قانون تفاوت التطور إنتاج الفكر والعلوم والممارسة السياسية
محمد المعوش محمد المعوش

قانون تفاوت التطور إنتاج الفكر والعلوم والممارسة السياسية

يقول «الظاهرة الإعلامية» والمحلل النفسي وأستاذ الفلسفة الجامعي و«المفكّر» السلوفيني «سلافوي جيجك» الذي يعرِّف عن نفسه أنه ماركسي، والذي تَحُوم حوله العديد من الانتقادات في انحراف موقفه السياسي، والمشهور بنقده للأيديولوجيا السّائدة في تعميتها عن الواقع، صاحب كتاب «صحراء الواقع» الذي شارك المحتجين احتجاجهم أثناء حركة «احتلوا وول ستريت»، والذي ظهر كثيراً خلال مرحلة تصاعد الاحتجاج الشعبي في العالم العربي، يقول في إحدى محاضراته أمام مجموعة من الطلاب الجامعيين حول ما المطلوب القيام به لكسر سيادة الفكر الرأسمالي وإحلال نظام بديل «لا أعرف ما هو المخرج من هذه الحلقة، لا يمكن أن اقول لكم ما يمكن القيام به»!



لماذا المثال السابق؟     
مع أنه يحمل مواقف معارضة للفكر النظامي أو«الأيديولوجيا الحمراء» في الاتحاد السوفييتي مثلاً، أخذنا «جيجك» كنقطة انطلاق كونه الشخصية البارزة في الغرب، في نقد الأيديولوجيا الرأسمالية السائدة. حيث يعتبر جيجك: أن الليبرالية لا تعمي فقط عن الواقع المتناقض، بل أيضاً هي تؤسس لثقافة الاستهلاك، وهو ما يسميه تحديداً «فائض الرغبة»، التي لا تُشبع في ظل نمط الاستهلاك المتغرّب، بل ما يحصل هو العكس، شراهة مفتوحة على مصراعيها للمزيد من الاستهلاك، ومن ثم استهلاك أكثر في مستويات الممارسة الانسانية كلها من الأكل إلى اللباس(الموضة) إلى الجنس إلى العواطف...
 على الرغم من «تفلّته» من سيطرة الأيديولوجيا السائدة، لم يجد جيجك ما يقوله للطلاب في الجلسة تلك، أو في ممارسته السياسية عموماً، بديلاً إلا نقداً «أيديولوجياً» للسّائد وتعريته في أماكن سيطرته المتنوعة وتحديداً الإعلام.

تمايز البنية بين مركز إمبريالي وأطراف منهوبة قانون تفاوت التطور اللينيني
كون الخطوة النظرية (تعرية سيطرة الأيديولوجيا الرأسمالية بالوعي) التي قام بها «جيجك» محكومة بالبنية الاجتماعية التي يتحرك فيها وعي جيجك نفسه، والقوى الاجتماعية التي يتوجه إليها، بقيت الخطوة أسيرة هذه البنية من ناحيتين، محكومة بقانون البنية الذي وصّفه المفكر الماركسي حسن حمدان(مهدي عامل) بأنها «بنية استيعابيّة» للقوى الاجتماعية ليس في كونها غير استغلاليّة، ولكن في قدرتها على التعمية عنه. ووصف «مهدي» البنية الطرفية الخاضعة للنهب الإمبريالي على أنها، نقيض الأولى(الإمبريالية)، «بنية رَفْضِيّة» للقوى الاجتماعية، لا تملك قدرة التعمية، ولو وهماً، عن تناقضاتها.
إذاً من الناحية الأولى: تكبح البنية «الإمبريالية الاستعابية» الوعي عن كشف عدائية النظام تجاهه، بل هو في عدائيته للنظام ينطلق مما هو مُحَصّل من حقوق ومكتسبات استوعبت الفرد ضمنها، وبالتالي إنّ هو احتج أو اعترض، فهو من المنطلق الإصلاحي للنظام نفسه عامة. وهي من الناحية الثانية: تَمنع المفكر الفرد من نقد وعيه موضوعياً، لكي يكسر حدود بنية وعيه المتشكلة في وضعية «استعيابية»، والتي لا يمكن لها التحرك خارج حدود البنية الاجتماعية التي هي فيها.

