العلم الرسمي و (شِبر الماء»
تحت عنوان “انتشار الأخبار الصحيحة والخاطئة على الإنترنت (أونلاين)” نشرت الشهر الماضي ورقة بحثية في مجلة “علوم”، صادرة عن باحِثَين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا_ مختبر الوسائط (ميديا) (المعهد المعتبر الأهم عالمياً)، وفيها سؤال مركزي عن الأسباب التي تجعل الأخبار الخاطئة أكثر انتشاراً ووصولاً إلى الجمهور من الأخبار الصحيحة، وما العوامل المرتبطة بالحكم الشخصي والتي تشرح هذا الاختلاف.
ركز الباحثان في ذلك على منصة “تويتر”، حيث تم جمع 126 ألف خبر وقصة تم نشرها على الموقع من العام 2006 وحتى 2017 أكثر من 4،5 مليون مرة، من قبل 3 ملايين شخص. وللتفريق بين تلك الصحيحة والخاطئة تم العودة لقاعدة بيانات 6 شركات “مستقلة” خاصة بالتحقق من مصادر المعلومة وصحتها، حيث تقاطعت التصنيفات (صحيح_ خاطئ) ما بين الشركات الست على ما نسبته 95 إلى 98 % من البيانات).
الأخبار الخاطئة أسرع وأوسع انتشاراً
بينت الدراسة اعتمادا على تقنيات تصنيف النصوص المنشورة وتحليلها إحصائياً، أن الأخبار الخاطئة انتشرت أسرع زمنياً وأبعد مدى (كماً) وعمقاً (إعادة إنتاج القصة_ الخبر بأشكال مختلفة) من الأخبار الصحيحة، وكانت الأخبار السياسية هي الأعلى_ وصولاً إلى ما نسبته 20 ألف شخص بـ3 مرات أسرع_ مقارنة بالأخبار المرتبطة بالكوارث الطبيعية والإرهاب والعلوم والمعلومات المالية مثلاً، فبينما وصلت الأخبار الصحيحة التي تم تحليلها إلى 10 آلاف شخص، وصلت أعلى 1% من الأخبار الخاطئة إلى حوالي ألف إلى 100 ألف شخص، والأخبار الخاطئة تم إعادة نشرها (تغريدها_ Retweeted) أكثر، وتطلب وصول الخبر الصحيح لنسبة 1500 شخص وقتاً أكثر ب6 مرات من وصول الخبر الخاطئ إلى النسبة نفسها من الأشخاص، وتطلب وصول نسبة إعادة إنتاج (بشكل جديد) الخبر الصحيح إلى عمق 10 (عدد مرات تعديل القصة) وقتا أكثر بـ20 مرة من وصول الخبر الخاطئ إلى العمق نفسه.
وحاجج الكاتبان: أن بنية الشبكة الواسعة لم تشكل دليلاً على هذا الفرق بين الصحيح والخاطئ، فمن نشر الأخبار الخاطئة كان أحدث عهداً على الموقع، ولديه أقل متابعين، وهو بدوره يتابع عدداً أقل من الأشخاص، مقارنة بالأشخاص الذين نشروا أخباراً صحيحة.
السبب الفردي
كالعادة حاول العقل العلمي الرسمي أن يبحث عن السبب في الفردي، فكان التفسير أن الأخبار الخاطئة كانت أحدث عهداً زمنياً من تلك الصحيحة (الأخبار الخاطئة تتعلق بأحداث وقضايا جديدة أكثر من تلك الصحيحة)، وبالتالي كانت “عاملاً جاذباً بسبب مفاجأتها، وكانت أكثر قيمة للمشاركة”. وكون الأشخاص غير قادرين دائماً على إدراك زمن الخبر، تم الركون إلى العامل العاطفي المستخرج من الردود على الأخبار المنشورة باستخدام تقنيات الربط ما بين الكلمات وثمان حالات عاطفية (الخوف، الغضب، التوقع، الثقة، المفاجأة، الحزن، الغبطة، والاشمئزاز)، فبين التحليل أن الأخبار الخاطئة كانت مرتبطة بالمفاجأة والاشمئزاز، بينما الأخبار الصحيحة ارتبطت الغبطة والثقة.
