البؤساء: صدع استقلابي في مجاري باريس

البؤساء: صدع استقلابي في مجاري باريس

يحمل جان فالجان ماريوس الثوري الجريح عبر مجاري باريس في رواية «البؤساء». تحوي رواية فيكتور هوغو هجوماً لاذعاً على الهدر المديني الذي يسرق المغذيات من الأرض. وقد أسس نقده، مثله في ذلك مثل ماركس وانغلز، على عمل الكيميائي جوستوس فون لايبيغ

المقدمة بقلم إيان أنغوس
تعريب: هاجر تمام


في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر، قام كارل ماركس وفريدريك إنجلز بدراسة أعمال جوستوس فون لايبيغ، الكيميائي الألماني الذي كانت كتبه في الكيمياء الزراعية مؤثرة بشكل كبير في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية. وقد أعُجبوا بشكل خاص بتحليله لخصوبة التربة، حيث انتقد بشدة استخدام الأسمدة الصناعية والغوانو (سماد ذرق الطيور) المستوردة من بيرو، في حين يتم إلقاء مئات الأطنان من البراز البشري في الأنهار والبحر. وكما كتب ماركس في عام 1860: «ينتقد لايبيغ بحق الهدر الذي لا معنى له، والذي يسلب نقاء نهر التايمز ويسلب سماد التربة الإنجليزية».
وقد شكّل هذا «الصدع الذي لا يمكن إصلاحه في عملية الاستقلاب الاجتماعي المترابطة» الأساس لانتقاد الزراعة الرأسماليّة، ولإعطاء نقطة البداية النظرية لما بات يعرف الآن بنظرية الصدع الاستقلابي.
لم يكن ماركس وإنجلز هما الناقدين الاجتماعيين الوحيدين اللذين تبنيا آراء لايبيغ، وبنوا عليها بخصوص الزراعة والمجاري. لقد كان فيكتور هوغو أيضاً كذلك، والذي يعتبر على نطاق واسع بأنّه الروائي الفرنسيّ الأبرز في القرن التاسع عشر. إنّ كلمة الإيكولوجيا لم توجد في عصره حتّى، لكنّه ضمّن في رائعته لعام 1862 «البؤساء» ما يمكن أن يدعى بأنّه تحدٍ إيكولوجي لاذع للهدر الظاهر في ثاني أكبر مدينة في أوروبا: باريس. يستحق بيانه أن يُعرف بشكل أفضل بأنّه دعوة إلى مجتمع مستدام، وكطريقة لنقد الرأسماليّة الاجتماعية-البيئية اليوم.

الأرض يفقرها البحر
من البؤساء لفكتور هوجو: (الجزء الخامس، الكتاب الثاني، الفصل الأول)
تطرح باريس سنوياً 25 مليون في المياه. وهذا ليس مجازاً. كيف ذلك، وبأيّة طريقة؟ ليلاً نهاراً. وبأيّة أداة؟ دون أداة. وبأيّ قصد؟ دون قصد. لماذا؟ دون سبب. وباستخدام أيّ عضو؟ باستخدام الأمعاء. ما هي أمعاءها؟ قناة المجارير.
إنّ خمسة وعشرين مليوناً هو الرقم الأكثر اعتدالاً الذي اعتمده تقدير العلوم الخاصة.
العلم، بعد أن تطرّق للقضيّة لفترة طويلة، بات يعرف اليوم بأنّ أكثر الأسمدة إخصاباً وأكثرها فاعليّة هي السماد البشري. لقد عرف الصينيون، ودعونا نقولها ونحن نعترف بعارنا، هذا الأمر قبلنا. لا يوجد فلاح صيني، وذلك بحسب إيكبرغ، يذهب للمدينة دون أن يجلب معه أقصى ما يمكن حمله، في دلوين معلقين بالخيزران، ما نسميه اليوم بالقذارة. ولا تزال الأراضي الصينيّة بفضل الروث البشري فتيّة كما في أيام إبراهيم. ينتج القمح الصيني مائة ضعف من البذور.
 ليس هناك روث قابل للمقارنة من حيث الإخصاب مع ما يتم طرحه في العاصمة. المدينة الكبيرة هي أهم صانع روث. سيتمّ تحقيق نجاحات أكيدة فيما لو تمّ توظيف المدينة لتسميد الأراضي. إن كان ذهبنا روثاً، فمن جهة أخرى إنّ روثنا ذهب.

