مقاربة الموضوع الصحي
إن كنا نلاحظ أو لا نلاحظ، إن ارتفاع نسبة الأمراض الجسدية في العالم مستمر، بخاصة الأمراض غير المتنقلة، تلك غير المسببة من عدوى جرثومية. يشكل هذا الارتفاع خطورة كبيرة حالياً، ليس لأن العلم وتطوره بشكل يبدو في الظاهر فقط، أنه يسمح بمعالجة أو حتى بتقليل نسب هذه الأمراض، بل لأن هذه الأمراض مرتبطة بطريقة العيش والبيئة التي نعيش ضمنها. وإذا أخذنا تقارير منظمة الصحة العالمية، فإن الارتفاع الأعلى لهذه الأمراض هو في الدول المتقدمة، وليس النامية، أو حتى تلك التي تعيش حروباً، والتي تبرر المنظمة سبب ارتفاعها في أسلوب العيش من نظام غذائي وتدخين مثلاً.
هذا في الظاهر، أمّا في الضمني، فإن العلم مع تطوره بشروط النظام السائد وضمن قوانينه لم يسمح له بمقاربة الأمراض الجسدية والنفسية بطريقة تسمح بالعلاج. حتى لو أن ظروف معيشتنا تحسنت من حيث بعض الجوانب (السكن والتنقل والتعليم بالحد الأدنى) ولكن ما يحكمنا سياسياً وبنيونياً هي: الرأسمالية التي لا تسمح بمضمونها التقدم والراحة المعيشية للجميع. لذلك إن مقاربة علاج الأمراض الجسدية (غير المتنقلة) من ضمن هذه الشروط الرأسمالية، يحكمها منطلقات عديدة ومحدودة، منها: الفكر وتصنيف أسباب المرض. وبالتالي كيفية ومن هو المسؤول عن المعالجة. وفي أغلب الأبحاث أو التجارب التي تحاول توسيع إطار المعرفة، وبالتالي المعالجة، تبقى العوامل (ضمن الإطار البنيوي نفسه) غير سامحة بالمعالجة الكلية للمشكلة.
وحتى مع أن التشديد اليوم في معالجة الأمراض الجسدية أو النفسية هو بعلاقة هذه الأمراض مع الداخلي (الجسدي) والخارجي، أي: الآليات الداخلية التي تتأثر بالمرض، مثل: الجهاز العصبي والمناعة ونظام الغدد الصماء تفاعلاً مع علاقة الجسد بالبيئة وتأثيراتها عليه. ولكن معظم هذه الأبحاث تحدّ البيئة من الأفعال التي يمكن أن تؤثر على الأفراد، مثل: التدخين والرياضة والنظام الغذائي فقط، والتي تضع بالتالي حلولاً مجتزأةً، ولا تحل المشكلة بشموليتها، حلولاً مثل: إتباع أسلوب «صحي» والسيطرة على الذات أو تطوير الذات.
وإلى اليوم المراكز البحثية التي تنطلق من كلية الجسد (الداخلي والخارجي) في مقاربتها للأمراض قليلة. وهي تربط الضغط الجسدي والنفسي بتفعيل جهاز المناعة والآليات العصبية، أو الإفرازات الغددية بالأمراض النفسية. مثلاً: تنطلق الأكاديمية الصينية للعلوم- كلية علم النفس من العلاقة بين الضغوطات النفسية والجسدية وتفعيل جهاز المناعة الذي يفعّل الجهاز العصبي، ونظام الغدد بإرتباطه بالإكتئاب. ومن المهم في هذه المقاربة ما هو تعريف الضغوط الجسدية والنفسية، وما هي آلية نظام المناعة والأعصاب في الكائنات الحية وخاصة البشر. أبحاث مشابهة أخرى (جامعة نانجين_ الصين) تنطلق من العلاقة بين الخارجي والداخلي للجسد، وتتركز على الطاقة والفوضى في هذه العلاقة، فتركز الطاقة داخل الجسد يؤدي إلى الفوضى الداخلية نتيجة تكاثر الطاقة، أما تدفقها إلى خارج وداخل الجسد من خلال التفاعل والنشاط يخفف من احتقانها. وهنا أيضاً، ما هو مهم، هو مصدر الطاقة، وما الذي يؤدي إلى احتقانها. كالعلاقة مع البيئة الاجتماعية والدور والكوابح الخارجية أو الثقافية.
المقاربة الكلية
عدم قدرة العلم السائد، وحتى الأبحاث المتقدمة فيه إلى توصيف كلي ودقيق للأمراض، يفرض مقاربة جديدة لماهية الأمراض وعلاقتها بالبيئة التي نعيش. وخاصة في مقاربة الأمراض الجسدية غير المتنقلة، كون. في تعريفها وآلية عملها صعوبة في مقاربتها وكذلك التعقيد من الناحية الثقافية أو الاجتماعية أو النفسية. وتبرز على الواجهة بعض الأمراض، مثل: السرطان وفي التعامل معها وكأنها لغز من الصعب علينا فهمه ، فكيف حله؟ بعض الباحثين أو النفسانيين قاربوا الأمراض الجسدية من علاقتها الثقافية الاجتماعية السائدة، مثل: رايش في أبحاثه عن السرطان، والبعض الآخر قارب آلية عمل الجسد وعلاقته مع الخارج (التي يمكن أن تنعكس على ميادين الحياة كافة) من خلال نظرية النشاط الإنساني. أياً كانت هذه المقاربة، ما نحتاجه حول الأمراض الجسدية، هو: تعريفها، خاصة الأمراض الجسدية غير المعدية أو غير المتنقلة، كون تلك الأمراض لا تأتي نتيجة جرثومة من خارج الجسد، أو لا تعتبر (في العام) عنصراً خارجياً عن الجسد، وبالتالي هذه الأمراض أتت نتيجة عامل ضغط من خلال هذه العلاقة بين الخارجي والداخلي. وحتى إذا أخذنا في الإعتبار أن للأمراض عنصراً وراثياً، لا يمكن أن نحد العنصر الوراثي بإنتقال جينة الأهل إلى الأطفال فقط، بل بما قد سبب تغيراً في هذه الجينة لكي تصبح طفرة أو تنحرف عن مسارها الطبيعي.
انطلاقاً مما سبق في العلوم، وبمعالجتها الأمراض الجسدية، وانطلاقاً مما سبق في الفكر، نجد الأرضية النظرية (والعملية إلى حدٍ ما) لمقاربة الأمراض والصحة بشكل عام. هذه الانطلاقة التي يتناقض فيها الفكري النظري المادي، مع العملي التجريبي، حيث الفكري علمي في تحليله، والعملي اليوم هو مثالي في تطبيقه، تسمح بمقاربة الأمراض الجسدية على أساس الفكري العلمي التاريخي، ونقداً لأخطاء العلمي المثالي. فالأمراض حتى تلك الجسدية المستعصية، مثل: السرطان، مرتبطة بالأهداف التي يضعها المجتمع للإنسان، وكذلك مع أهدافه المفروضة من قبل الثقافة السائدة، أو أهدافه الذي يضعها لتقدمه الفردي أو الجماعي. وبالتالي نابعة من معنى وجوده كفردٍ في مجتمعٍ، ومعنى الخارجي عنه في البيئة التي يعيش، وعلاقتهما بالداخلي في آلية ونشاط الجسد في أجهزته كافة، بخاصة تلك التي تؤدي إلى الفعالية، أي: الجهاز العصبي والمناعة ونظام الغدد.