المرأة والعنف والواقع الراهن
العنف إشكالية معقدة لما لها من أبعاد اجتماعية وسياسية، وذلك من خلال بنى نفسية خاصة لمفتعليها، فكل ممارسة للعنف يصاحبها ممارسة خطابية وترويج اجتماعي، وأحياناً ثقافي ليتم تبنيها، والعمل عليها.
العنف: «violence» الظاهرة الأبرز التي تغذي حضارة الإنسان المعاصر، تلك القوة الطاغية التي عجزت البشرية عن معالجتها والحدّ من انتشارها، من كون العنف ظاهرة ملتبسة ومتداخلة العوامل والأسباب، فقد طرحت حولها تصنيفات وتفسيرات مختلفة من مثل: هل العنف مظهر لصدام الحضارات؟ أم هل هو ردة فعل ضد الهيمنة العالمية؟ أم هو أزمة العقلانية ومقتضيات الحداثة؟
أم هو تعبير عن عدوانية الإنسان، وعن بنية المجتمع وثقافته؟
وإذا كان العنف ظاهرة عامة تعمّ المجتمعات، وتُلقي بأعبائها الكثيرة على الشّعوب بكل الفئات، وعلى الجنسين من الرّجال والنّساء ولو اختلفت المعطيات والنِّسب، فإن المرأة في مجتمعنا ترزح تحت اضطهاد مزدوج في ظل ظروف الأحداث السّورية الأخيرة، فإضافة إلى معاناة القهر والإهمال المزمنة، حيث تشكل للكثير من النّساء في بلادنا متلازمة تسمى «متلازمة التّعب النّفسي Chronic Fatigue Syndrome » من كونها تكون مضطرة على الحضور بفعالية دائمة في بيت الزّوجية وحقوقها مهدورة في غالب الأحيان، إذ جهدها مهما بلغ يصنف أنه لا يعوّل عليه في حياة الأسرة ،فإن كان عملها ضمن المنزل فقط من كون هذا العمل لا أجر، ولا قيمة له في نظر الكثير من الأزواج ،بل يعدّ واجباً عليها الالتزام به، وكفى.
إن معاناة المرأة السّورية مؤخراً في تلقي القهر والظّلم العنيف الموجه لأولادها وزوجها، وحرمانها الاستقرار، حيث تعاني الكثيرات من النسوة السوريات ارهاصات الحرب بأشد صور قسوة الواقع، لتكون معاناتهن في ظل قسوة الحياة عليهن من جراء حرمان عيش عاطفتهن بإنسانية، أو حتى عيش أبسط أشكال الاستقرار مؤخراً لدى الكثيرات من النّسوة في بلدنا.
الجنس كمتغير تابع
من هنا لابد من الإشارة إلى أن العمل هو المتغير المستقل، وأشكال الحياة جميعها بما فيها الأسرية هي المتغير التّابع، على اعتبار أن ظروف النّشاط الإنتاجي، تتحكم في أشكال وصور الحياة جميعها، العقلية والأخلاقية والعاطفية بما فيها العلاقة بين الجنسين، إذ بلغة العلم: الجنس هو متغير تابع وليس متغيراً مستقلاً، في هذه الحالات، كيف يكون ذلك؟
من هنا نجد أن الاقتصاد يتحكم في الإنجاب، العمل والإنتاج هو ما ينقص في التّعبير عما يلزم للتخفيف عن المرأة معاناتها، وإرساء قواعد المواطنة والاستقلالية والتّنشئة على العطاء المتبادل. وذلك عبر اللقاءات والنّدوات الواجب عقدها والعمل عليها، وعبر التّفكير بالعمل عليها بكل الجدّية والإحساس بالمسؤولية.
ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد من عمر الحضارة، وما زلنا لم نعط في تنشئتنا الأسرية والاجتماعية إلاّ الأهمية الضّئيلة لثقافة مقتضيات النمو بمراحله المختلفة، وهذا الحال ينطبق على كلا الجنسين من حيث التّهيئة لأدوار الرّجولة والأنوثة بروح التّوازن والاستقرار، لا الإقدام على كل مرحلة بروح الحماس والانفعال فقط.
ماذا يحدث فعلاً في مؤسسة الزّواج؟
عالمة النفس الشّهيرة «هير- ماستين» في استعراضها لمكامن التّحيز ضد المرأة في العلاج النّفسي تجد أنه برغم من أن دور المرأة في العائلة هو مركزي في شخصيتها، من حيث التّكريس الاجتماعي لذلك، إلاّ أن المسألة المعقدة التي لم تعطِ أهمية في الدّراسات والبحوث النّفسية هي طبيعة ما يحدث فعلاً في مؤسسة الزّواج.
