تقييم الأثر البيئي للأزمة وما بعدها..!!
د. موفق الشيخ علي د. موفق الشيخ علي

تقييم الأثر البيئي للأزمة وما بعدها..!!

على الرغم من قسوة هذا العنوان على سمع الكثير من السوريين الذين سيقولون «هلق وقتها» إلا أن الأمر يحتاج للتفكير منذ الآن على ضوء التخريب المتعمد للكثير من البنى التحتية والمنشآت الصناعية والحرفية إضافة للاعتداءات على الموارد الطبيعية من غابات ومجاري مياه وأنهار وبحيرات وخروج منظومة الرقابة «المتواضعة» عن الخدمة

في الماضي القريب، قامت الجهات الدولية بتطوير واعتماد آليات لتقييم الأثر البيئي للنزاعات المسلحة ووضعت هذه الآليات كجزء من مستلزمات مرحلة إعادة الإعمار ولا سيما في الجانب المتعلق بالتمويل الدولي لهذه المرحلة.؟

من أين نبدأ بتقييم الأثر البيئي للأزمة وما بعدها؟. مع بدء مظاهر التعديات  بكل أشكالها المباشرة أو المتعمدة  أو غير المتعمدة على البنى التحتية والمنشآت الصناعية والموارد الطبيعية فإن الحديث الهامس عن الآثار البيئية لتلك التعديات بدأ تداوله والذي يمكن أن يتلخص بالنواحي التالية:

● اختلاط مياه الصرف الصحي مع مسارات وشبكات مياه الشرب بما في ذلك وصول المياه الملوثة إلى مصادر مياه الشرب في البحيرات أو الأنهار أو الينابيع ولنا في مياه العاصي والفرات مثال كبير.

● تراكم النفايات المنزلية الصلبة في الأحياء والشوارع المتأزمة مع عدم إمكانية الوصول إلى مكبات النفايات المرخصة لدفن ما قد يتم جمعه من نفايات صلبة حتى من الأحياء الآمنة واللجوء إلى الحرق العشوائي لتلك النفايات.

إتلاف وحرق الغابات والقطع المتعمد للأشجار في الغابات والحدائق العامة والمناطق الجبلية سواء كان بهدف التخريب أو الاتجار غير الشرعي والاستيلاء على مساحات قابلة للزراعة أو الاستعاضة عما ولدته الحرب من أزمات وفقدان في وقود التدفئة (المازوت) أو الطهي المنزلي (الغاز).

● حرق وتخريب العديد من المعامل والمنشآت الصناعية والذي أدى إلى تسربات من وقود الحرق، والمواد الأولية الكيميائية  إضافة إلى انبعاثات هائلة من الغازات السامة الناتجة عن الحرق التخريبي والاحتراق العشوائي الناتج عن العمليات الحربية في المناطق التي تعرضت لكل أشكال القصف والتدمير.

القرارات العشوائية وغير المدروسة والأمثلة كثيرة من تلك القرارات وعلى سبيل المثال: نقل المنشآت الصناعية إلى المناطق الآمنة مع عدم العمل على إحداث مناطق صناعية وما يستلزمها من بنى تحتية، السماح باستيراد بعض التجهيزات والمعدات المستعملة مع وجود الخلل في آليات مراقبة الكفاءة الفنية،  فوضى إغراق السوق المحلية بالبضائع الرديئة النوعية وغير الصالحة للاستعمال وليس لنا في البطاريات الجافة بمختلف قياساتها واستعمالاتها  ووسائل الإنارة القابلة للشحن وما تحويه من عناصر ثقيلة تدخل في صناعتها إلا مثال بسيط.

طبعا العشوائيات السكنية التي نمت بشكل متضخم جداً مع غياب كل وأي سلطة رقابية وهي التي كانت لاتخبئ نفسها في ظل وجود تلك السلطات الفاسدة. تلك العشوائيات الجديدة التهمت من الموارد الطبيعية ولا سيما الأراضي القابلة للزراعة مئات الهكتارات في دمشق وريفها، وهي في الوقت نفسه أصبحت بؤراً جديدة لإعادة ضخ أشكال من التلوث البيئي ليس أقله شبكات مفتوحة من الصرف الصحي و النفايات المنزلية الصلبة وما قد ينشأ عنها من أمراض وبؤر مرضية متأزمة.

ختاماً، نأتي للكارثة الأكبر والتي لا يمكن تحديد حجمها الأفقي والشاقولي ربما لعشرات السنين بعد أن تضع الأزمة أوزارها: إنها النفط والمنشآت النفطية. منذ الأيام الأولى للأزمة التي تحولت إلى حرب كان هناك إصابات مباشرة أو متعمدة للمنشآت النفطية وخطوط نقل النفط والمشتقات النفطية وليست حادثة سد تلحوش هي الأولى في تموز 2011 ولكنها كانت المؤشر الأول على التعديات على خطوط النفط من ناحية وعلى المعالجة غير المدروسة لآثارها من ناحية أخرى.

التفجير أسفر عن حدوث أضرار وخسائر كبيرة وتعطيل عمليات ري المحاصيل الزراعية من خلال إحداث تلوث نفطي في السد وقنوات الري مع العلم أن سد تل حوش يروي 6000 هكتار من الأراضي الزراعية موزعة بين محافظتي طرطوس وحمص وتبلغ طاقته التخزينية 53 مليون متر مكعب من المياه. وتبين وجود بقعة من النفط ضمن مياه السد ولوحظ نفوق العديد من أسماك السللور وبعض الطيور المائية وتخريب الموئل الطبيعي للعديد من مكونات التنوع الحيوي في الجزء الملوث من المياه الذي يشكل السد البيئة الطبيعية لها. ‏ بلغت مساحة المنطقة الملوثة بالمواد النفطية حوالي 15 ألف م2 تركزت عند ذيل البحيرة في الجهة الشرقية منها بعيداً عن جسم السد ولم تصل إلى جسم السد أو المأخذ المائي لشبكة الري.

أما ما يحدث من سرقة  النفط الخام فسيكون له تداعيات خطرة على صحة الإنسان والبيئة، إذ تؤدي التعديات على الآبار النفطية إلى تلوث مساحات كبيرة في المناطق المحيطة بهذه الآبار نتيجة فتحها بطريقة عشوائية بغية تجميع النفط في الحفر المجاورة لها بهدف تعبئة  صهاريج وآليات لا تتمتع بالحد الأدنى من الأمن والسلامة وهذا يؤدي إلى تلوث الطرق الأسفلتية والترابية وانطلاق الغازات الهيدروكربونية وتسرب المياه الطبقية المفصولة التي تحتوي على المواد المشعة والسامة والتعرض لمخاطر حدوث حرائق أثناء سرقة النفط والغازات الناجمة عنه ويضاف إلى ذلك المخاطر الناجمة عن مخلفات المصافي البدائية الصنع. مع العلم أن المياه الطبقية المفصولة التي يتم طرحها وأحيانا استعمالها لأغراض بشرية ليس أقلها التغسيل تحتوي على مواد مشعة وهي تحتاج إلى معاملة خاصة لناحية المعالجة والتخلص منها. يضاف إلى ذلك أن هناك عادة ساحات مخصصة  للتخلص من المعدات والأنابيب الحاوية على مواد مشعة والتي يعمد البعض من السارقين إلى الاتجار بها على أنها «خردة» دون معرفة منهم بالأبعاد الخطيرة جداً لما ستسببه من مخاطر صحية لن تظهر آثارها الحقيقية والكامنة إلا في عشرات من السنين.


 د. موفق الشيخ علي : خبير بيئة وإدارة موارد طبيعية.