أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية (الحلقة الرابعة)

أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية (الحلقة الرابعة)

وصلنا في الحلقة الماضية إلى منعطف أساسي في السجال بين «الجبرية» التي تنكر وجود المصادفة، و«الحتمية» التي تقرّها. ذلك المنعطف هو فهم كلّ من الاتجاهين للقانون العلمي..

 

إذا كان كل من الاتجاهين «الجبري» و«الحتمي»، يعترف بالقانون العلمي/ الموضوعي، فإنّهما يختلفان في عمق فهمها له.

إنّ القانون كما أشرنا سابقاً ليس إلّا «الصيغة/ الشكل» التي تعبر عن علاقة مكونات الظاهرة مع بعضها بعضاً، عن «المضمون/المحتوى»، وهذا المضمون هو الأكثر حركةً والأكثر دينامية، في حين أنّ الشكل أقل حركة وأبطأ تغيراً.. إنّ هذا التفاوت بين «المضمون/ المحتوى» وبين «الصيغة/ الشكل» ينبع أساساً من لانهائية مكونات المضمون. ولمّا كانت هذه المكونات لانهائية ومتحركة بشكل دائم، فإنّ «القانون/ الصيغة/ الشكل» ليس إلا تعبيراً مؤقتاً وجزئياً عن طبيعة المضمون، هو تعبير جوهري بلا شك عن نوعية الظاهرة المعنية، لكنه أيضاً تعبير مؤقت وجزئي، لأنّ النوعية نفسها، التمايز النوعي لظاهرة من الظواهر، ليس إلا حالة سكون نسبي مؤقت لها، وليس إلّا تعبيراً عن الجوانب الأكثر ثقلاً ضمن الظاهرة لا عن مختلف جوانبها، والأصل في العلاقة بين مكونات الظواهر هو صراعها وتناقضها، لا وحدتها، تلك الوحدة التي تمثل استقراراً نسبياً ضمن حدود تغيّر تسمى (المقياس، أو الحد)، الاستقرار النسبي الضروري من أجل التمايز النوعي.

الجبرية = قانون القوانين

إنّ افتراض صحة «الجبرية» يقود كما أشرنا في حلقات سابقة إلى حيث ذهب لابلاس وديكارت من أنّ كل شيء يسير في طريق محدد سلفاً، كما لو كان هذا الطريق مرسوماً مسبقاً في «لوح محفوظ». أهم من ذلك أنّ الجبرية تعني في العمق وجود قانون كلّي يجمع مختلف القوانين كمتحولات ضمنه، ولما كانت الظواهر لا متناهية ومتغيرة أبداً، ظواهر تختفي وأخرى تولد، فإنّ «قانون القوانين» المفترض هذا هو نفسه قانون متغير! تتغير متحولاته وتناسباتها ودرجة تدخلها في الناتج النهائي- الواقع، وهذا يتناقض مع مفهوم القانون نفسه. فالقانون يربط بين متحولات ثابتة نوعياً ومتغيرة كمياً، ولكن في حالة قانون القوانين فإنّ المتحولات- القوانين، متغيرة لا كمياً فقط بل ونوعياً. أي أنّ القول بقانون القوانين هو قول سكوني يصلح للحظة عابرة واحدة زمنها صفر، ومرة أخرى فهو بذلك يتناقض مع مفهوم القانون لأنّ القانون تعميم للتجربة يسمح بالتنبؤ الصحيح بالتجربة اللاحقة، أي بالتكرارات اللاحقة، وإن فقد قدرته هذه، وأصبح قانون اللحظة الواحدة، فهو لم يعد قانوناً ولم يعد تعميماً بل تحول إلى تجربة واحدة فقط لا يمكن تعميمها..

«المصادفة»

إنّ درجة تعقيد الظواهر النابعة من لانهائية جوانبها، ومن موت جوانب وتخلق أخرى بشكل دائم ومستمر، يترك مكاناً واسعاً للمصادفة، بوصفها تلاقياً لمجموعة من الضرورات في لحظة معينة، تلاقي تلك الضرورات قد يغير قانوناً قائماً! من ذلك مثلاً الطفرات البيولوجية وغيرها.

«قانون كل شيء»

نستطيع تتبع الجبرية العلمية، التي يمكن أن توصف بأنها مدرسة تقدس القوانين، في الفيزياء الحديثة بالطرح القائل بضرورة البحث عن «قانون كل شيء» المعني بالربط بين القوى الأربع الأساسية كما أشرنا سابقاً.

إنّ ما يلفت الانتباه في هذا الطرح، هو أنّ من يقدس القانون العلمي وينفي المصادفة خارج السياق العلمي، إذ يلغي المصادفة إنما يلغي القانون نفسه! فحين لا يوجد مكان للمصادفة، فإن القانون يتحول من تعميم نظري إلى توصيف لحظي تجريبي لا يستند إليه ولا يعود قانوناً بالتالي..