إذ يٌعدّ استقرار الزواج مؤشراً للفعالية النّفسيّة دون الالتفات إلى الكلفة النّفسية، التي تدفعها المرأة ثمناً لذلك الاستقرار، من حيث تكريسهم: أن المرأة هي المستفيدة من الزّواج برغم تراكم الإثباتات التي تشير عكس ذلك.
المظالم المجتمعية
وما يجدر ذكره أيضا: أن المظالم المجتمعية التي تخيم على حياة قسم من النّساء في بلادنا تسببت لهن في الكثير من الأزمات النّفسية التي يلزم ألا يٌغفل عنها من مثل:
القوانين التي تمايز بينها وبين الرجل.
الأعراف الاجتماعية التي تكرس الخضوع لسلطة الرجل (الأب أو الأخ الأكبر إلى الزوج).
الإهمال العاطفي والإنساني والجنسي لهن من الزوج، والانصراف لتلبية رغبته الجنسية خارج إطار الزوجية، أو من خلال الاعتداءات الجسدية أو الجنسية عليهن، فالعنف الأسري الذي بات علنياً في السّنوات الأخيرة، إذ نجد بعض الرّجال، لا يهتمون بمتعة المرأة أثناء العلاقة الجنسية الحميمة التي تجمعهما وتعاش أنانية كبيرة من طرف الكثير من الرّجال، حيث يعيشوا رغباتهم ويركنون للنوم أو الانصراف لأمور أخرى بدون الحرص على استمرار المعاشرة والود وتطوير العلاقة الزوجية، والانفتاح على المرأة بالحديث والمشاركة.
واقع الحال هذا تؤكده الحالات العيادية التي أعمل عليها، وأيضاً ما كرسته اللقاءات مع النّساء في ورشات عمل مختلفة خلال السّنوات الماضية.
تجد «هيلين دويتش»: أن الأم التي تتعب جداً مع أطفالها وزوجها ومنزلها، تستطيع أن تسيطر على العائلة بطريقة لاشعورية من خلال ماسوشية Masochism اجتماعية، ونجد الأسرة والزوج والأطفال سيمجدون هذه التضحيات، وسوف تسيطر على قوام ومقومات بيتها من خلال تضحياتها.
وفقاً لرأي «فرويد» الشّهير «إن من يعطي أكثر مما يملك يكون سارقاً» ففي هذا الحال نجد أن الكثير من الأمهات اللواتي مازلن في مجتمعاتنا يسرقن من تعب أعصابهن، وطاقة أجسادهن في إيثار كبير لعوائلهن، وفي المؤدى تعيش هؤلاء النّسوة الإرهاق بصمت وتعشن معانتهن بدون المقدرة على التّعبير.
سلاح ذو حدّين
أعلى اهذه الاضطهادات آتية من تفاقم الإيديولوجيا الدّينية والسّياسية، وتراجع القيم الأخلاقية السّامية، من خلال الإسقاط على كل شؤون الإنسان ،فالعلاقة الهامشية بين الرجل والمرأة داخل البيت تجعل للمرأة وصفاً مهمشاً، لأنها تفقد صفتها الإنسانية، وتجبرها أن تحافظ على العادات والتّقاليد التي تكرس استلاب المرأة الاجتماعي «alienation»، وتحجر المؤسسات المختلفة التربوية والاجتماعية هذا الوعي، بيد أن العادات والتّقاليد التي ترسخها المؤسسات هي بحد ذاتها انعكاس للوضعية الاقتصادية للمرأة في المجتمع، فهي سلاح ذو حدّين في السّلب والإيجاب، فمثل هذه المؤسسات قد يكون لها دور فعال في تغيير البنى الاجتماعية، ونشر ثقافة المشاركة والوعي المنطقي لحاجات الجسد عبر المعرفة العلمية السّليمة لذلك.
البنى الاقتصادية
وهنا لابد من التّركيز والتّوضيح، بأن السّمات النّفسية الأنثوية، ليست سلبية، وغياب المبادرة والعزلة التي يتم تحميل مسؤوليتها للتركيب العضوي، ليست إلاّ التّعبير عن وضع اجتماعي وثقافي معين، وبذلك الوضع البائس للمرأة العربية، لا يمكن تخطيه باتجاه تحرر فعلي، ما لم يتم تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية التي هي أساس المجتمع الطبقي.
*محللة نفسية