مستودع البذور.. والشرور
لا يسمع أي منا الاسم: «سفالبارد - Svalbard» كثيراً، إنها منطقة نائية شمال النروج، لن تجد فيها سوى مساحة بيضاء شاسعة من الثلج الأبيض الصافي على مدار العام، لكن أمراً مثيراً للغاية يميز هذه المنطقة منذ عدة سنوات، إنها تحوي المخزن العالمي الوحيد الذي يحوي عينات من جميع البذور الزراعية التي تعرفها البشرية اليوم، ويقبع تحت جليدها القاسي المستودع الذي يحفظ تلك الأصناف جميعها من الانقراض، وها هو اليوم يتصدر العناوين من جديد، مرفقاً باسم «سورية» للمرة الأولى..!
يقوم المستودع هذا بعمله الحساس منذ العام 2008 وهو يحتوي اليوم على مئات الآلاف من الأصناف المختلفة، التي يجمعها العالم كضمان يقي البشرية من المجاعات المحتملة نتيجة تناقص البذور، أو ما قد يصيب الأرض من كوارث طبيعية، ولم يشهد منذ إنشائه أي حالة «سحب» لأي نوع من البذور، بل اكتفى بـ«استيداع» تلك الأنواع من المنظمات الزراعية والبيئية حول العالم، إلى أن أعلن المدير العام للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، والذي يعرف اختصاراً باسم «إيكاردا» بأنه سيقوم بعملية السحب الأولى عالمياً لصالح المركز في سوريا، بعد أن تبين حاجة بنك الحبوب الخاصة بمحاصيل القمح والشعير السوري إلى المزيد من البذور، كي يستطيع البدء بموسم زراعي جديد هذا العام، وكان هذا المركز قد وضع في عهدة المستودع العالمي منذ بضع سنوات، عدة مئات من صناديق البذور، كانت قد نقلت من الموقع الرئيسي له في مدينة حلب مجمدة ومحفوظة بعناية، ويبدو أن الوقت قد حان لإعادة سحبها في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي تعصف بالبلاد، كما أضافت الأنباء عن وجود الكثير من العينات الأخرى ما زالت «محتجزة» داخل المركز في حلب منذ العام 2012 دون أن يتم نقلها إلى الموقع المؤقت والحالي للهيئة في العاصمة اللبنانية بيروت، مما جعل خيار السحب من المستودع الدولي أكثر فعالية.
المزايا السورية المطلقة
يعد هذا الخبر سيئاً على مستويات عدة، فالحاجة وحدها إلى مثل هذه العملية تدل بوضوح على عمق الأزمة التي تعانيها البلاد من الناحية الغذائية، وتفرد المجال لبعض من التساؤلات وكثير من التشاؤم، كما ترافقت تلك الأخبار مع تصريح لوزير الزراعة النرويجي، اعترف به بنية المستودع توزيع بعض من هذه «البذور السورية» إلى عدة بلدان مجاورة لتلبية احتياجاتها من هذا المحصول، بعد العجز الواضح الذي فرضته الحرب على بلد المنشأ، كما رفض تحديد أسماء تلك الدول، مما يعني خسارة إضافية لجميع «المزايا السورية المطلقة» التي تميز تلك الأنواع عن غيرها، لكن المعضلة الأكبر، والتي تخفى عن الكثيرين، تتركز في المستودع بحد ذاته، حيث يفترض المرء بأنه مؤسسة حيادية قد ترتبط بهيئة دولية جامعة، يمكن أن يأتمنها الجميع على درر أراضيهم، لكن الحقيقة حول «سفالبارد» مخيفة للغاية، وتزداد عمقاً وخبثاً يوماً بعد يوم.
مؤسسة بيل غيتس الخيرية
تم إنشاء هذا المستودع أساساً من قبل مؤسسة «بيل غيتس الخيرية» وعائلة «روكفللير» الأمريكية الشهيرة التي تملك تجمعاً هائلاً من البنوك وشركات النفط والسلاح، ولكل من الطرفين تاريخ طويل من الجرائم الصحية البيئية، التي تختفي بعد عدة شهور من ظهورها بعد رمي المبلغ المناسب من المال في وجهها، كما يتفاخر كل منها بالعلاقة الطويلة والمميزة مع الهيئات العملية والتطبيقية التي تهتم بالمواد الغذائية المعدلة وراثياً، والمعالجة كيميائياً، ثم تحولت الأمور خلال العقد الأخير ليصبح المستودع تحت إدارة ما يسمى «الهيئة العالمية المؤتمنة على تنوع المحاصيل» أو (GCDT) المرتبطة ببرنامج الأمم المتحدة للغذاء، وهو اسم جذاب وجميل يضم مجموعة من «الأمناء» كرئيسته «مارغريت كارلسون» والتي تشغل في الوقت ذاته منصباً مرموقاً في إحدى شركات تعبئة المياه الكندية الخاصة، بعد أن تولت إدارة هيئات عائلة «روكفيللر» في الثمانينيات، والتي تم توكيلها من قبل ولاية نيويورك الأمريكية بإيجاد حلول للتضخم السكاني هناك، بعد أن ارتبط اسمها بحلول ناجعة تتضمن «العقم الكيمائي» و «النشر الإجباري لأدوات منع الحمل» والتي أثارت في ذلك الوقت فضيحة من العيار الثقيل.
مطبخ كيميائي
أثقلت أوزار الحرب الجميع، وأجبرت البعض على اتخاذ الحلول التي لم تكن الأفضل يوماً، لكن على الجميع أن يدرك بأن ما يجري ويجري يطوي بداخله قضايا على درجة عالية من الخطورة، ستمس في القريب العاجل قوتنا اليومي وخبز أولادنا، بعد أن تتحول أراضينا إلى صحارٍ قاحلة حُملت خيراتها إلى «مطبخ كيميائي» في القطب الشمالي، لنجبر لاحقاً على تلقي ما نحتاجه بالكاد من تلك البذور «المشبوهة» دون أن يكون لنا أية فكرة عما قد تحتويه!