التوطّن في منطقة المتوسط
يعتبر التوطن (أي وجود نوع من الأنواع في منطقة جغرافية دون ما عداها) أحد المميزات الحيوية والاقتصادية في آن معاً وقد أخذت دراسات التوطن أهميتها في الفترات الأخيرة بعدما أقرت الاتفاقيات الدولية حقوق الدول والشعوب فيها، بعدما كانت تسرق عبر فترات طويلة من قبل الدول المستعمرة بكافة أشكال الاستعمار عبر التاريخ المعاصر.
يعود السبب الرئيسي للغنى النوعي النباتي في حوض المتوسط إلى العدد الاستثنائي للأنواع المتوطّنة، والتي ينحصر العديد منها ضمن موقع محدّد واحد أو عدة مواقع فقط، خاصةً في المناطق الرمليّة، الجزر، و«الجزر» الجيولوجية المكوّنة من نمط تربة أو صخور غير اعتيادي، أو الجزر الجغرافيّة المعزولة في السلاسل الجبليّة. ونلاحظ تقريبياً أن نصف عدد الأنواع النباتيّة في المتوسّط هي أنواع متوطّنة، وليس أقل من أربعة أخماس الأنواع النباتيّة المتوطنة الأوروبيّة هي أنواع متوسطيّة. وهكذا نرى، أنّ منطقة المتوسّط هي عبارة عن خزّان مهم للتنوّع النباتي، يطابق في ذلك كاليفورنيا، وأيضاً ثلاثة أجزاء أخرى من نصف الكرة الأرضية الجنوبي والتي تتميّز بظروف مناخية متوسطية النمط، وهي إقليم الكاب في جنوب أفريقيا، ووسط تشيلي، ومنطقتين في جنوب غربي استراليا. وعلى نحو مثير للدهشة، فإن الثلث المداري للقارة الأفريقية يحتوي على نفس عدد أنواع النباتات الوعائيّة والأنواع المتوطنة الموجودة في المنطقة المتوسطيّة، على الرغم من أنّ مساحته أكبر بأربع مرات من مساحة حوض المتوسّط، ومن أنّه يتمتّع بفصل نشاط ونمو دائم على مدار السنة بالمقارنة مع الفصول ثنائية الطبيعة في المتوسّط.
تغطّي البقاع الساخنة المناطقيّة 22% من المساحة الكليّة للحوض وتوفر مأوى لما لا يقلّ عن 5500 نوع نباتي متوطّن، والذي هو 44% من متوطّنات المنطقة ككلّ.
التوطن والجبال
وبالنسبة للتنوع الحيوي الإجمالي، تزداد معدّلات التوطّن بزيادة الارتفاع عن سطح البحر، وتزداد أيضاً في الجزر. يمكن أن تفوق مساهمة سلاسل الجبال المتوسطية (القارية مثل: الأطلس، طوروس، لبنان الغربية، لبنان الشرقيّة، أو الواقعة في الجزر: كورسيكا، سردينيا، كريت) الـ 25% من الأنواع المتوطّنة. على سبيل المثال، من بين الأصنوفات النباتيّة المتوطّنة الـ 400 الموجودة في إقليم الأندلس، يقتصر وجود 125 (31%) منها على الجبال، يمكن لمعدّلات التوطّن أن تصل إلى 50% في بعض السلاسل الجبلية الإسبانيّة كسلسلة الجبال البايتيّة، سييرّا نيڤادا، وَسيرانيّا دي روندا. تضم شبه الجزيرة الإيبيريّة ذات الأرض المرتفعة أكثر من 1200 نوع وتحت نوع متوطّن من النباتات الوعائيّة، وذلك من أصل مجموع الـ 4839 نوع الموجودة على قائمة الأنواع المتوسطيّة لإسبانيا والبرتغال، يمثل هذا العدد الاستثنائي 24.8% كمعدّل التوطّن لكل شبه الجزيرة الإيبيرية. تعتبر شبه جزيرة الأناضول (تركيّا) مع النطاقات الحيوية الخمسة الموجودة فيها والتي تمتد من مستوى سطح البحر إلى ارتفاع 5,000 متر، ثامن أغنى منطقة في العالم من ناحية التوطّن النباتي، مع وجود 9,000 نوع نباتي متوطّن.
