الذاتية والهوية المفقودة
ما يميز البشر عن سائر الكائنات الحية أنهم لا يمكنهم الانفصال عن تسلسل التاريخ، بمعنى آخر، لا يمكنهم الخروج من التاريخ بلحظاته السابقة والحالية، بل هم محكومون بتقدمه، يتقدمون معه وبه. ومع تقدم هذا التاريخ أصبحنا نمتلك أشياء مفروغ منها (إذا استطعنا قول ذلك): إننا نعيش في مجتمع، نتعلم ونعمل ونحب وما إلى هنالك. ومع هذا التطور أو به، امتلكنا تجارب موحدة في مفهومها العام، ومنفصلة في مفهومها الشخصي، مثل: العيش في مجتمع والتعلم والعمل والحب وإلخ...
من العام إلى الذات
مفهوم العام والذات يدخل في العديد من الأمور الحياتية، وتتناقض المفاهيم حتى في تعريفها الداخلي. فالتاريخ مثلاً: يؤخذ على أنه لحظة حالية أو سابقة قام بها شخص معين، أو «بطل» معين خارج الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي خيضت هذه التجربة فيه. كما التحدث عن هتلر على أنه من قام بقلب موازين القوى في ألمانيا إلى نظام فاشي، هتلر بفرده لا اللحظة التاريخية التي سمحت لهذا الحدث، ولا بلحظة عامة سمحت لكل من سمح لهتلر بالصعود أن يأخذ هذا الموقف.
اليوم، يسمح التناقض في النظام الرأسمالي بتفكيكه للمفاهيم العامة والفردية، بالمزيد من الضياع، في تعريف أو فهم التجارب العامة والفردية. بنية هذا النظام التي تقوم على سيطرة قلة من الناس على مصادر الأكثرية منها، والتي لا يمكنها الوجود خارج تسطيح المفهوم العام والفردي في المجتمع. فالتجارب العامة تصبغ بتعريف فردي، لتفقد مفهومها العام في تجارب من الطبيعي أن تخاض من قبل الأكثرية، وتغيب قيمة أي عمل في تعريفه العام الجماعي.
الوطنية وأوهام القوة الفردية
من المهم عندما نتحدث عن مفهوم التجارب العامة والفردية، أن نرى الفرق بين التجربة بطبيعتها، وعن ذاتية التعامل معها. فمثلاً: الوطنية أو القومية هي مفهوم وتجربة عامة لكل من يشعر أنه ينتمي إلى مكان وبيئة وهوية، ويعكسها بشعور الوطنية أو القومية، ولكن النظام الرأسمالي لا يعّرف الوطنية على أنها شعور عام نمتلكه انعكاساً للشعور بالانتماء، بل يعّرفها على أنها تختلف من شخص لآخر، لا بحسب تجربة أي شخص ولكن أيضاً بمفهوم هذا الشخص كجوهر. فيغوتسكي في المقلب الآخر، الذي تؤخذ نظريته عادة بتسطيح رهيب، يربط التجارب بتطور الوعي، ليفصلها بين فرد وآخر من جهة العوامل التي أثرت بتكون هذا الوعي، والعوامل (اجتماعية ثقافية سياسية) هي نفسها عند جميع الأفراد، والفرق في أنها قد تساعدنا على تطوير إدراكنا بطريقة أسرع أو بطريقة أبطأ. فَمِن فيغوتسكي نستطيع القول: أنه، بما أننا جميعا تربينا ضمن النظام الرأسمالي (الذي يقوم على الوهم بالقدرة الفردية للأفراد خارج قدرتهم الجماعية، ووجودهم في جماعة تنقل وعيها من جيل إلى جيل، ومن تجربة إلى تجربة) فإن العوامل التي ساعدتنا على تركيب وفهم المفاهيم أتت من هذا النظام. فمفهوم الذاتية في التجارب استطاع أن ينفذ إلى مفاهيمنا حتى أذا كنا لا ندري ذلك. والأدوات التي تستعملها الرأسمالية سمحت لهذه الذاتية بالتضخم إلى أقصى الحدود، كما انعكست على تجارب يضع لها النظام الرأسمالي بنفسه شروطاً. وقد تكون العلوم إحدى هذه التجارب التي لا يمكنها الوجود في النظام الرأسمالي، إلّا ضمن شروط معينة، وهي في الوقت نفسه ذاتية إلى أبعد الحدود. فعندما ندرس العلوم نعلم أنه لا يمكننا دراستها من دون العودة إلى كيفية تطورها قبل دراستنا لها، فهنا لا يستطيع النظام الرأسمالي المراوغة. ولكن العلوم في هذه العودة تفهم على أنها ذاتية، فنيوتن اكتشف الجاذبية بنفسه وطور مفهومها بنفسه، بيل غايتس أصبح جزءاً أساسياً من عالم التكنولوجيا بقدرته الفردية، وفرويد طور نظرية علم النفس حين كان معزولاً عن المجتمع، والعلماء الآخرون ساعدوه في تطوير النظرية.
