مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية
في كتابه المعنون مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية – محافظة الحسكة-الصادر عن مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري، يستحضر الباحث الأثري عبد المسيح حنا بغدو، أهم المحطات فيه فيقول:
مائة وخمسون عاماً مضت على الأعمال الأثرية التي تمت في محافظة الحسكة منذ عام 1850 وحتى يومنا هذا ونحن لا نملك عملاً جامعاً عن نتائج تلك الأبحاث، باستثناء بعض المواضيع الأثرية الصغيرة التي تم التطرق لها بشكل جزئي، لذلك كان الهدف ايجاد عمل جامع عن نتائج الأبحاث الأثرية التي جرت في الجزيرة السورية، من خلال دراسة العمل الأثري في هذه المنطقة، ومساره فيها بشكل متدرج، مع إبراز نتائج التطور الحضاري اعتماداً على الاكتشافات التي توصلت إليها أعمال التنقيب الأثري، ودراسات الباحثين والعلاقة الوثيقة فيما بينهما.
تطور علوم الآثار الشرقية
برزت أهمية المنطقة مع تطور علوم الآثار الشرقية، حيث كثرت الاكتشافات الأثرية المهمة فيها، وانتشرت بسرعة فائقة منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن.
لقد بينت الأبحاث الأثرية الحديثة وجود مؤشرات لتواجد الإنسان في الجزيرة السورية منذ بداية العصر الحجري القديم الأدنى «الثقافة الآشولية »، أي منذ حوالي 200000 سنة) خلت، وتطوره في العصر الحجري القديم الأوسط «الثقافة اللفلوازية - الموستيرية» والعصر الحجري القديم الأعلى، وذلك من خلال العثور على العديد من الأدوات التي استخدمها الإنسان خلال تلك العصور في موقع «خزنة» المتموضع في منطقة «جبل عبد العزيز» غرب مدينة الحسكة بمسافة٤٠ كم.
كما دلت المكتشفات الأثرية في العديد من المواقع على أن أول استقرار بشري في هذه المنطقة يعود إلى الألف الثامن ق.م (العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار)، وإشادته القرى خلال فترة حسونة وفترة سامراء، وازدهاره في فترة ثقافة حلف التي نسبت إلى موقع « تل حلف» العائد لمحافظة الحسكة والذي أصبح مصطلحًا يستخدم في التحديد التاريخي لعصور ما قبل التاريخ في جميع أنحاء المشرق العربي جميعها، وفي فترة عبيد، وفترة أوروك.
واستمر الاستقرار في الجزيرة السورية خلال العصور التاريخية، وبلغ أوج ازدهاره ببروز حضارات متعددة، ونشوء الممالك والمدن فيها، وكان من هذه الحضارات «الأكادية والآشورية والبابلية والحثية والحورية - الميتانية والآرامية» كما استضافت هذه المنطقة كلاً من الحضارة «الفارسية والإغريقية والرومانية والبيزنطية».
وأصبحت مدن الجزيرة السورية من المراكز التجارية والاقتصادية المهمة خلال فترة الحضارة العربية الإسلامية. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي أثّر الغزو المغولي بشدة على هذه المنطقة، ثم عانت من الدمار على يد جيوش «تيمورلنك» التي اجتاحت الجزيرة السورية في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ومن ثم أهملها الأتراك طيلة فترة الحكم العثماني لتعود إليها الحياة مرة أخرى في بداية القرن العشرين.
مناطق حضارية متطورة جداً
لقد أثمرت جهود البحث الأثري في المواقع التي تم التنقيب فيها في الجزيرة السورية /محافظة الحسكة/ بشكل عام، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل خاص، عن وجود مناطق حضارية متطورة جداً، وأكدت أن شمال بلاد ما بين النهرين هي من أهم المناطق التي تطورت فيها الزراعة، وتربية الحيوانات، ومن هنا بدأت مرحلة حضارة المزارعين الأوائل الذين قدموا أهم خطوة في تطور اقتصاديات المجتمع، التي تعتمد على الزراعة والتجارة وتبادل المواد الأولية. وأثبتت أيضًا أن الجزيرة السورية لا تقل أهمية عن شرق وجنوب بلاد الرافدين وذلك من حيث الدور التاريخي الذي لعبته هذه المنطقة في عصور مختلفة.
وخير دليل على ذلك ما قدمه لنا تل سكر الأحيمر الذي يعتبر أول نموذج للاستيطان في الجزيرة السورية يرقى إلى العصر الحجري الحديث - ما قبل الفخار - حيث تمثل بوجود منشأة سكنية احتوت على غرف مستطيلة، وأفران، ومواقد. وأظهر تل بويض الدور الذي لعبته هذه المنطقة خلال فترة حسونة بين الحضارات السورية الشمالية والرافدية، من خلال المنشآت المعمارية العائدة إلى تلك الفترة.
كما بينت الاكتشافات الأثرية في تل شاغر بازار، وتل أم قصير، وجود أبنية دائرية الشكل )تولوس(، ولقى أثرية تعود إلى فترة حلف. وأظهرت التنقيبات في تل بيدر وتل مشنقة، وتل زيادة، استمرار الاستقرار في الجزيرة السورية خلال فترة عبيد، وذلك من خلال المنشآت السكنية التي كشف عنها.
كما أكدت الشواهد المعمارية من مباني مراكز لنشاطات حرفية، وصناعية في تل براك، وتل حمو كار، ازدياد حجم الاستيطان في هذه المنطقة خلال فترة أوروك.
وبينت أعمال البحث الأثري أن سهول الخابور شهدت مع بداية الألف الثالث ق.م نهضة سكانية وعمرانية واسعة، ففي النصف الأول منه ظهرت المعابد بشكل كبير، ومن أهمها معبد تل خزنة، ومعبد تل كشكشوك، وفي النصف الثاني من الألف الثالث ق.م نشأت المدن والممالك القديمة كمدينة (ناكار) تل براك، و(نابادا( تل بيدر، و(أوركيش) تل موزان، وأنه مع بداية هذه الألفية حدثت تبدلات هامة في أنماط الاستيطان ليتراجع بعد ذلك الاستقرار في حوض الخابور.
وأكدت الاكتشافات الأثرية في العديد من المواقع كتل شاغر بازار، وتل محمد دياب، وتل عربيد، عودة الاستقرار وبقوة إلى هذه المنطقة في الألف الثاني ق.م، وتطورت المدن كمدينة (شوبات إنليل)تل ليلان، و(كحت)تل بري، و(تائيدو) تل الحميدية، و(تابيتو) تل طابان، واستمراره خلال الألف الأول ق.م بازدهار المدن والممالك كمدينة (شاديكاني) تل عجاجة، ومملكة (جوزانا) تل حلف، و(سيكاني) تل فخيرية.
كما أظهرت التنقيبات في عدة مواقع كتل بيدر وتل بري، وتل تنينير، وجود استيطان يعود إلى فترة الحضارة الأخمينية - الهلنستية، والفترة البارثية- الرومانية، والفترة البيزنطية - الساسانية.
كما بينت الأبحاث الأثرية في تل تنينير، وتل غويران، وتل فخيرية، وتل بري مقدار ازدهار الجزيرة السورية خلال فترة الحضارة العربية الإسلامية. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي وإثر الغزو المغولي لهذه المنطقة عانت الدمار على يد جيوش تيمورلنك في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، وتراجع الاستقرار فيها خلال فترة الحكم العثماني، لتعود إليها الحياة مع بداية القرن العشرين.