دور البيئة والتاريخ
إنه لمن المثير للاهتمام إزالة الغموض حول دور كلّ من البيئة والتاريخ كمحركات لظاهرة التوطّن في البقاع الساخنة. أظهر تحليل العوامل البيئيّة والتاريخيّة التي تشرح أنماط الـ 115 نوع نباتي متوطّن الموجودة ضمن البقعة الساخنة التي تمتدّ على جبال الألب البحرية والليغوريّة قرب الحدود بين جنوب فرنسا وإيطاليا، أظهر الخبراء على أن الكثافة المحليّة العالية للأنواع المتوطّنة نتجت عن تضافر نطاقات مناخية-حيويّة مع أنماط مختلفة من الركائز، وأظهرت وجود تطابق عالٍ بين مناطق التوطّن والمناطق التي تكون فيها الصخرة الأم من طبيعة خاصّة. يعني هذا الأمر أنّه على المقياس الصغير للبقاع الساخنة المناطقية تكون العوامل البيئيّة أكثر أهميّةً من العوامل التاريخية من أجل شرح معدّلات التوطّن. في هذه الحالة الخاصّة على الأقل، يبدو أنه كان للفترات الجليديّة تأثيرات أقلّ على توزّع النباتات ومظهرها، وإذا وجدت، فإنه قد تمّ تخفيف تأثيرها بسبب الهجرات التي حدثت بعد الفترات الجليديّة. ومن جهة أخرى فقد كان للفترات الجليديّة تأثيرات قويّة على معدّل الغنى على مقياس أكبر. وهكذا، يؤكّد التفاعل ما بين الخصائص البيئيّة المحليّة وما بين الأحداث التاريخية على وجوب أن تُجرى الدراسات الجغرافية-الحيوية على عدة مستويات، وأن تغطّي كلاً من المكوّنات البيئيّة والتاريخيّة كما نصح مؤخّراً العديد من الباحثين.
الجزر المتوسطيّة كموئل للتوطّن
تظهر المجموعة النباتية الموجودة في الجزر المتوسطيّة نسبة عالية من التوطّن. من الأمثلة لدينا جزيرة كورسيكا مع نسبة 13% (316 نوع متوطّن من مجموع 2325 نوع)، بالمقارنة مع نسبة 7.2% من الأنواع المتوطّنة الموجودة في المنطقة القاريّة الأقرب لهذه الجزيرة في جنوب شرق فرنسا. وعلى نحو مماثل فتمتلك جزيرة كريت على نسبة 12% من الأنواع المتوطنة (209/1735)، صقلية 11% (321/2793)، والجزر الباليارية الثلاث الأكبر تقريباً على نسبة 10% (173/1729). تشّجع الركائز الجيولوجية غير الاعتياديّة والتي توجد غالباً في الجزر بشكل خاصّ على ظاهرة التوطّن – مثال الركائز الجصيّة أو الدولوميتيّة- أو تشكيلات الصخور فوق القاعدية (مثل السربنتين) في قبرص، والتي تأوي أربعة أنواع من جنس الأليس (Alyssum) من الفصيلة الصليبيّة (Brassicaceae)، حيث تكون هذه الأنواع الأربعة عبارة عن جنبات شوكية قليلة الارتفاع. بينما يقتصر هذا الجنس كثير الأنواع (175 نوع) في باقي الأماكن الأخرى، والذي ينتشر في أوروبا المتوسطيّة وتركيا، حصريّاً على أنواع حوليّة. ومن الخصائص الغريبة الأخرى المرتبطة بهذا الجنس نجد أن هناك حوالي 73-75 نوعاً من الأليس، معظمها ينمو في شرقي المتوسط، تستطيع هذه الأنواع أن تمتص من التربة كميّات عالية وغير اعتيادية من النيكل وغيره من المعادن الثقيلة. من المحتمل أن يكون هذا الأمر عائداً إلى التكيّف مع ظروف التربة غير الاعتيادية، وتم الاستفادة من هذه الحقيقة من أجل غايات الإصحاح الحيوي. يعتبر هذا الجنس أحد أجناس العالم القديم الكبيرة والتي نتج عنها أعداد عالية من الأنواع في المنطقة المتوسطية، خاصة في الجزر.