ما الذي يتم فعله بالسماد الذهبي؟
يتم رميه في هوّة سحيقة

يتم إرسال أساطيل السفن، وبتكلفة عالية، لجمع روث طيور النوء والبطريق في القطب الجنوبي، ونرسل العنصر الذي لا يقدّر بثمن الذي في متناول اليد إلى البحر. لو أنّ جميع السماد البشري والحيواني الذي يهدره العالم يتمّ استرجاعه إلى الأرض بدلاً من رميه في المياه، لكان لدينا ما يكفي لإطعام العالم.
أكوام القذارة المكدسة عند البوابات، وعربات الطمي التي تعبر الشوارع في الليل، والعربات الرهيبة لدى إدارة البلدة، والقطرات كريهة الرائحة التي تدلف من مستنقعات تحت الأرض والتي تخفيها الأرصفة عنك. هل تعلم ما هي؟ إنّها الروض في الزهرة، والعشب الأخضر، والزعتر البري، السعتر والميرمية، إنّها الطرائد، إنّها قطعان الماشية، إنّها خوار الثيران الراضية في المساء، إنّها رائحة القش، إنّها القمح الذهبي، إنّها الخبز على مائدتك، إنّها الدم الدافئ في عروقك، إنّها الصحّة، إنّها المرح، إنّها الحياة. إنّها إرادة الخلق العجيبة التي تمثّل التحوّل على الأرض، والتجلّي في السماء.  
استعدها إلى البوتقة الكبرى. ستتدفق وفرتك منها. ما يغذي السهول سوف ينعش ما يغذي البشر.
يمكنك أن تختار خسارة هذه الثروة، وأن تعتبرني سخيفاً بما أضيف، لكنّ هذا سيشكل تحفة جهلك.
قدّر الإحصائيون بأنّ فرنسا وحدها تتخلّص من نصف مليار كلّ عام، وذلك في الأطلسي عبر فوهات أنهارها. لاحظ هذا: يمكننا أن ندفع ربع نفقات ميزانيتنا بخمسمائة مليون، يتجلّى ذكاء الإنسان في أنّه يفضّل التخلّص من الخمسمائة مليون هذه في المزراب، نقطة بعد نقطة، وموجة بعد موجة، لتمضي بائسة في قنوات المجاري إلى الأنهار، ولتمضي مجموع أنهارنا الضخمة إلى المحيط. تكلفنا كلّ نضحة من قنوات مجارينا ألف فرنك. يمكننا استنتاج شيئين من هذا الشرخ: أنّ الأرض يتمّ إفقارها، وأنّ المياه يتمّ تلويثها. فينشأ الجوع من التخلخل، والأمراض من التيار.
على سبيل المثال: من المعروف بأنّ نهر التايمز يسمم لندن في الوقت الحالي.
وبقدر ما يتعلق الأمر بباريس، فقد أصبح من الضروري نقل معظم فوهات المجارير إلى أسفل التيار التحتي، تحت الجسر الأخير.
إن الجهاز المزدوج الأنبوبي، المزود بالصمامات والموقفات، يستقبل ويرد. نظامٌ للتصريف الأولي، بسيطاً مثل رئتي رجل، والذي يعمل بالفعل بكامل طاقته في العديد من المجتمعات في إنكلترا، سيكفي لنقل ماء حقولنا النقي إلى مدننا، وثمّ إعادة مياه المدينة الغنيّة إلى الحقول من المدينة. وهذا التبادل البسيط، الأبسط ربّما في العالم، من شأنه أن يحتفظ لنا بخمسمائة مليون نرميها الآن. الناس يفكرون في أمور أخرى.
إنّ الأسلوب الحالي يؤذي من حيث يحاول أن يفيد. القصد جيّد، ولكن النتيجة تعسة. إنّ الناس يحسبون أنّهم يطهرون المدينة، فإذا بهم يُسقمون السكان

