القطب.. والأقطاب
شهدت الأسابيع الأخيرة توتراً دولياً مثيراً للاهتمام، حيث أثارت أخبار بيئية طارئة حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية، ودفعتها للبدء بسلسة جديدة من الإجراءات غير المسبوقة، فقد أعلن العلماء بكل أسف خلو المحيط المتجمد الشمالي من الجليد تماماً بحلول العام 2030، لتصبح منطقة القطب الشمالي وما حولها بكل مواردها الطبيعية الغنية من النفط والغاز ساحة جديدة للصراع الدولي المتجدد.
تحوي القارة المتجمدة الشمالية على أكثر من ثلاثين بالمائة من احتياطي الغاز غير المكتشف، وثلاثة عشر بالمائة من احتياطي النفط أيضاً، كما أن انحسار الجليد عن تلك المنطقة يعني ظهور طريق جديد سيربط بين السواحل الأوروبية ومثيلاتها في آسيا بدلاً من سلوك الطريق المعتاد، عبر المتوسط فقناة السويس مروراً بالبحر الأحمر وصولاً للشواطئ الهندية، والذي يشهد خلال السنين الأخيرة اهتماماً متزايداً دفع العديد من شركات النقل البحري لاعتماده على الفور كبديل حقيقي لجميع المسارات السابقة، أي أن هذا الخبر المفاجئ هو إعلان رسمي عن سباق جديد لاقتسام «الكعكة الشمالية» بما أمكن من الوسائل.
«ضرورة زيادة الوجود الأمريكي»
سرعان ما لخصت صحيفة «نيويورك تايمز» ما يجري منذ بعض الوقت معنونة صفحتها الأولى بـ: «ضرورة زيادة الوجود الأمريكي» على تلك الأراضي، وبسرعة، ليتزامن كل هذا مع الزيارة الأولى التي يجريها أي رئيس أمريكي إلى هناك، حيث أعلن «باراك أوباما» من على السطوح المتجمدة في الشمال رفع الوجود العسكري في تلك المنطقة بحجة «حماية الحدود الشمالية» و«دراسة عواقب الاحتباس الحراري»، لكن قلة تحدثوا عن موافقة الإدارة الأمريكية على عقود ترخيص للبدء بعمليات التنقيب في المناطق الشمالية، عن طريق مجموعة «شيل» الشهيرة للطاقة منذ أكثر من شهر، كما دعت مجلة «هارفرد انترناشونال» الإدارة الأمريكية بكل وضوح إلى رفع الوجود العسكري في المحيط المتجمد الشمالي، بغية استغلال أكبر كمية ممكنة من تلك الموارد الطبيعية، في ظل ارتفاع أسعار النفط وانحسار وجوده في مناطق الأرض الأخرى، مشيرة إلى أن تلك الآبار الجديدة ستكون أقرب إلى المستهلك الآسيوي مما يعني توفيراً كبيراً في أجور النقل والتوزيع.
«تحدي القطب الشمالي»
ليس من الصدفة أن يعقد حلف شمال الأطلسي اجتماعه الأخير على أراضي المحيط المتجمد الشمالي أيار الماضي، وليس من الصدفة أيضاً أن يسمي عرضه العسكري الذي استمر 14 يوماً حينها بـ «تحدي القطب الشمالي»، حيث بدا وكأنه رد مباشر على إعادة تعبئة القوات الروسية في منطقة «سيبيريا» دون أي انذار قبل عدة أسابيع من اجتماع الحلف هذا، حينها شارك في العرض ألف جندي وعدة مركبات بحرية حديثة الطراز، ولتبدأ حملة إعلامية واسعة تقاذف فيها الطرفان تهمة البدء بالعداء، لكن الجميع يعرف أهمية هذا الطريق الجديد بالنسبة للطرفين، ويدرك بأن الموارد الغنية الموزعة على أطرافه تستطيع تحقيق تغيير غير مسبوق على الساحة الدولية، قد يبرر تصعيداً عسكرياً قادماً يحقق بعد المكاسب للمتسابقين نحو الشمال الآخذ بالذوبان يوماً بعد يوم.
تبعات الاحتباس الحراري
لم يأخذ الجانب البيئي من هذا الخبر المؤسف الاهتمام الذي يستحقه، ولا حتى الاهتمام الذي اعتادت الكثير من الدول على تزييفه، وها هي تبعات الاحتباس الحراري والاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري وتجاهل جميع المؤشرات البيئية والمناخية المرعبة، التي عصفت بكوكبنا قد غيرت من وجه الأرض إلى الأبد، وفتحت المجال لحروب جديدة على ما تبقى من الموارد المتناقصة، وفق سياسة استحواذية ستحتكر تلك الخيرات كأداة جديدة للضغط ووسيلة اقتصادية عصرية للإخضاع.