لمحات من الإبـداع الـعلمي
في كتابه المعنون «لمحات مـــن الإبداع العلمي» والصادر عن الهيئـة العامة السورية للــكتاب يتحدث الكاتب محمد وائل بشير الأتاسي فيقول «إن الحديث عن جانب إبداعي في العلم، يؤدي بنا تلقائياً إلى الحديث عن المنهج العلمي نفسه لكشف مواضع الإبداع فيه.
وهذا ما يضطرنا إلى إجراء مقارنة بين طرق الوصول إلى العطاءات العلمية في مختلف العصور؛ فبهذه المقارنة نستطيع إظهار الفارق الأساسي بين ما كان يسمى علماً في العصور القديمة التي سبقت عصر النهضة الأوربية، وبين ما هو متعارف عليه حالياً بأنه العلم - وأقصد العلم المحض: الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، إضافة لما يلحق بها من رياضيات. لأن هذا الاختلاف يكاد ينحصر في درجة اليقين في كل منهما.
إن طرق البحث واحدة تقريباً، فالملاحظة والاستقراء والفرضية والتجربة موجودة في كل العصور، إلا أن القدماء كانوا يقفزون مرة واحدة إلى البحث عن علل الظواهر قبل إعطاء وصف دقيق لها يُستعان فيه بمفاهيم محددة وكمية إن أمكن. والأخطر من ذلك اعتمادهم أحياناً على أفكار غيبية كالتنجيم وما إلى ذلك، أو الانطلاق من مقولات فلسفية يبنون عليها استنتاجات غامضة لا صلة لها بالواقع، كطبيعة الأشياء عند أرسطو التي تجعلها تسقط على الأرض، أو مباشرة التجريب دون هدف محدد. أما بشأن ما هو متبع حالياً، فينصحنا أينشتين بما يلي: «إذا أردت معرفة أي شيء عن المناهج التي يتبعها علماء الفيزياء النظرية، فيحسن بك التمسك بمبدأ واحد: لا تثق بأقوالهم، بل ركز انتباهك على أفعالهم».
ويقول العالم اللبناني الأصل بيتر مدور، الحامل لجائزة نوبل، في كتابه (الاستقراء والحدس في المنهج العلمي) في إجابته عن السؤال «هل ثمة منهج علمي أصلاً يتبعه الجميع» بقوله: «أما لماذا لا يحفل معظم العلماء بتقديم دراسة للمنهج العلمي، حتى إنهم يزدرون هذه الدراسات، فذلك لأن ما يطلق عليه المنهج العلمي هو تصوير خاطئ لما يفعله العلماء أو لما ينبغي عليهم أن يفعلوه».
إن المنهج العلمي المتبع حالياً، الذي يثبت جدواه في كل يوم فلا يختلف كثيراً عن منهج أرخميدس: إنه ملاحظة، ثم عملية تتناوب فيها الملاحظة والحدس والفرضية والاستنتاج والاستقراء والتجربة. وبترتيبات مختلفة. لذلك لا توجد خطوات محددة ملزمة يجب أن يتبعها الباحث بترتيب ملزم.
بل إن الموضوع نفسه وما سلف من معطيات حوله هو ما يوحي للباحث بالطريق الذي يجب أن يسلكه، وهذا على الأرجح ما قصده بيتر مدور وكذلك أينشتين حين قالا إنه لا يوجد منهج علمي محدد.
فالبحث العلمي عملية معقدة تحتاج من الباحث تجنيد كل ما وهبته الطبيعة من إمكانيات عقلية ومهارات يدوية وقدرات على الابتكار في المجالين العقلي والعملي، والإبداع في هذين المجالين هو ما يميز المنهج العلمي الحديث الذي تكامل على أيدي كبلر وغاليليه وأصبح جلياً عند نيوتن.