عصر الصورة
منذ أن بدأ التلفزيون يطغى على الإذاعة، أضحى واضحاً أن الصورة تطمس الصوت، فالصورة هي الملكة، هذا هو الاعتقاد السائد، الصورة تساوي ألف كلمة، هذا هو القانون الأساسي للإعلام، الذي لا تتجاهله السلطات السياسية، بل تحاول أن تستغله لمصلحتها
ويتجلى ذلك في حرصها الشديد على منع تداول أية صورة تخص المسائل الشائكة أو المثيرة للشبهة، -وهذا دون أدنى شك، شكل من أشكال الرقابة- في حين أن المقالات المكتوبة، والشهادات الصوتية قد يسمح بنشرها، عند الضرورة، لأنها لن تولد أبداً التأثير نفسه
إن وزن الكلمات لا يساوي صدمة الصور، وكما يؤكد خبراء علم التواصل: عندما تكون الصورة قوية ومؤثرة فهي تطمس الصوت، وتتغلب العين على الأذن، ولهذا باتت بعض الصور اليوم خاضعة لرقابة صارمة، وبتعبير أدق نقول إن بعض الحقائق ممنوعة منعاً باتاً عن الصور، وهذا ما يشكل الوسيلة الأنجع لحجبها، لا صورة تعني لا حقيقة.
مواجهة بين منهجين
نحن الآن أمام مواجهة بين منهجين: الأول يستند إلى مقولة «كله صورة» ويريده التلفزيون، بينما يقول المنطق الثاني بمنطق «اللا صورة» وتتبناه السلطات. الأول يقود إلى تجاوزات صارت تتكرر بتواتر متزايد للضرورة الملحة للحصول على الصورة، أخذت في النهاية تقود إلى اختلاق صور مزورة واللجوء إلى صور من الأرشيف، واستخدامها بطرق غير دقيقة وهناك أمثلة عديدة على ذلك، أو حتى اختلاق مشاهد بالكامل وتمثيلها مع ممثلين كما في صورة أطفال الغوطة التي ينهضون في نهايتها وهم يضحكون، وكذلك الاستعانة بهواة تصوير مبتدئين التقطوا «مباشرة» أحداثاً لا أهمية تذكر لها «لحظة وقوعها».
أما المنطق الثاني، منطق «اللا صورة» فهو يثير التساؤل: هل هو رقابة بالمعنى التقليدي للكلمة؟ لا يمكننا في الواقع ادعاء ذلك، إذ أن أي دولة حين تسن التشريعات الناظمة لإنتاج واستخدام الصورة –لا يسمح لك بتصوير كل ما تريد بالطريقة التي تريد، أو يطلب الحصول على موافقات خاصة لإدخال كاميرات التصوير إلى المستشفيات والسجون والثكنات ومخافر الشرطة ومصحات الأمراض العقلية- لأن الأمر يتعلق باحترام الشخصية الإنسانية.
لكن ما يذهب أبعد من ذلك هو المنطق الذي يرغب في توسيع دائرة المنع ليطال كل مناطق المعارك دون استثناء، وهذه مسألة مختلفة تماماً، إذ أن الحرب أياً كانت، شأن يتعلق بالسياسة والسياسيين، وبالتالي فهو يعني المواطنين بشكل مباشر، ولهؤلاء واجب الاستعلام ولهم الحق في أن يكونوا على علم.
طبول كونية
لقد جاء تجابه هذين المنهجين المتناقضين في وقت أصبح فيه التلفزيون قادراً، بفضل التطورات التقنية الهائلة والمتسارعة، على عرض صور من كل أنحاء العالم، في بث حي ومباشر. ويستطيع التلفزيون أن يتابع الأحداث أثناء حدوثها، أكانت أحداثاً متفرقة أم أزمات دولية، وبمقدوره أيضاً كما تفعل القنوات واسعة الانتشار أن توجه أنظار العالم إلى حدث ما – قضية كلينتون لوينسكي- جاعلاً منها القضية المركزية للعالم أجمع، وذلك عبر تحريض ردود الفعل لدى كبار القادة، والشخصيات المعروفة، ومن خلال إجبار وسائل الإعلام الأخرى على اللحاق به وتضخيم أهمية الحدث، وتأكيد خطورته، وإقناع الرأي العام بأن إيجاد حل له بات ضرورة قصوى.
لا أحد يستطيع الإفلات من جوقة الطبول هذه، من ضربات إيقاع «تيان آن من وجدار برلين ورومانيا ورواندا وديانا ولوينسكي وتونس ومصر وسورية» فهم يشكلون المقام الموسيقي للخبر ويصنعون له إيقاعاً صاخباً من الشدة بحيث يجعل كل الأخبار الأخرى تنمحي، تخفت وتتلاشى، ويصل الأمر إلى حد أن أحداثاً قد تتوارى وتختفي خلف حجاب وسائل الإعلام –كأحداث وول ستريت- وتفقد اهتمام العالم.