وجدتها: العلم والحقيقة
متى تبدأ علاقتنا بالعلم؟ يبدو من الصعب تحديد ذلك، فمن غير السهل فصل علاقتنا بالعالم عن علاقتنا بالعلم، فمن أول نملة تراقبها أعين طفل مشدوهة بهذا الكائن الصغير، يمكن أن تبدأ العلاقة، لكن تعزيزها حتماً يبدأ مع أول إدراكاتنا للمفاهيم العلمية، وتتحدد معظم هذه الإدراكات من خلال الوسيط الذي يقدم لنا هذا العلم وغالباً ما يكون معلم الصف في المدرسة، ما يطبع رؤانا العلمية الأولى بانطباعاته، -دون أن نتناسى دور الأهل بالطبع-، لكن أول المسائل العلمية الحقيقية التي تواجهنا، تكون حتماً مع دخول الجامعة، حينما تطرح الأسئلة الصعبة، وتتعلم منهجية البحث، مستعينا بمرشدين أساسيين هم أساتذة الجامعة، وقد تجد حلولها خلال الدراسة الجامعية وقد لا تجدها، مما يضعك في موقف البحث المستمر، حتى وإن وجدت الجواب الأول، فستدخل في دوامة البحث ولن تخرج منها لأن نشوة الأفكار ستظل تغريك بالتعمق والتوسع أكثر، وتتغير نظرتك إلى هذا العالم الممتع والمدهش، وما تزال تلك العيون المدورة لذاك الطفل المشدوهة بالنملة تطبع وجوه كل العلماء الحقيقيين.
في محاولات التهليل والتهويل بأننا نظهر الحقيقة ننسى أحياناً أن الحقيقة متكاملة، وأننا عندما نتغاضى عن أجزاء هامة من الحقيقة لأنها لا تناسب غاياتنا ومزاجنا، إنما نكون قد قدمنا نصف الحقيقة لا غير، وهي لا تشبه الحقيقة أبداً، لا في جوهرها ولا في شكلها، بل على العكس من ذلك فنحن قد اقتربنا بما لا يدع مجالاً للشك من خصمها وعدوها وهو الكذب، ولا يبرر ذلك الادعاء لا بحسن النوايا ولا بنقص المعرفة، وهو في هذه الحالة أمر وأدهى، لأنك إن لم تتحر بما فيه الكفاية فلا تدّع بأنك تعرف الحقيقة، فللحقيقة عدة جوانب منها المضيء والمناسب للغايات، ومنها المرير والأليم والبشع الذي قد لا يناسب الغايات نهائياً، إن ادعاء نبل الغايات، لا يسوغ تشويه الحقيقة وتزييفها.
قد تحوز على أعلى الجوائز لقولك نصف الحقيقة لكنك حتماً وفي ضمن نظام الرداءة العالمي، لن تسمع مديحاً أو إطراءً على بسط كامل الحقائق، لكن التاريخ وبما أنه يكتب بخط المنتصرين، فسيذكر قولك للحقيقة في الزمن الصعب، وبأنك وقفت هذا الموقف الشجاع مع منتصري المستقبل.