العلم الأخضر

العلم الأخضر

في كتاب الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية الصادر في العام 2006 من سلسلة كتب عالم المعرفة (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت (يقدم مترجم الكتاب له فيقول: يعبِّر «اخضرار العلوم» عن تلوُّن العلوم الطبيعية بالمفاهيم والأفكار المستفادة من الإيكولوجيا، من جهة، وعن استعانة البحوث البيئية بهذه العلوم، من جهة أخرى. وقد تجلَّى هذا التعاونُ والتداخلُ في نشوء فروع وتخصصات علمية جديدة؛ فبدأنا نسمع، مثلاً، بـ«الكيمياء البيئية» و«الكيمياء الحيوية البيئية»، بـ«الزراعة الحيوية» و«الهندسة البيئية» و«الأبنية الخضراء»، وهلم جراً. لكن اخضرار العلوم، على أهميته، لا يكفي من أجل فهم الأزمة البيئية الراهنة، لأن العلوم الطبيعية وتقاطعاتِها الإيكولوجية تبقى محصورة في مستويي المادة والحياة، وعندما تبحث في علاقة الإنسان بالبيئة تنظر إليه ككائن حي (أي تبقى في مستوى الحياة)، فلا تُدخِلُ في منظورها القيمَ والأفكارَ التي يحملها الإنسان والتي توجِّه علاقاتِه وتفاعلاتِه مع ما حوله – مما يتطلب منها جميعًا الانكباب عليه إذا أردنا إحاطةً أشمل بالأزمة البيئية.

اخضرار الدراسات الإنسانية

من هنا يأتي «اخضرار الدراسات الإنسانية» ليستكمل تحليل الأزمة البيئية، فيتجلَّى في نشوء بحوث وفروع معرفية جديدة، تتداخل في إطارها العلومُ الإنسانية والمفاهيمُ الإيكولوجية. فنشأ، مثلاً، «علم النفس البيئي» و«الاقتصاد البيئي» و«التاريخ البيئي» والدراسات «اللاهوتية الإيكولوجية» Theoecology و«النقد الإيكولوجي» Ecocriticism وغيرها من الاختصاصات.

تشظي الحقيقة الإيكولوجية

هنا يطرح اخضرارُ العلوم واخضرار الدراسات الإنسانية نقطتين أساسيتين:

1.إن الأزمة البيئية تتسم بالطابع الشامل: فهي تتصل، اتصالاً مباشرًا أو غير مباشر، بميادين النشاط البشري، النظري والعملي جميعها.

2. إن الإمعان في تحليل الأزمة، الذي يترافق مع نشوء فروع معرفية كثيرة جديدة، يحمل معه خطر «تشظية» fragmentation الحقيقة الإيكولوجية وتبعيضها وإعادة إنتاج الموقف الاختزالي المضاد للإيكولوجيا (للمناخ الفكري الإيكولوجي، وليس فقط للإيكولوجيا كعلم) وللنظرة الكلاّنية holistic القابعة في صميمها.

هاهنا ينشأ مطلبٌ جديد من أجل وضع الكثرة من التحليلات والحقائق الجزئية في وحدة تجمَعُها، وذلك كمسعى يجدر بالفلسفة أن تتعهده بالرعاية و«تخضرَّ» به، لإيجاد مفهوم موحِّد يمتلك القدرة على تركيبsynthesize هذه المعارف الجزئية في حقيقة قابلة للتأمل والفهم، وبالتالي للنقد، بكلِّ ما ينطوي عليه النقدُ من احتمالات. ولعل مفهوم «النظرة إلى العالم» worldview قادر على تجسيد هذا المسعى: فهو مفهوم خصب، يشمل عناصر تجربتنا المعرفية والقيمية وما يرافقها من ممارسات ومواقف، إزاء أنفسنا وإزاء الآخرين من البشر أو غير البشر – أفراد المجتمع والكائنات الحية والبيئة والطبيعة عمومًا.

هل الفلسفة البيئية ترف؟

قد يرى بعض القراء أن الفلسفة البيئية، عمومًا، وبعض البحوث المرتبطة بها، خصوصًا (مثل البحث والتساؤل في مسألة حقوق الحيوانات والنباتات والمنظومات البيئية)، ربما تكون من قبيل الترف الفكري، أو على الأقل، ليست من القضايا الملحَّة علينا، نحن أبناء البلدان النامية الذين هم في أمس الحاجة إلى تلبية حقوق الإنسان الأساسية المتنوعة. في هذا الصدد، ينبغي أن نتذكر أن الأزمة البيئية هي أزمة مصير تخص الجنس البشري بأكمله، وليست حكرًا على فئة أو بلد أو شعب؛ ولذلك ثمة مصلحة مشتركة في البقاء، تتطلب تضافُر المنظورات الفكرية المختلفة في إطار بناء نظرة جديدة إلى العالم، لا تقتصر بالضرورة – ولا ينبغي أن تقتصر – على لون فكريٍّ واحد. كذلك فإن إن بقاءنا ومصيرنا، من جهة أخرى، مرتبطان ببقاء الكائنات الحية الأخرى ومصيرها، وكذلك باستمرار كوكب الأرض ومنظوماته مكانًا صالحًا للحياة. أبَعَدَ ذلك ثمة «ترف» إذ نتفكر في هذه القضايا؟!

تثير الفلسفة البيئية، إذ تنتقد الفكر الغربي (بل العقل الغربي) والحضارة الحديثة، التباسًا يجعل بعضهم يستنتج معاداةَ هذه الفلسفة للعقلانية Rationalism – ونحن نعرف ما حقَّقتْه البشرية عموماً بفضلها. ولعل هذا الالتباس يزول إذا ما تنبَّهنا إلى تاريخية العقل والحضارة على حدٍّ سواء، وبالتالي، إلى أن هذا النقد إنما هو خطوة أولى إذا ما أردنا بناء عقلانية جديدة متنورة بالمعرفة الإيكولوجية.

ما هو التقدم؟

يثير نقدُ فكرة «التقدم» progress، الذي يَرِدُ كثيرًا في الأدبيات البيئية، التباسًا مماثلاً. والحق أن النقد يتوجه إلى حصر مفهوم التقدم بالتقدم/التطور المادي–الاقتصادي (تقدم الإنتاجية productivity، وتعاظُم الاستهلاك، وتنامي استغلال الموارد الطبيعية وهدرها، والسعي الدؤوب للوصول إلى مستويات «عالية» من العيش، إلى آخر ما هنالك من الأفكار والممارسات السائدة في عصرنا الراهن). لقد آل هذا الأنموذج من التقدم إلى أن يصبح «تقدمًا» نحو الهاوية، تشهد عليه الأزمةُ البيئيةُ الراهنة. فهل يلام هذا النقد، وهو لا يبتغي إلا تأسيس «أنموذج» paradigm آخر جديد للتقدم تكون الحكمة – حكمة التفكير والتدبير – في أساسه؟