العلوم ومفترق الطرق التاريخي
محمد المعوش محمد المعوش

العلوم ومفترق الطرق التاريخي

محاولة انتقائية سريعة لأهم المواضيع البحثية في المجالات الرائدة، تُظهر اللوحة التاريخية التي تتوضح في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهي: أن العلم السائد، كالفكر السائد، هو في مرحلة أزمة، ومتخلف في عدة نواح منهجية ومعرفية عن عدة عقود خَلَت.

قيل الكثير عن الوقوع في «التجريبية المفرطة» التي يسير فيها العلم الرسمي في «عماه النظري»، أو التفكيكية التي تعزل الميادين البحثية (علم نفس، اجتماع، اقتصاد، صحة، بيئة...) وتعزل القضايا ضمن الميدان نفسه أكثر وأكثر، بحيث يصبح الواقع_ مع هكذا علم سائد_ ذراتٍ متناثرة. فتصير التجريبية والعقل العلمي محاولة عقيمة من الصفر لجمع ما تم تفكيكه، وكأن اللوحة التي تم تشويهها عن الكون والإنسان والمجتمع كانت بهذا الغموض سابقاً.
في مرور سريع على العديد من المجلات العلمية العالمية والمواضيع في متنها، لتبيان الواقع المنهجي والنظري المأزوم المذكور أعلاه، يمكن استخلاص أمثلة عديدة تظهر التخلف المنهجي والنظري للعلم الرسمي عامة، منعكساً في قضايا بحثية مختلفة، هي في الواقع واحدة في وجودها الموضوعي.
بعد أن تفتح الصفحة الأولى لمجلة «علوم» العالمية، وبعد أن يتربص بنظرك إعلان_ وهو عادة من الإعلانات التي تتكفّل بإدارتها شركة «غوغل»_ ترويجي عن «السياحة في إسرائيل_ أرض الإبداع (حسب الإعلان)»! يظهر في جانب أساسي من الصفحة، ويظهر مدى جاذبية المدن الفلسطينية المحتلة كحيفا والقدس ومناطق من البحر الميت والنقب، على أنها من الأماكن التي يمكن زيارتها، ولا يظهر الإعلان كيف يمكن لـ «السائح» أن يتفادى «حوادث» حاليّة في القدس أو حيفا وغيرها من المدن، مرتبطة بواقع الاحتلال وممارساته. وبعد أن تتمكن من العبور من خلال الإعلان ودلالته في صفحة علمية تعتبر من الأشهر عالمياً، يمكن استكمال رحلة انتقاء أربعة من المواضيع الساخنة اليوم، والتي تؤكد الأزمة بالمباشر من خلال لوحات علمية متفرقة، ولكن في وجودها جنباً إلى جنبٍ وتضفي طابعاً نوعياً للصورة.
علوم الدماغ
الكثير يقال ويجري حول الدماغ، إن كان تقنياً من حيث التصوير الثلاثي الأبعاد له، أو نظرياً حول نشاطه ودور كل قسم فيه وتفاعل أقسامه فيما بينها، ودور الدماغ وتفاعلاته في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية للإنسان. ولكن ما تجري الإضاءة عليه اليوم أو تلمس جوانبه الأولية وكأنها افتراضات جديدة وحديثة، كان قد تم تقديمها منذ عدة عقود، وتحديداً من خلال عالم الدماغ والأعصاب السوفييتي ألكسندر لوريا، الذي قدر مبكراً على قياس وتوصيف عمل الدماغ في كليته كـ «دماغ اجتماعي» (انعكاسي للواقع الموضوعي للإنسان النشط الفاعل)،وقدر على علاج الاضطرابات الدماغية من خلال اختلاق وضعيات في ممارسة الفرد، تعوض الجوانب التالفة من دماغه المصاب، لكي تقدر جوانب أخرى على أداء الوظيفة المفقودة. هكذا إذا كان لوريا في