لغة أحلامنا المنسية
يتحدث إريك فروم في كتابه اللغة المنسية (مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير)، عن الأحلام فيقول: تتصف معظم الأحلام بأوصاف مشتركة، فهي لا تخضع لقوانين المنطق التي تحكم فكرنا أثناء اليقظة. كما أنها تجهل مقولتي الزمان والمكان جهلاً مطبقاً. فهي ترينا الأموات أحياء يرزقون، وتزين لنا أن الأحداث التي تجري الآن قد جرت منذ زمن بعيد. والحلم قد يضعنا حيال حدثين يجريان في لحظة واحدة، في حين أنهما، بالفعل، لا يمكن أن يحصلا في وقت واحد. أما مراعاته لقوانين المكان فلا تكاد تذكر.
إذ من السهل عليه أن يجعلنا نجتاز في لحظة واحدة مسافة شاسعة، وأن يجعلنا نوجد في مكانين اثنين معاً، وأن يضم شخصين في شخص واحد، أو أن يحول شخصاً إلى شخص آخر. والواقع أن المرء يبتدع أثناء الحلم عالماً لا يقيم وزناً للزمان والمكان رغم أن هاتين المقولتين تحددان كل نشاطاتنا وأفعالنا. ويتصف الحلم أيضاً بأنه يبعث في الذهن أحداثاً وأشخاصاً لم يسبق لها أن خطرت للحالم ببال منذ سنوات طويلة، ولم يكن له أن يتذكر وقائعها في حالة اليقظة أدنى تذكر. لكنها تظهر فجأة في الحلم وكأنما هي أحداث مألوفة تشغل اهتمام الفكر. وهكذا تنفتح حياة النوم على ذلك المستودع الهائل الذي يحوي على خبراتنا الماضية وعلى ذاكرتنا والذي لا علم لنا بوجوده في حياة اليقظة.
إلا أن الأحلام تظل، رغم هذه المواصفات العجيبة، أموراً فعلية بالنسبة لمن يحلم بها. وهي لا تقل فعلية عن أية خبرة من الخبرات التي تحصل لنا في حياة اليقظة. فلا يسعنا أن نقول عما يجري في الحلم إنه جرى «كما لو أن» الأمور كانت كذلك. فالحلم اختبار راهن وواقعي.
إلى ذلك لا تكتفي هذه الخبرات الحيوية المثيرة التي تحصل لنا أثناء الليل بأن تتبخر وتتلاشى عند اليقظة، بل إننا نجد مشقة كبيرة في تذكرها. إذ أن معظمها يعود ببساطة فيغيب في غياهب النسيان، وهو يغيب فيها غياباً تاماً بحيث لا نعود نتذكر مجرد تذكر أننا عشناها في ذلك العالم الآخر الذي هو عالم الحلم. وإذا كان بعضها يترك لدينا عند يقظتنا نوعاً من الذكرى الغامضة، فهو سرعان ما يهرع بعد لحظة إلى الفرار ليغيب في عالم آخر لا عودة منه. غير أننا نظل نتذكر بعض أحلامنا. وهذا البعض هو الذي نتحدث عنه عندما نقول: «لقد أبصرت حلماً»، وذلك كما لو أن بعض الأرواح الصديقة أو العدوة قد قامت بزيارتنا، ثم ما لبثت أن تلاشت من أذهاننا عند بزوغ الفجر. عندئذ نأخذ نتذكر بشيء من المشقة أنها سكنتنا وشغلت بالنا بصورة محمومة.
وربما كان أبلغ ما في هذه العوامل التي أشرنا إليها ذلك الشبه الذي يقوم بين ما يبتدعه الفكر الخلاق أثناء النوم وبين أحد أقدم الأشكال التعبيرية التي ابتدعها الإنسان وأعني الأساطير.
لا شك في أن موقفنا من الأساطير لا يبلغ هذا المبلغ الكبير من الحيرة. فنحن نتساءل حيالها عما إذا كانت جزءاً من الدين، وعما إذا كانت حرية بالاحترام. فنمحضها اعترافنا الاصطلاحي والسطحي الذي نخص به كل التقاليد التي نحترمها ونجلها. فإذا كانت لا تتمتع بالمواصفات التي تخولها أن تفرض علينا وطأة التقاليد فإننا نعتبرها عندئذ بمثابة الشكل التعبيري البسيط الذي درج عليه الفكر البشري قبل أن تشرق عليه أنوار العلم. ونحن على كل حال نشعر بأن الأساطير، سواء كانت موضع تجاهل أو ازدراء أو احترام، تنتمي إلى عالم لا علاقة له إطلاقاً بفكرنا المنطقي.
اللغة الرمزية لغة تعتبر بواسطتها الخبرات الحميمية والمشاعر والأفكار كما لو كانت خبرات معاشة في العالم الخارجي أو أحداثاً من أحداث هذا العالم. والمنطق بالنسبة لهذه اللغة يختلف عن المنطق المعروف الذي يخضع له الكلام اليومي.