معنى هذا التمايز سياسياً
هذا التمايز لا يعني انعدام الأرضية الاجتماعية للتغيير في المراكز الإمبريالية، بل يعني تشوّه الصلة نسبياً ما بين النقمة الاجتماعية والرأسمالية نفسها، التي تجد تعبيرها مثلاً في قوّة أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الليبرالية، الجوهر، إصلاحية الخط، على حساب قوى اليسار الجذري حتى بعد اشتداد التناقضات في هذه الدول عموماً، وفي أكثرها أزمة كالأطراف الأوروبية (دون نفي الأطر الفاشية المتطرفة المنتعشة). ويعني أيضاً: أن تشكّل قوى اجتماعية، تشكّل عصب الأحزاب الجذرية يواجه كبحاً موضوعياً لإنتاج «المثقف العضوي» أو «الشخصية المكافحة» التي لا قيام للحزب دونها.
هذا ما نرى نقيضه في البنية «الرفضيّة» المنهوبة، أي: دولنا كمثال أساس، التي شكلت نقطة صهر التناقضات عالمياً في المرحلة الراهنة.
الرفض الذي يمارسه الواقع في اقتصاده وثقافته السائدة وعلاقاته بحق القوى الاجتماعية، أنتج تهميشاً واعياً وصريحاً غير قابل للتعمية، ومنع الوهم «الليبرالي» حتى من أن يعيش طويلاً، إلى حين انفجار التناقضات وإشعال الإمبرالية للحروب المتنقلة، بالتالي وقفت شعوبنا أمام واقعها بلا كرامة، ملغية القيمة الإنسانية.

المعنى العلمي لهذا التمايز    
إذا كان المعنى السياسي المذكور أعلاه أثبتته بالملموس الشعوب العربية في رفضها للنهب والتهميش من قبل أنظمتها، ومن آلية النهب الإمبريالية وفكرها الليبرالي، وأثبتته القوى السياسية التغييرية في شعاراتها كـ«كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار» مثالاً لحالة حزب الإرادة الشعبية في سورية، أو في لبنان مثال بروز شعار «قيمة المواطن، ومصير الوطن»- وإن كانت هذه الشعارات لم تستنفذ بعد إمكانها السياسي في التوجه للقوى المهمشة والبديل المطلوب تشكيله أيضاً- فإن المعنى العلمي لما سبق هو بالمباشر، ودون مبالغة: أن انتاجاً ماركسياً جديداً استكمالاً للعلوم الإنسانية الاجتماعية قد بدأ بالظهور، في أرض التناقضات المنفجرة، حول الإنسان في مرحلة ما بعد الرأسمالية، وحول بنيته في تناقضاتها وكيفية حلّها اجتماعياً عبر نظام عادل، ليس في توزيع الثروة فقط، بل في تنظيم جديد للعلاقات الاجتماعية، ما يمكن تسميته «التوزيع العادل للإدارة» أو ما سماه لينين «إشراك الجماهير في إدارة الدولة»،هذا الإنتاج الذي لا يزال خصباً وفي طور التبلور، وإن بنيتنا الاجتماعية هي أرض ولادة هذا الجديد العلمي السياسي.
إذا لم يكن لدى جيجك الكثير ليقوله، فعلى العكس، إن لدى شعوبنا الكثير مما تحتاج سماعه واعية بأزمتها، ولدى قوى التغيير الكثير لتقوله واعية بدورها، وهنا جمال اللّحظة والتناقض المأساوي في آن. إننا نعي مرورنا في عنق مرحلة تاريخية جديدة أمام الإنسانية والتاريخ ككل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
831