بيزنس العلم!

بيزنس العلم!

من الشائع أن الرأسمالية تطور العلم وتدفعه إلى الأمام، بدلالة أن الغرب الرأسمالي هو مركز التطور العلمي، ففيه تتركز آخر الأبحاث، والاختراعات العلمية، ومنه تتوزع على العالم، وبشيء من التدقيق، يلاحظ المتابع خطل هذه الفكرة، من جهة وظيفة العلم الأساسية، ومبرر وجوده التاريخي، والتي تتجسد في كونه أداة لتلبية حاجات الإنسان المتنامية باستمرار. 

 

اشك أن الرأسمالية في عملية تطورها التاريخي، طورت أدوات الإنتاج تطويراً هائلاً، ولا شك أيضاً أنه في حضن المؤسسة الرأسمالية تتطور بعض مجالات البحث العلمي بقفزات متسارعة، ولكن هذا التطور كله يبقى تطوراً متحكماً به، ومحكوماً بالقوانين السائدة في الاقتصاد الرأسمالي... كالربح – الاحتكار، وبالتالي فإن «صاحب الجلالة»، رأس المال- الغرب، ورغم مساهمته في عملية تطور العلوم، إلا أنه في الوقت نفسه يساهم أيضاً في الحد منها، فالتطور العلمي رأسمالياً، تركز في تلك المجالات الأكثر ربحية، والهدف كان الربح أولاً وقبل أي اعتبار آخر، وبقي المنجز العلمي كتحصيل حاصل في سياق البحث عن الربح الأعلى، حيث يتم توظيف الرساميل في قطاعات دون غيرها، ليكون نمط التمويل ومجالاته بذلك، عائقاً أمام تطور الاكتشافات العلمية في مجالات أخرى، غالباً ما تكون أكثر أهمية للجنس البشري.  

حسب التقارير المعتمدة من المؤسسات الدولية، يقدر النمو في أدوية علاج السمنة المفرطة من حوالي 300 مليار إلى 380 مليار دولار بحلول 2018, بينما سوق مرض السكر والمقدر حجمه بـ 37 مليار دولار سيبلغ في نفس العام 57 مليار دولار.

في  الوقت نفسه كان لدينا عام 2012, 207 مليون حالة ملاريا تقتل حوالي 527 ألف إنسان الغالبية الطاغية منهم أفارقة يبلغون من العمر دون الخمس سنوات. ومع هذا فإن أربعة أضعاف التمويل المقدم لعلاج الملاريا قد أنفق على إجراءات جراحية لعلاج تساقط الشعر سنوياً. وحتى عندما نجد العلاج, فإن دافع الربح يمنع وصوله إلى من يحتاجونه. وفي مثال آخر، يعد السل من الأمراض التي عولجت مبكراً نسبياً, فإنه ينتشر بمعدل يزيد 100 مرة في المناطق التي ترتفع فيها تكلفة حماية الملكية الفكرية مما يجعل الوصول إليه مستحيلاً. لكن حافز الربح العالي ليس بكاف حتى لضمان جودة الدواء, حتى لأولئك اللذين يمكنهم دفع ثمنه. ففي ناظري البزنس: مزيد من الربح أفضل دوماً. ولو أخذنا مثالاً آخر، شركات الأدوية التي تنفق الكثير على الأبحاث وتطوير الدواء لتسويقها والكسب من ورائها وتتجاهل تماماً الأبحاث التي قد تمكّنها من القضاء على الأمراض.

وعدا عن ذلك فالرأسمالية تصرف مبالغ طائلة على أبحاث علمية تخدم أهداف شركات محددة، وإن تعارضت مع مصالح غالبية البشر، مثال على ذلك مليارات الدولارات التي تنفق على تطوير الأسلحة رغم ما تجلبه الحروب من كوارث.

المظهر الآخر من مظاهر كون الرأسمالية عائقاً أمام التطور العلمي الأفقي، هو الاحتكار، الذي يأخذ منحيين أساسيين  في عالم البيزنس:

* المنحى الأول: هو التحكم بالمنجز العلمي نفسه، عبر تحديد توقيت ومكان توظيفه صناعياً، بحيث تكون الأولوية لما يحقق الربح، فالكثير من الأبحاث التي استحوذت عليها المؤسسات الرأسمالية بقيت حبيسة الأدراج، رغم أهميتها بالنسبة للمجتمع البشري، حتى يحين توقيت ومكان استثمارها الذي يؤمن المزيد من الريعية. 

* المنحى الثاني: التحكم بمخرجات هذا المنجز العلمي، والتحكم بالعرض والطلب، وتالياً التسعير، ما يحجب هذه المخرجات عن قطاعات واسعة في أصقاع العالم، وما يمنع أيضاً عملية التفاعل بين المنجزات العلمية عالمياً. تتعدى عملية الحجب هذه مسألة الامتداد الأفقي الجغرافي إلى جانب آخر ربما يشكل خطراً أكبر، وهو مسألة الامتداد الأفقي الرابط بين العلوم نفسها.. فالرأسمالية بتحويلها الإنسان إلى ملحق بالآلة المنتجة للبضاعة وللربح تالياً، قامت بتحويل العلم نفسه إلى ملحق بتلك الآلة. فالإنسان المعني بالإنتاج العلمي وتطويره، حين يتحول إلى صاحب تخصص أحادي الجانب بالمعنى العلمي يصبح مع الوقت، لا بوصفه فرداً، بل بوصفه مجتمعاً وإنسانية كاملة، يصبح عاجز عن وراثة درجة التقدم العلمي المحصلة على المستوى الشامل بين العلوم جميعها، ويصبح عاجزاً بالتالي عن إحداث خروقات كبرى على مستوى أي علم من تلك العلوم، والمعلوم أنّ الاختراقات الكبرى في العلوم غالباً ما كان ينجزها علماء موسوعيون، أو متعددو الاختصاصات.  

إن عملية «تسليع العلم» حولت عملية البحث العلمي إلى مجرد برامج صناعية وتجارية لرأس المال ما فوق القومي، وأدى ذلك إلى حدوث خلل بين جوانب التطور العلمي في مجالاته المتعددة وتكاملها، وتراجع البحث النظري، كنقطة استناد أساسية لتطور العلم، مما عطّل عملياً طاقات العقل البشري، التي يجب أن توظف بكليّتها في خدمة الانسان، كغاية أولى لكل نشاط إنساني عبر التاريخ.