة بحسب العمر من الدراسة إلى العمل إلى الزواج فالإنجاب، فمن الطبيعي أنْ تصطدم المهام بالفراغ لأنها «مسيَّرة» ضد الإنسان، وليست «مخيرة» ضمن ضرورة تطوره ولصالحه، ولأن الطموح محدود بملكية ما، أو الوجود مرهون بهذه الأطر الاجتماعية.
الاكتئاب كغيره من الأمراض النفسية، هو محاولة من العقل لحماية الذات من الموت ومواجهة الواقع والجسد من التنبه المرتفع، إذاً هو عملية تأقلم متطرفة وسلبيّة في العديد من الأحيان للعقل، مع الضغط والتغيرات المحيطة السريعة غالباً وغير المتوقعة. وهو كغيره من الأمراض النفسية يزول مع إزالة سببه، لكي نسترجع قيمة الحياة، يجب أن نسترجع سبباً للحياة التي أفرغتها الظروف التي يعيشها العالم من محتواها الجاذب للإنسان ومعانيها، كالأزمة الاقتصادية والحروب والتوجه نحو الدمار والاغتراب المعمم، لذلك فإن استرجاع قيمة الحياة ومعانيها يكمن أولاً: في تغيير السبب وتغير الظروف الراهنة التي أدت إلى ارتفاع في نسب الأمراض النفسية، وهكذا تُخلق المعاني وقيمة الحياة من ضمن الصراع، ومن ثم في خلق التقدم والتطور اللاحقين للمجتمع الجديد.