وراء الستار..
تعد عملية التسويق الإلكتروني، الشغل الشاغل لجميع العقول العلمية هذه الأيام، ويبدو بأنها تعد بالكثير من التطور بالتزامن مع ما يشهده العالم أجمع، من ارتباط أشد بالشبكة العنكبوتية العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ الجميع يسمع عن طيف جديد تماما من «العلوم التسويقية» التي تستخدم نوعاً خاصاً للغاية من الخوارزميات، ذلك النوع القادر على الخوض في مليارات السجلات من المعلومات ليقدم في النهاية إعلاناً «على مقاس» المستخدم.
تدعى هذه الأنظمة الذكية باسم «أنظمة اتخاذ القرار المؤتمتة»، وهي البديل الرقمي للنموذج التقليدي، في فرز البيانات واتخاذ القرارات المناسبة، اعتماداً على وجود الإنسان كعنصر فعال في تلك العملية. حيث رأينا العديد من التطبيقات اليومية لمثل تلك الأنظمة «الآلية» أثناء تصفحنا اليومي لشبكة الإنترنت، فرؤية إعلانات السيارات ضمن نتائج بحث محرك البحث «جوجل» على سبيل المثال لا تعد صدفة على الإطلاق، فالموقع يعمل على فرز اهتماماتك من خلال الأمور التي تود البحث عنها يومياً، وقد لاحظ اهتمامك الزائد بآخر أخبار السيارات، فكان «القرار» برفع نسبة إعلانات السيارات ضمن نتائج البحث الخاصة، هنالك من يعمل على «دفع» تلك المنتجات في وجهك بعد أن استفاد بشكل كبير من «عاداتك الرقمية» اليومية.
الأنظمة التقديرية وفرز اهتماماتك
لا يبدو الأمر خطيراً للغاية، ولا ضير من تسليم تلك العملية «لعقل إلكتروني» مدرب، فقد استخدمت الكثير من الشركات المنتجة ذلك النموذج الذكي بعد أن وقعت العديد من الاتفاقيات مع شركات التسويق الرقمي، حيث تعمل الأخيرة على لعب دور الوسيط بين المنتج و مالك «البيانات»، تلك البيانات التي تعد حجر الأساس في اكتمال تلك العملية التسويقية بالشكل الأمثل، تسخر «كلوديا بيرليتش» من الهواجس التي تتعلق بغياب العنصر البشري عن عملية التسويق الإلكتروني، حيث تعد أحد أشهر «علماء المعطيات الكبيرة»، فتقول: «ما هو أسوأ سيناريو يمكن قد يحدث؟ ربما سيحصل المستخدم على إعلان لا علاقة له باهتماماته، فيتجاهله، ليس الأمر كمن يحصل مثلا على نتائج فحوص صحية خاطئة تدل على إصابته بمرض السرطان، لا يجب على الناس أن يقلقوا من ذلك»، لكن تلك السخرية لم تعد مقبولة بعد اليوم، بعد أن قرر البعض استخدام تلك «الأنظمة التقديرية» في مجالات اخرى.
مراقبة نشاطات العملاء المالية
تستخدم الأنظمة تلك في الآونة الأخيرة بعيداً جداً عن إطارها التسويقي، فالكثير من بنوك اليوم تعتمد على مراقبة نشاطات العملاء المالية لاتخاذ القرار حول تمديد قروضهم أو إلغائها، يود القائمون على هذا المجال الاستفادة من قدرات تلك الخوارزميات الذكية على التحليل الرياضي الموضوعي لقدرة العميل على الدفع، فالمبذر والمتأخر عن الدفع لا يستحقان أي معاملة خاصة، بعد أن أثبتت نتائج التحليلات إضاعتهما لوقت وأموال تلك البنوك، كما يزداد الأمر تعقيداً عند استخدام الخوارزميات ذاتها في مجال الطبابة، ويعد نظام «واطسون» للتشخيص السريري خير مثال على ذلك، حيث يمتلك ذلك النظام البرمجي القدرة على الخوض في مئات الملفات الطبية والفحوصات المخبرية والمراجع العلمية للوصول إلى تشخيص مناسب للعلة، التي يعاني منها المريض، يستدرك مطورو هذا النظام المعقد في شركةIBM» » الأمر بالإشارة إلى أنه نظام تدريبي بالدرجة الأولى، وهو يسدي «نصيحة» للأطباء ولا يستطيع استبدالهم مهما بلغ من التعقيد، أي أن العنصر البشري ضروري لإتمام العملية في مراحلها النهائية، أو لنقضها بـ «فيتو» طبي عاجل فتهمل بالكامل.
تنحية العامل البشري
يحتد النقاش حول حجم الدور الموكل للإنسان في عالم الخوارزميات الذكية وأنظمة اتخذا القرار، فالبعض يشيد بـ «حيادية» الأنظمة وموضوعتيها العلمية التي يقيها «تحيز» الإنسان، ويعتبر أنها الحل الأكثر أماناً بعد أن تخلصت من كافة العيوب التي قد تظهر مع التدخل «العاقل» في تفاصيل تكوين قرارتها، حيث يعول ذلك الفريق على التطور السريع الذي يميز تلك الأنظمة، مما يجعلها بديلاً أكثر فعالية من المكون البشري، لكن البعض الآخر يعاود التذكير بضرورة عدم تسليم العديد من النماذج الحساسة من تلك الأنظمة للآلة بشكل كامل، على الخوارزمية أن تسمح لمشغلها بالخوض في تفاصيل اتخاذ القرار، كما يتوجب عليها أن تسمح بالتعديل عليه أو إلغائه على الدوام، متهمين أنصار الفريق الأول بالجشع الاستهلاكي بعد أن تمّ اتخاذ القرار بتنحية العامل البشري لتحقيق مزيد من الأرباح، وتوفير الكثير من الأموال واتخاذ العديد من القرارات المصيرية بناءً على نموذج رياضي مبهم لا يستطيع أحد التحقق من دقته.
الارتهان للنمط الاستهلاكي
ما زالت تلك العلوم الحديثة تحاول إثبات وجودها بالاعتماد على أحدث ما توصل إليه العلم، في مجال الذكاء الصنعي وأنظمة اتخاذ القرار، لكن ارتهانها للنمط الاستهلاكي الفاقع في التنفيذ والانتشار وضعها تحت المجهر، وسلط الضوء على خطوط حمراء لم يظن أحد يوماً أن بالإمكان تجاوزها، لم تعد حياة الإنسان العامل الأهم في «اتخاذ القرار» كما يفترض البعض، لذا أصبح من الضروري أن تخضع تلك الأنظمة لمزيد من المتابعة وقليلٍ من الإشراف البشري الضروري لإتمامها دون أضرار، لكن المصيبة الكبرى ستواجه الجميع حين تواجهنا حالة لا نستطيع التمييز فيها بين القرارات التي اتخذها «إنسان»، وبين القرارات التي وضعتها خوارزمية «ذكية» لها نسختها «الجامدة» من الخطأ والصواب..