من الذاتية إلى النفس البشرية
الذاتية، هي عندما يعتبر أي شخص أن الذي يقوم به أو يخوضه لم يقم به أي شخص آخر، بل هو حالة فردية متميزة في شخصه وحالته، وأن هذه التجربة لا يمكن لها أن تكون كما تجارب أخرى عند أشخاص آخرين. فمثلاً: لا يمكن لأي شخص الشعور بالألم كما يشعر الشخص الآخر، لا يمكن له أن يفهمه، ولا حتى أن يدرك بأدنى حد ما يمر به. مع تضخم الذاتية كان يجب للعقل البشري حماية نفسه من التأثيرات والقلق الذي يستدعيه هذا التضخم. الحماية التي تنعكس بطريقة لا واعية في أغلب الأحيان (إلّا عند من يعي أنه يقوم بما يقوم به، لكي يحمي نفسه من مصدر القلق) قد تتحول من عامل أو عارض نفسي إلى مرض نفسي. كما الهستيريا، أو اضطراب الشخصية أو الفصام وغيرها من الأمراض النفسية، التي تبدأ كرد فعل طبيعي، إلى حد ما، على قلق أو اضطراب لتتطور إلى أي من هذه الأمراض. وإذا نظرنا إلى كيفية تعبيرنا عن ذاتنا وعلاقاتنا الاجتماعية مع القريبين والبعيدين عنا، نجد أن هذه الأمراض التي بتعريفها تأتي نتيجة تجربة شخصية، هي موحدة في مفهومها العام، ولكن منفصلة في حالاتها الخاصة، خرجت من كونها تجربة شخصية تتطور إلى مرض لكي تصبح تجربة جماعية، تتطور عند الأغلبية ممن ينظر إليهم المجتمع على أنهم «أصحاء». فالهستيريا أو الفصام واضح إلى أقصى الحدود في ردات الفعل التي تأتي من اغتراب الانسان عن محيطه، ومحاولته تقليص القلق الناتج عن تدني قيمته الاجتماعية والفردية، أو عن عدم قدرته على التأقلم أو التماثل مع شروط النظام الاجتماعي. تنقلب هذه الحالات إلى إسقاط وتصنيف في مفهوم الآليات الدفاعية التي نستعملها لحماية نفسنا، إسقاط مصدر قلقنا على أشخاص آخرين، وخلق معارك وهمية لا أساس لها، وتصنيف البشر إلى أبيض أو أسود، معنا أو ضدنا.
تضخم الذاتية، هو أيضاً وسيلة لحماية نفسنا من مصدر القلق، فإذا كنا لا نعلم أو لا نستطيع الخروج من النظام الرأسمالي والعلاقات، والدور الذي وضعه لنا، قد نلجأ إلى تضخيم ذاتنا في محاولة لاستعادة الوجود والخروج من الاغتراب. ولكن يجب أن نعلم أن هذا التضخم انعكاس لفقداننا قيمتنا وهويتنا كأفراد، وأنه يتماثل مع مصدر قلقنا، ويسمح له بالسيطرة على حياتنا. أما الخروج من ذاتية التجارب إلى وحدتها، فهو كالخروج من مصدر قلقنا، وهو النظام الرأسمالي إلى مصدر ارتياحنا الذي يجب أن يكون نظاماً بديلاً.