تتدفق الثروة العامّة إلى النهر
تقوم العملية المستخدمة الآن بفعل شرّ رغم قصدها الخيّر. النيّة حسنة، والنتيجة كئيبة. أثناء التفكير بتطهير المدينة، يتم إغراق السكان كأنهم نباتات نمت في السراديب. قنوات المجارير خطيئة. فعندما يستطيع جهاز التصريف في كل مكان القيام بوظيفته المزدوجة، بحيث يعيد ما يأخذ، يمكنه أن يحلّ محل المجارير – والتي تقوم بعملية غسيل مفقرة ببساطة، ثمّ، وبالعمل باستخدام بيانات الاقتصاد الاجتماعي الحاليّة، فستتمّ مضاعفة إنتاج الأرض عشر مرّات. وستضحي مشكلة البؤس خفيفة بشكل فريد. أضف إلى ذلك قطع دابر التطفل، وستكون المشكلة قد انحلت.  
في هذه الأثناء تتدفق الثروة العامّة إلى النهر، ويحدث التسريب. إنّ الكلمة هي التسريب. يتم تدمير أوروبا بهذه الطريقة عن طريق استنزافها.
بالنسبة لفرنسا، فقد أشرنا إلى الرقم الذي تخسره. الآن، تضمّ باريس ربع مجموع سكان فرنسا، ولمّا كان الروث الباريسي هو الأغنى من بين الكل، فلسنا نعدو الصواب عندما نقدّر الخسارة من جانب باريس بخمسة وعشرين مليون من أصل نصف المليار التي تطرحها فرنسا سنوياً. الخمسة وعشرون مليوناً هذه، والتي يتمّ توظيفها في المتعة والمساعدة، ستضاعف من رونق باريس. لكنّ المدينة تنفقها في المجارير. إذاً يمكننا أن نقول بأنّ تبذير باريس الكبير ومهرجانها الرائع وحماقتها «البوجونية» (نسبة إلى بوجون المالي الفرنسي الذي سميت أحد أحياء باريس باسمه) وانغماسها بالملذات وسيول الذهب المتدفقة من راحتيها المبسوطتين وأبهتها وترفها وروعتها، جميع ذلك هو نظام مجاريرها.
وهكذا، وبعمى اقتصاد سياسي رديء، نغرق رفاهية الجميع ونجيز للهوّة السحيقة أن تبتلعها، فتغيب في الأعماق. يجب أن تكون هناك شباك في «سانت كلاود» للثروة العامّة.
ويمكن من الناحية الاقتصادية اختصار هذه الواقعة على النحو التالي: باريس هي سلّة مثقوبة. إنّ باريس، تلك المدينة النموذجية، والمثال للعواصم الراقية التي يحاول كلّ شعب أن يمتلك واحدة منها، الحاضرة المثالية تلك، الموطن الفخم للمبادرة وللدفع قدماً وللجهود، مركز ومسكن العقل، تلك المدينة الأمّة، الخليّة المستقبلية تلك، المزيج العجيب من بابل وكورنثية، إنّها تستحق من وجهة النظر هذه بأن تجعل فلاحاً من «فو-كيان» يهزّ كتفيه شذراً.

قلّد باريس، وسوف تدمر نفسك
علاوة على ذلك، وبصفة خاصة في هذه النفايات الغامضة عديمة الجدوى، تسعى باريس نفسها للتقليد.
ليست هذه الحماقات المذهلة بجديدة، فليس هناك غضاضة في هذا الحمق. لقد تصرّف المحدثون تصرّف القدماء. يقول لايبيغ: «كانت مجارير روما تمتصّ كامل رفاه الفلاحين الرومان». وعندما دمرت مجارير روما السهل المنخفض المحيط بروما، استنزفت روما إيطاليا. وعندما وضعت المجارير في إيطاليا، عادت فأفرغتها في صقلية، ثمّ سردينيا، ثمّ إفريقيا. لقد امتصّت مجارير روما العالم، لقد أظهرت هذه المجارير شراهتها في المدينة وفي كامل الأرض... مدينة خالدة، ومجارير لا يمكن استيعابها.
وتعتبر روما في هذه الأشياء، شأنها في ذلك شأن أشياء أخرى، قدوة للآخرين.
وتتبع باريس هذه القدوة بكلّ البلاهة التي تتميّز بها المدن العبقرية.
ولتلبية متطلبات العملية التي شرحناها للتو، تقوم تحت باريس مدينة باريس آخرى. باريس المجارير، حيث لها شوارعها ومفارقها وساحاتها وأزقتها المغلقة وشرايينها ومواصلاتها، والتي تتشكل من مستنقع ينقصه الشكل البشري.
ولأنّه لا يجب علينا أن نوجّه الإطراء جزافاً، ولا حتّى لشعب عظيم، حيث مقابل كلّ جانب من جوانب الرفعة آخر يحمل الخزي. وإن كانت باريس تحتوي بداخلها على أثينا مدينة النور، وصور مدينة القوّة، واسبارطة مدينة الفضيلة، ونينوى مدينة الأعاجيب، فإنّها تحوي أيضاً على «لوتيتيا» مدينة الوحل.
علاوة على ذلك فإنّ خاتم قوتها هناك أيضاً، وبالوعة غرق باريس تحقق أيضاً، من بين بدائعها الأخرى، المثل الأعلى العجيب الذي تحققه الإنسانية، عبر رجال مثل مكيافيلي وبيكون وميرابو
إنّ باريس القابعة تحت الأرض، إن استطاعت العين أن تخترق السطح وتراها فهي أشبه بعرق لؤلؤة هائلة. وليس حتّى في الإسفنجة ما يكفي من الثقوب والممرات لتجاوز ما في متراس يبلغ مداه ستّة فراسخ، تقوم عليه المدينة العظيمة العتيقة. وبصرف النظر عن السراديب تحت الأرض، التي يفصل بين كلّ منها كهف، وبصرف النظر عن شبكات أنابيب الغاز المعقدة، ومن غير أن نذكر الجهاز الأنبوبي الهائل الذي يوزع المياه العذبة التي تصل الصنابير، فإنّ المجارير وحدها تشكّل عقدة عجيبة داكنة تحت الضفتين، متاهة مفاتيحها في انحدارها.
هناك يظهر، في العتمة الرطبة، الجرذ، والذي يبدو وكأنّه مولود باريس وثمرتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
818