الخط المادي في البيولوجيا
في كتابه البحث العلمي والصراع الفلسفي في البيولوجيا الصادر عن دار الفارابي، يتحدث الكاتبان أ.ي. إيلين وإ.ت. فرالوف عن خطر الميكانيكية وضرورة الديالكتيكية.
يشهد تاريخ البيولوجيا بإصرار على أن بحوث العلماء، واضعي أسس الحياة، تتسم في كل المراحل بنزوع واضح نحو فهم مادي للطبيعة. وفي هذا يكمن تميز أي من التصورات، الواقعة ضمن إطار العلم، والحائزة على القيمة الواقعية للحقيقة الموضوعية عن طائفة الأساطير المنبثقة خارج حدود الاتصال البحثي بالطبيعة.. أي خارج حدود التجربة والاختبار. لذا فإن الخط المادي في البيولوجيا يشكل القاعدة الأمتن لعلم الحياة، بل «العصب الحيوي» الرئيسي، الذي يضمن للبيولوجيا القيام بوظيفتها الطبيعية ويجعلها علماً على العموم.
تَقَدّم البيولوجيا- هو نمو وتصلب الخط المادي، هو إشباعها بمضامين أعمق وأكثر تعدداً لوجوهها، مما يتطابق مع ذلك التقدم الذي نطلق عليه تسمية: إضفاء طابع الديالكتيكية على المعرفة (Dialectcization).
تغييب الديالكتيكية
في تغييب الديالكتيكية، منهجاً فلسفياً واعياً، يغدو بوسع المهاترات الميكانيكية أن تغلب الخط المادي في البيولوجيا على أمره، وأن تصعّب معرفة جوهر الحياة وقوانين الطبيعة الحية.
وبالطبع، فإن اصطلاح «الميكانيكية» (Mechanicism) أو حتى «الميكانيكية المحدثة» (Neomechanicism)، لا يعكس بدقة تامة طبيعة تلك الظاهرة التي يعنيها. فالحديث في العصر الراهن، بقسمه الأكبر، لا يجري عن إرجاع العمليات والأنظمة البيولوجية (biological Systems) إلى قوانين الميكانيكا. إلا أن اصطلاح الميكانيكية بات اصطلاحاً تقليدياً يحمل في ذاته المضمون الرئيسي التالي: اللاديالكتيكية و«إعادة التبسيط» الميتافيزيقية للظواهر مع إسقاط مميزتها الكيفية. لا عجب أن هذا المضمون لا يزال محتفظاً بقوته حتى يومنا هذا.
الميكانيكية المعاصرة
تتبدى الميكانيكية المعاصرة بأشكال متعددة، مما يسبب تلك الصعوبات التي تعانيها الأبحاث في العديد من المسائل البيولوجية. ويتكشف ظهورها أيضاً في طائفة من التعليقات المتوسعة على نتائج الأبحاث الفيزياكيميائية للأنظمة الحيوية وفي محاولات لإضفاء طابع شمولي عليها.
كما وتتكشف الميكانيكية كذلك في محاولات تفسير كلي للعمليات البيولوجية وتعليلها بعمليات ميكانيكية كمية، وبمقاربات كمية تجميعية خالصة في النظر إلى الكلية العضوية على مختلف مستويات تنظيمها البنيوي (Structural Organization)، وفي إطلاق النمذجة السيبرنيتيكية (Modelzation)، وفي محاولات تمثيل عمليات الأجهزة المنمذِجة بالعمليات البيولوجية.. إلخ.
الميكانيكية المحدثة
أما الميكانيكية المحدثة فتظهر، في مسألة الحتمية (الجبرية) العضوية (Organic Determinsm) للنظم الحيوية بعلاقات الأخيرة مع البيئة المحيطة، بإطلاقها لا محدودية وصدفية وإحصائية التغيرات الوراثية، كما بإضفاء طابع شمولي على تناسبها ونزوعاً نحو التكيف، وتتجلى أخيراً الميكانيكية المحدثة في نفيها للإحصائية ذات الطبيعة الموضوعية. ففي هذه الحالة ينظر إلى النظم الحيوية على أنها «مادة طيعة» سلبية، ذات قدرة على تشكيل تأثيرات فاعلة موجهة للظروف البيئوية، علماً بأن الانتخاب الطبيعي (Natural Selection) هنا لا يتم نفيه، على الأقل بالكلمات، ولكنه من ناحية ثانية يُردّ في الواقع إلى أصل أو إلى ما (Rudiment). هذه التصورات، التي هي في جوهرها ميكانيكية – لاماركية، تنطلق منهجياً من تباين الكائنات الوراثي (Genetic Variability) المحدد بشكل صارم دائماً. فاللاتحديدية، المستندة إلى دخول الميول الصدفية موضوعياً، وغير المعنية مباشرةً واللامتماثلة من حيث القيمة بالظروف البيئوية، في كتلة العوامل التي تفسر نتائج التباين، هذه اللاتحديدية تعتبر في ضوء التصورات الميكانيكية- اللاماركية فقراً أو «عقبة» مؤقتة على طريق تحول البيولوجيا إلى علم دقيق. ولربما لهذا السبب استطاعت المعادلة الغريبة: «العلم هو عدو الصدفة»، أن تنتشر انتشاراً واسعاً في البيولوجيا.
لجم نظرية المعلوماتية
لقد أدى التقويم المزيف لهذه المعادلة، إلى كبح إمكانية استعمال الطرق الرياضية- الإحصائية في البيولوجيا، وبالتالي إلى لجم نظرية المعلوماتية. أضف إلى ذلك استعمال الطرق المذكورة بهدف دراسة العمليات البيولوجية، ذات الطبيعة الإحصائية، أعلن ببساطة «لا علموياً» و «أوهاماً» رياضية فوق ذلك!.
«بنية المادة الواحدة»
إن واحدة من النقائص الكبيرة في المقاربة الميكانيكية تكمن في أنها أرجعت المادة إلى عناصر أو بنى بسيطة أو آلية لكل ما هو موجود. وهكذا، فقد جرت هنا مشابهة مبدأ وحدة العالم المادية بموضوعية وجود «بنية المادة الواحدة» النهائية. لقد تم النظر إلى «بنية المادة الواحدة» على أنها جوهر (Substania) مكتمل، وزعمت وحدة العالم ليس إلا توحد هذا الجوهر. فالبحث عن «بنية العالم» النهائية أدى إلى تفسير الاختلافات الكيفية باختلافات محض كمية، تتكون من جزيئات دقيقة متماثلة.
ورغم ما ذكرناه كله، لا يمكن اعتبار المفاهيم الميكانيكية، المبنية على افتراض الأشكال العليا للحركة تعقيدات كمية لما هو متدنٍ تياراً فلسفياً مستقلاً بذاته. فهذه أو تلك من الانحرافات الميكانيكية الناشئة في ميدان البيولوجيا، هي عادة، مرتبطة بالابتعاد عن الخط المادي السياسي في علم الحياة.
فمن حيث المبدأ مثلاً ليس ثمة تناقض بين الافتراضات حول وجود وحدات «وراثية» متكوننة، والتي طالعتنا بها بدايات القرن الماضي، وبين منهجية المادية الديالكتيكية.
فقد جرى الحديث عن التفتيش عن قوننات العلاقات المتبادلة بين هذه الوحدات من جهة، وبين تلك الصفات أو الخصائص في الكائن، والتي تظهر نفسها على نحو استقلالي ذاتي، ذلك أن كشف النقاب عن القوننات كان بمثابة التأكيد على مقاربة مسائل علم الوراثة من وجهة نظر مادية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 799