أشواك المدينة..!؟

أشواك المدينة..!؟

كان يدعى «باول كوسيدا»، استاذ محاضر في كبرى جامعات بولندا، لكنه وجد العام الماضي جثة نزفت حتى الموت أمام إحدى ساحات «كينغستون» في بريطانيا، لم يعلم أحد بقصة «باول» ولم يعن النبأ أي شيء للمارة، كان «باول» أحد المهاجرين المشردين  الكثر في الساحات البريطانية، وقد وجد مثبتاً نازفاً كطريدة أعدت للطهو بعد أن ثقبت عشرات من الحراب المعدنية جسده بالكامل، وجدته الشرطة بعد أيام على حاله تلك، مرتدياً ثوب المشافي الرقيق في إحدى الليالي الباردة، لم تكن هذه جريمة قتل عادية كما قد يظن البعض، ربما، هي جريمة قتل من نوع خاص للغاية!

مسامير حرابية

لا أحد يهتم بأمثاله على الإطلاق، والشرطة لم تكلف نفسها عناء التحقيق، الأمر واضح للغاية، اختار «باول» أن يريح جسده المتعب على رصيف الساحة الأشهر في المدينة، وجد الأطباء نسباً عالية من الكحول في دمه كأي مشرد يجول الشوارع البريطانية في الليل القارس، ولابد أنه ألقى بجسده على الرصيف دون أن يلاحظ ما قامت البلدية بوضعه قبل أيام، مسامير معدنية تتطاول كالحراب وتعد كل من يحاول الجلوس أو الاستلقاء بتجربة أليمة، كانت الرسالة واضحة: «لا نريد لأحد أن يجلس هنا.. وبالأخص مشردو المدينة الذي يشوهون صورتها السياحية»، ومن دون سكان المدينة الذين بدؤوا يلاحظون «نمو» تلك النتوءات المعدنية في كل مكان، وانتقلت العدوى إلى العديد من المدن الأوروبية، وأصبح لهذه النمط من التعديلات الإنشائية اسم مثير للاهتمام: «الهندسة الدفاعية».


الهندسة الدفاعية

تحدثت مواقع التواصل الاجتماعي عن هذا البدعة طوال السنتين الماضيتين، بدا وكأنها أصبحت البدعة الجديدة في عالم الإنشاء وتنسيق المرافق العامة، يقول «أوشن هويل» مدرس تاريخ العمارة في جامعة «أوريغون» معرفاً هذا النوع المستجد من الهندسة بقوله : «هو النوع الذي لا يرى إلا لمن تتقصد تلك الإنشاءات مخاطبته، لن يراه جميع الناس، لكن رسالته واضحة، أنت غير مرحب بك في هذه الأنحاء، أنت مختلف عن الناس هنا»، يضيف شارحاً بأن هذه الإجراءات تراكمية البنية وتظهر على مراحل، ويتم التخطيط لها جيداً، هي في أفضل أشكالها «فظاظة» مصممة وممولة ومنفذة، يحركها دافع لئيم للاستبعاد والتمييز، هي تعبير واضح عن جشع الشركات الكبرى في صراعها بين العام والخاص، بين الفقير والغني.


كرسي النقود

هنا تنوع مثير للاهتمام في مجال «الهندسة الدفاعية»، من السجادات المعدنية المرصوفة بالرماح تحت جسور لندن، مروراً إلى المسامير الدقيقة امام محلات الأزياء الكبرى في هامبورغ، وانتهاءً بجميع المكاتب الحكومية في بودابست، «أشجار» معدنية في كل مكان، لن يلحظ الزائر أبداً مئات المشردين الذين يجوبون أنحاء المدينة بحثاً عن مكان يمضون فيه ليلتهم، كان هذا الحل الأمثل لعلاج تلك المشكلة المستعصية، «فلنغمض أعيننا عنهم لبعض الوقت» وهذا بالضبط ما حدث، يسخر النحات الهولندي «فابيان بروسنغ» مما يراه من  تلك النماذج المشوهة، يصمم منحوتته الجديدة باسم «كرسي النقود»، تظهر فيها حصالة نقود كبيرة بجانب كرسي مليء بالأشواك المعدنية التي لا تختفي إلا عندما يضع أحدهم قطعة من النقود في الحصالة، ريما لم يفهم المسؤولون في الصين سخرية النحات، لأنهم اعتمدوا على التصميم ذاته في شوارعهم، وأصبحت جميع مقاعد منتزه «ياناتي» في مقاطعة «شانغ دونغ» مملوءة بحراب معدنية دقيقة لا تزول إلا بعد أن يضع الزائر المبلغ المناسب في الحصالة!


تقنيات تأديبية

يظن المسؤولون الرسميون بأن مشكلتهم قد انتهت، لكن الجميع بعلم بأن تلك التقنيات «التأديبية» لا تستطيع التمييز بين الرجل المشرد وبين الأم الحامل، بين المتسولين وبين العجائز، إننا نخلق كيانا رافضاً لأي وجود بشري مهما كان نوعه، وسيخلق مناخ «عدم الترحيب» هذا عدائية لا مبرر لها بين الجميع، دون استثناء، لن تستطيع المرأة العجوز التعامل مع النموذج الجديد من المقاعد العامة في محطات المترو وهو يطوي نفسه بشكل مائل عندما لا يجلس عليه أحد، اختفت المقاعد البلاستكية السمكية والمريحة وحل محلها قطع خشبية متصالبة خشنة مملوءة بالفراغات المزعجة، أصبح للمسامير المعدنية مكانها في كل ساحة عامة في أوروبا، بدلاً من مئات الناس المتجمعين حول النوافير الجميلة يطعمون الطيور وينزهون الأطفال، لم تعد هذه الصورة مقبولة هناك بعد اليوم، هناك مطعم قريب إن أردت الجلوس بالقرب من مجاري المياه، وإلا عليك تحمل «خوازيق» الأرصفة و«رماح» المقاعد العامة.


بلا خوازيق

أما بالنسبة لي، أحب أن اتجول في دمشق على القدمين، أعلم بانها أصبحت خانقة بازدحامها هذه الأيام، لكنها في نظري أجمل مدينة في الدنيا، المسير في شوارعها القديمة له متعة سحرية يتغنى بها كل من خطا في أزقتها يوماً، أستغل الفرصة لأجول في «سوق الحميدية»، تحيط بي الأصوات والروائح وتسرح بي قدماي بعيداً إلى أضيق حارة من حارات «باب توما»، وبالطبع أشارك المئات من المارة باستراحة مؤقتة أمام أسوار «الجامع الأموي» الكبير، يلاحق الأطفال أسراب الحمام ويتجول باعة البالونات والمرطبات بين الجموع، أعرف بأن الكثير منكم يمر يومياً من ذلك المكان، لكنكم ربما لم تلحظوا تلك الأعمدة المعدنية الصغيرة المتصلة بالسلاسل، بدأت برؤيتها تنتصب أمام المحلات المقابلة لحائط الجامع الأثري، بدأت أمكنة الجلوس تقل شيئاً فشيئاً بعد أن احتلت تلك الاعمدة أماكن المتعبين، أعلم بأننا لسنا في أوروبا، وأعلم بأن الامر لم يتفاقم بعد، لكنني رأيت حصتي ممن فقدوا بيوتهم خلال الشهور الماضية ولا أستطيع سوى أن أتذكر صديقنا المرحوم «باول»..

آخر تعديل على الأحد, 01 آذار/مارس 2015 17:25