العطاس القاتل
قارب الشتاء على الانتهاء، لكن الطقس البارد ما زال مسيطراً على الكثير من المناطق، وما زلت ترى العديد من أصدقائك وهم يصارعون النوبات المتتالية من «الإنفلونزا»، تزداد هذه النوبات قوة وعناداً مع مرور السنين، وها هي الأخبار تتوالى من كل مكأن عن أنواع جديدة ومركّبة من هذا الفيروس، «إنفلونزا الخنازير»، «إنفلونزا الطيور»
بالإضافة للعديد من الأمراض الفيروسية التي ضربت المنطقة والعالم ، من فيروسي «كورونا» و «ميرس» في دول الخليج إلى عودة حالية فيروسية جديدة حصدت في مصر حياة ستة أشخاص في أربعة أيام و تسعة وستين خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، ففيروس الإنفلونزا بالذات سريع الانتشار ومقاوم شرس للأجهزة المناعية بعد أن يتزاوج مع سلالات أخرى، وقد شهد العقد الأخير موجات متلاحقة من «الاعتداءات» الفيروسية على الإنسان وبقية النظم الحية في أماكن بدت محدودة وفي أوقات حرجة، كما أن طبيعة تلك الفيروسات وسبل أنتشارها جعلها من أهم نظم الأسلحة الخفية بين الأمم، فالأسلحة الجرثومية والفيروسية ليست حديثة العهد على الإطلاق.. وفي التاريخ أمثلة واضحة على ذلك.
منذ سنة تقريباً، تناقلت وكالات الأنباء العالمية تصريحات شديدة اللهجة صدرت عن أحد ضباط القيادة العسكرية الصينية، كانت الصين وقتها ترزح تحت اجتياح واسع النطاق لفيروس «إنفلونزا الطيور»، كان تصريح الكولونيل في إدارة القوى الجوية الصينية «داي تزو» واضحاً ومباشراً «إن الفيروس الذي يهاجم الأراضي الصينية هو جزء من اعتداء أمريكي بيولوجي سافر»، وعلى الفور انتشر الخبر في كل مكان، إلى أن أصدرت وزارة الخارجية الامريكية تصريحاً مقتضباً ينفي هذه «الادعاءات»، لكن هذه الحادثة أعادت إلى الأذهان تصريحات أخرى صدرت عن الحكومة الصينية عندما ضرب فيروس SARS الصين وأجزاء أخرى من آسيا والذي كان له تأثير واسع في شل العديد من المرافق والمؤسسات مما حدّ من معدلات النمو الاقتصادية النامية وألقى بظلاله على حركة الأسواق وأسعار الأسهم، توجهت أصابع الاتهام وقتها أيضاً للحكومة الأمريكية التي كانت تعاني من أزمة اقتصادية حادة آنذاك، حيث جاءت أرقام الصين المتراجعة على طبق من ذهب بالنسبة للاقتصاديين الأمريكيين.
أسلحة بيولوجية فعالة
على كل حال، لا يمكن تجاهل دور الولايات المتحدة الأمريكية بالذات في تحويل الأمراض وفيروساتها إلى أسلحة بيولوجية فعالة عبر مراحل متعددة في التاريخ المعاصر، إلا أن التاريخ يسجل لبريطانيا السبق في استخدامها منذ القرن الثامن عشر، بالتحديد في أعوام (1754-1763) من حربها مع المستعمرات الفرنسية على الأراضي الأمريكية الجديدة، حيث أظهرت مراسلات القائد العام للقوات البريطانية «جيفري امهيرست» لأحد معاونيه الميدانيين نية البريطانيين استخدام فيروس الجدري ضد الهنود الأصليين المتحالفين مع القوات الفرنسية آنذاك، قالت إحدى الرسائل : «ألم تستطع إرسال الجدري إلى الهنود بعد؟ عليك استخدام كافة الوسائل للتقليل من عددهم» فكان الرد: «سأعمل على إيصال بعض البطانيات الملوثة بالجدري إلى صفوفهم بطريقة غير مباشرة، سيبدو الأمر وكأنهم وجدوها وحدهم، وسأعمل على عدم تلويث جنودنا بها أيضاً قدر الإمكان»، وهذا ما حدث، أصيب الهنود الأصليون بمرض جديد كلياً قضى على جهازهم المناعي وأرسلهم بعيداً عن المعارك.
برنامج جرثومي سري
ويسجل التاريخ عن طريق الكثير من الوثائق المسربة قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير برامج سرية للأسلحة البيولوجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت النتائج الأولى مروعة في حروب فيتنام كحقل مثالي للتجارب، كما لم تخف العديد من الصحف في تلك الفترة نشر الوثائق التي تثبت تورط وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في تنظيم برنامج جرثومي سري يستهدف الجارة المزعجة "كوبا" وسجل العالم الأمريكي «وليام سكاب» في العام 1981حالات لحمى الضنك (Dengue fever) وهو مرض فيروسي ينتقل عن طريق لدغة بعوضة وذلك على الأراضي الكوبية، وسجل اختفاء أي حالة إصابة في الجزر القريبة كهاييتي والدومينيكان وتابع ليسجل أكثر من 300 الف حالة إصابة في مناطق متعددة من كوبا ثم سجل تصاعداً وصل لعشرة آلاف إصابة يومياً في تموز من العام 1981 ثم تراجع ليتلاشى فجأة كما بدأ، بعد أن خلّف الآلاف من الضحايا، لم يخف هذا العالم يقينه من أن هذا الفعل متعمد كنوع من الحرب البيولوجية بعد أن استعرض قدرة هذا الفيروس الهائلة على الانتشار والتأثير مما يجعله المرشح المثالي لمراكز الأبحاث الدفاعية الأمريكية المهتمة بتطوير ونشر الأسلحة البيولوجية.
أمراض جلدية مجهولة
لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن تطوير الأسلحة البيولوجية وتجربتها داخل وخارج أراضيها، حيث سجلت حالات إصابة الحيوانات في فنزويلا بأمراض جرثومية بعد أن تم حقنها وإطلاقها في البراري لتعمل على عدوى غيرها، كما سجلت العديد من البلدات في ولاية يوتاه القريبة من مراكز الأبحاث البيولوجية في جبال «روكي» الأمريكية أعراضاً جرثومية لا تنتمي لطبيعة المنطقة مثل الملاريا ومثيلاتها من الامراض المدارية، بالإضافة لحالات مجهولة من الأمراض الجلدية، وانتشر اسم مركز «دوغوي» في تلك الولاية كأحد مراكز تجربة الأسلحة البيولوجية على الأراضي الأمريكية لكن الموضوع قوبل بتعتيم إعلامي متوقع.
يبدو من السذاجة تفسير إصابة أي منا بفيروس الإنفلونزا على أنه ضحية لـ«حرب بيولوجية كبرى»، إلا أن قوة مثل هذا النوع من الفيروسات وقدرته المثير للاهتمام على تجاوز معظم أنواع الإجراءات الوقائية كانت وما تزال موضع الدراسة والتطوير، وهي جزء من الترسانة العسكرية المستقبلية للقوى الكبرى، مستفيدة من تطور أبحاث الخلايا والأحماض الأمينية، لتخلق ساحة حرب صامتة تقتل بالجملة وتحيد كيانات اقتصادية كبرى عن خطط التطوير والتقدم، ساحة صامتة قد يعكر صفوها صوت عطاس أحدهم من هنا، أو سعال الآخر من هناك..