اعتباره أن الدماغ هو جهاز وظيفي اجتماعي لا يمكن فهمه إلا ضمن فهم الخريطة التالية: علم اجتماع (اقتصاد سياسي)، ثم علم نفس فردي ضمن الاجتماعي، ثم الجانب العصبي الفيزيولوجي الذي هو الأرضية المادية للعمليات النفسية الاجتماعية وتحقيق جسدي لها. ولكن يحاول العلم السائد اليوم، أن يظهر لنا أن الدماغ هو من الغموض، وكأننا بحاجة لملايين السنين لكي نقدر على فك شيفرته المعقدة، ولكن دماغهم المعزول السائد لن يسمح لنا بفهم شيء.
علوم الذكاء الاصطناعي
في ترابط شديد مع علوم الدماغ والنفس، يقع ميدان الذكاء الاصطناعي تحت تداعيات أزمة علم النفس، وعلم الدماغ السائدين، حيث أنه لا يزال يعتمد في منهجياته خصوصاً في «تعلم الروبوتات والألة» ومجال الإدراك والتفكير، على نظريات نفسية ما قبل ماركسية، وتحديداً السلوكية والنمطية الشكلية، والتي تبسط وتختزل الوعي الإنساني وكل الغنى الكامن فيها إلى جوانب كميّة خطية تفتقد لأية بنى وظيفية، هي انعكاس للبنية الموضوعية للممارسة الإنسانية (الاجتماعية)، فيقع الذكاء الصناعي اليوم في عقبات منهجية يعملون جاهدين لاختلاق مخارج عملية، مع أن أزمتهم هي في منطلقات منهجية ونظرية تجد مرجعيتها في علم النفس السائد المأزوم، وهنا أيضاً نجدهم متخلفين نظرياً ومنهجياً حوالي 100 عام عن النظرية الماركسية في التعلم والوعي، المتبلورة تحديداً في الاتحاد السوفييتي مع الباحث ليف فيغوتسكي، أستاذ وزميل ألكسندر لوريا المذكور أعلاه.
الديمقراطية وعلم الآثار
يحاول علم الآثار أن يبحث في طبيعة المجتمعات القديمة طبقياً، من خلال التنظيم المدني، وما تُرك من أدوات في أطلال المدن التاريخية، حيث كشف بعض الباحثين مؤخراً، أن المجتمعات القديمة لم يكن فيها هرمية طبقية كما المجتمعات «المعاصرة»، بل عاشت شكلا من التنظيم المشاعي (الديمقراطي). هكذا إذاً، يظهر علم الآثار السائد متخلفاً منهجياً ونظرياً أكثر من قرن ونصف عن منجز ماركسي لإنجلز في كتابه أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة، في تتبعه تاريخياً لانتقال المجتمعات في تشكيلاتها من المشاعية البدائية إلى الطبقية من خلال بنى العائلة والاقتصاد وغيرها.
الصحة والسرطان
السرطان من المواضيع البحثية العالمية اليوم لكونه مرض الإمبريالية المحتضرة، إذا أردنا توصيفه تاريخياً، وبعد العلاج الكيميائي والاستئصال الجراحي، يشهد الميدان انتقالاً إلى الجهاز المناعي المرتبط بجوانب أكثر عاطفية واجتماعية، وهنا أيضاً تخلفاً منهجياً ونظرياً بحوالي ستة عقود من الزمن، عن الباحث النمساوي الماركسي فيلهم رايش والذي ربط بشكل مباشر بين السرطان والبنية الاجتماعية الرافضة للإنسان، حيث يكون السرطان رداً فيزيولوجيا طاقوياً عن القمع الشامل الاجتماعي عبر الدرع الذي يبنيه الفرد لحماية ذاته.
بعض من الأمثلة، تظهر أن العلم كما البشرية ككل هو في حالة خضوع للعقبة التاريخية المتمثلة بالرأسمالية، فالبشرية لا زالت أمام مفترق طرق، مع توجه نتلمسه نحو اليسار.