الموت على الرفوف
اعتدل الصحفي في جلسته وكرر السؤال من جديد: «كيف ترون مستقبل المحاصيل المعدلة وراثياً؟ ماهي استراتيجيتكم لمواجهة المعارضة القوية لهذا النوع من المحاصيل؟»، كان السؤال موجهاً لـ«دون ويستفيل» أحد كبار المستشارين في مجال الزراعات المعدلة وراثياً، ابتسم الرجل واستغرق قليلاً في التفكير
لقد كان السؤال مشروعاً ومحقاً، فهو يمثل الكابوس الأكبر لداعمي المحاصيل المعدلة وراثياً حول العالم التي لاقت استهجاناً كبيراً في الأوساط العلمية على تنوعها، كما أن النشرات العملية تحذر على الدوام من مفاعيلها السلبية والمميتة على جسم الإنسان، أجاب «دون» جواباً صادقاً من القلب، لكنه أعلن بإجاباته هذه بداية عهد جديد من التسويق الخطر والواسع الانتشار لهذه المحاصيل، قال: «إن أملنا الأكبر في مجال الزراعات المعدلة وراثياً، هو أن تنتشر مثل هذه المنتجات في الأسواق، لتملأ الرفوف، وتغمر المحلات، عندها لا يعود بالإمكان فعل شيء، لن يعود هناك خيار آخر وسيستسلم الجميع، إنه ليس حلماً وردياً نريده هنا جميعاً، إنها إستراتجيتنا الأساسية التي لن نتخلى عنها».
استراتيجية متجددة
كان ذلك في العام 2001، أي إن هذه «الاستراتيجية» ليست وليدة اليوم أبداً، وما زالت الحرب دائرة بين داعمي هذا النوع من المنتجات ومموليها، وبين الرافضين لها والمتشبثين بالاستنتاجات البحثية الدورية التي تثير العديد من الجوانب الصحية المميتة في تلك المنتجات، فمن غير المعقول أن يمضي شهر واحد دون أن تكتشف مؤسسة بحثية مرضاً جديداً أو تفاعلاً خطيراً في جسم الإنسان قد تحمله المحاصيل التي عدلت وراثياً، لكن هذه النداءات لا تلق الاهتمام الكافي ولا الدعم اللازم لمواجهة الماكينة الإعلامية التسويقية لكبريات الشركات الداعمات لمثل هذا التوجه، وعلى رأسها، حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عبر جهود وزارتي الخارجية والزراعة، لم يعد الأمر مقتصراً اليوم على الحدود المعهودة، إن الجهود تتركز اليوم على تسويق تلك المحاصيل حول العالم، مهما كلف ذلك من فرض للثقل السياسي أو كسر للقوانين المعروفة بين الدول.
لكن، هل تستحق المنتجات المعدلة وراثياً مثل هذا العداء؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في مختبرات البحث العلمي حول العالم، والتي أخضعت هذه المنتجات إلى أقسى الفحوصات لتزيل عنها الغلاف البراق الذي أحاطته بها شركات التسويق في كل مكان، وكان أحدها إثبات صلة هذه المنتجات بمرض الباركنتسون وأنواع متعددة من الأورام السرطانية الخبيثة، بالإضافة إلى العقم الدائم، حيث نشرت مجلة «ُEntropy» العلمية هذه النتائج بالذات في العام الماضي وأضافت بأن بعض المواد الكيميائية الموجودة في المنتجات المعدلة وراثياً ستعمل على زيادة فعالية أي ملوثات كيميائية أخرى موجودة في المحيط الذي تزرع فيه مثل تلك المنتجات، والتي تنتقل عادة عبر تلك المزروعات لكن بكميات مقبولة وبتأثير محدود، أي أن تأثيرها السمي سيتضاعف بعد أن اجتذبت مثيلاتها من السموم الأخرى من حولها، كما أن الصحافة الأرجنتينية قد أعلنت زيادة مطردة في معدل التشوهات الخلقية وفي أعداد المصابين بأنواع محددة من الخلايا السرطانية بعد أن ثبت تعرضهم للمنتجات المعدلة وراثياً.
تسرب إلى الحقول
لقد عارضت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة بوزارة الزراعة زراعة القمح المعدل وراثياً للأغراض التجارية داخل البلاد وخارجها، لكنها أعلنت في العام الماضي اكتشافها بعض الحقول التي زرعت بالقمح المعدل وراثياً منذ العام 1994 برعاية شركات خاصة، وقد «تسرب» قسم منها إلى الأسواق المحلية في ولاية أوريغون التي استضافت ذلك الحقل بالإضافة إلى أربع عشرة ولاية مجاورة، وأصبح مفعولها مشابهاً لأي تلوث كيمائي نراه في الطبيعة، فقد انتشرت في الأسواق وأحدثت ضجة كبيرة، كما عاودت الحكومة الأمريكية ووافقت على أنواع معدلة وراثياً من الأرز في العام 2006 والتي ما زالت في التداول إلى الآن، أما في الهند فقد أعلن العالم «بوشبا بارغافا» عن انتشار أنواع معينة في من المحاصيل المعدلة وراثياً و«المجهولة المصدر» كان قد أعدها في لائحة طويلة في العام 2005، وأفاد بأن العديد من المزارعين البسطاء قد قبلوا بـ«صفقات» مربحة، تحوي «بذوراً خاصة» قد تضاعف من أرباحهم، وبين بأن تأثير تلك المحاصيل لم يقتصر على سمية المنتجات عند استهلاكها من البشر بل تركت مفعولاً تراجعياً في دورة الزراعة في تلك القرى وألحقت بالأرض دماراً واضحاً بعد أن خلفت سمومها في التربة.
على كل حال، لن يؤثر ذلك على مصير تلك المنتجات، لأن الحرب قد بدأت بالفعل، وميدانها للأسف بعيد عن المختبرات العملية والمؤسسات البحثية، وهاهي المحاصيل قد انتشرت حول العالم دون أن يعلم أحد مدى التأثير الذي أحدثته في الطبيعة والإنسان، لقد اختار البعض نمطاً سريعاً من الربح قد يوفره مثل هذا النوع من المحاصيل، ولن يهتم أحد بالأضرار المميتة التي ستلحق بالجميع، يظن المعارضون الأشداء لمثل هذه المنتجات بأن الكثير منهم قد خسر المعركة بالفعل، لإنه قد تعرض للملوثات الكيميائية في تلك المحاصيل دون أن يعلم، ومنذ زمن بعيد، بعد أن فعلت «استراتيجية» تلك الشركات الكبرى فعلتها، وبعد أن لوثت التراب والهواء والغذاء والماء والإنسان أيضاً من أجل حفنة إضافية من الدولارات، وحتى نستسلم جميعاً، كما أراد «دون».