بالرغم من عدم وصول الباحِثين إلى استنتاجات حول البيانات أعلاه، إلى أن الخلاصة الأساسية هي: إن سلوك الإنسان (حالته العاطفية وتأثره) له دور في انتشار الأخبار الخاطئة أكثر من الصحيحة.
تغييب السياسي والأيديولوجي
كما أغلب الأبحاث المستندة إلى مناهج البحث والتيارات النظرية السائدة يغيب التحليل الموحد للمجتمع، ويتفكك الواقع إلى جزر معزولة، فالأخبار الخاطئة أولاً لا يمكن تحليلها إلا ضمن سياق الكذب العام المُمَنهج لتشويه صور الواقع والتعمية والذي تقوم به يومياً آلاف المنصات الإخبارية والأفراد، فتويتر أو فيسبوك أو غيرها من المواقع هي ضمن حالة إعلامية أيديولوجية عامة تغذي بعضها بعضاً، ولا يمكن اكتشاف ديناميكيتها من ذاتها، بل في موقعها الاجتماعي ودورها الوظيفي، وفي علاقتها بباقي الوسائط (التلفزيون مثلاً) من جهة، والسلطة والسياسات القائمة من جهة ثانية. بالتالي فإن كمية الأخبار الخاطئة (الكاذبة) المنتجة هي أكثر من الأخبار الصحيحة منذ البداية، ومن يقدر على بثها أسرع (ربطا بقول الباحثَين عن جدة الخبر أو تقادمه) هو من يملك وسائل الدعاية الجماهيرية، فيكون الخبر على تويتر له ما يوازيه على التلفزيون، وفيسبوك والصحف و... فأهمية الخبر تنبع من موقعه في الحدث اليومي الذي تتم صناعته بشكل شامل، فيكتسب هذا التأثير. هذا السبب السياسي الأساس، يقابله ثانياً: الأيديولوجيا السائدة التي لا تتعلق بالخبر كحدث، بل تتعلق في البنية التي تتقبل الخبر صحيحاً كان أم خاطئاً. فالوعي العام المتأثر بأيديولوجيا “الفكر اليومي” (تسطيح حركة المجتمع والتاريخ وحصرها بالحدث نفسه) يصبح عليه أسهل أن يتقبل الحدث، دون البحث أولا فيمن ينتج الخبر، وبالتالي يصبح الحكم على الخبر انطلاقاً من ارتباطه بتوجه الشخص السياسي، وهو غالبا التوجهات السياسية السائدة في مجتمع ما، فتلقي خبر الهجوم الكيميائي على غوطة دمشق مثلاً وفي كونه مفبركاً أم غير مفبرك، مرتبط بالتوجه السياسي لمن يتلقى الخبر. فمن يريد إثباته يقوم بنشره على أوسع نطاق دون التحقق من صحته، ومن يعرف إمكانية تلفيقه لضرب العملية السياسية مثلاً، سيتحقق أو أقله سيضع نقاط استفهام حول صحته.
إذاً، السياسي المسيطر الذي يريد التعمية على الواقع، والأيديولوجي الذي يسطح الوعي ويلغي إمكانية تحليل الحدث في قوانينه، هي عوامل أساسية في تفسير ليس فقط انتشار الخبر الخاطئ، بل في انتشار صورة خاطئة عن المجتمع، والتي تم إنتاجها على كامل الكرة الأرضية، بمعونة الملايين من المأجورين والكتبة والصحفيين والإعلاميين والأكاديميين والسياسيين ووسائل الدعاية الجماهيرية، فحكومات بمجملها تكذب. والبحث المذكور أعلاه ليس إلا في سياق حرف الصورة ليصب في غير صالح ما يحاول البحث فيه، ليُغرقنا بـ (شِبر ماء).