كابوس البلاستيك وصل إلى نهايته؟

كابوس البلاستيك وصل إلى نهايته؟

أخيراً، صار البشر قادرين على الخلاص من قناني البلاستيك التي تتكاثر بمعدل مليون في كل دقيقة، بعد عقود من عجزهم المُعلَن عن تخليص البيئة منها. أو ربما لا؟ في عقول من يتأمل في واقع أن تلك القناني المخيفة غير قابلة للتفكيك ولا التحلّل، ويذهب معظمها الى البحار والمحيطات، تكون الإجابة هي نعم، مع كثير من الرغبة والتمني والحلم.

في مختبر علماء من بريطانيا واليابان، كانت الإجابة أخيراً هي: نعم... ولكن! هناك دوماً في العلم ذلك الـ»لكن» الذي يعني أن للعلوم حدوداً، تعمل العقول على توسيعها باستمرار، ما يعني أنها تبقى باستمرار. في المختبر، وفق ما تداولته وسائل الإعلام بدقَّة متفاوتة، ركّب فريق علمي ياباني- بريطاني «إنزيماً» أثبت أنه يستطيع تفكيك البلاستيك الذي تصنع منه قناني الماء والعصائر وما يشبهها. بسرعة، لم يكن التوصل إلى ذلك صدفة محضة، كما خطر لبعض الإعلام أن يقول. كان ممكناً الحديث عن «الصدفة» في العام 2016، عند اكتشاف علماء البيولوجيا «صدفة» نوعاً غير مألوف من البكتيريا تستطيع التهام عبوات البلاستيك.

لماذا كلمة صدفة بين أهلِّة؟ لأنها ليست صدفة بالمعنى التقليدي الشائع. في ذلك العام، كان فريق علمي ياباني يعمل ليل نهار في بحوث عن أنواع البكتيريا والطفيليات التي تتكاثر في مكبات النفايات. كانوا يأخذون العينات من مئات الأمكنة في مكب القمامة، ويحللوها في المختبر. كانوا يراقبون بدأب كيف يتغير البلاستيك، خصوصاً عبوات السوائل، أثناء وجودها في المكبّات، وتفاعلها مع بقية مكوِّنات النفايات. بعد ذلك العمل المضني، لاحظوا نوعاً من البلاستيك يتآكل ويتحلل، تحت تأثير بكتيريا لم تكن معروفة لديهم آنذاك. واستطاعوا أن يعزلوا تلك البكتيريا، وأجروا تجارب متواصلة للتثبت من أنها تلتهم العبوات البلاستيكية بنفسها. وكانت تلك نقطة الانطلاق لبحوث عن تلك البكتيريا الملتهمة للعبوات، استمرت قرابة سنتين.

صدفة؟ أعد التفكير بالأمر

ربما يفيــــد التأمل في تلك الوقائع، لرسم صورة عن معنى «الصدفة» في العلوم الحديثة. هناك مثل شائع عن الصدفة في اكتشاف البنسلين على يد الباحث الانكليزي ألكسندر فليمنغ. وعلى رغم أن الصدفة لعبت دوراً كبيراً في ذلك الاكتشاف، إلا أن قليلاً من التدقيق في مجرياته يشير إلى أنها لم تكن مجرد ضربة ظهرت من اللامكان، كصاعقة انقضَّت من سماء صافية، وفق تعبير مشهور. كان فليمنغ اختصاصياً وعالماً، ويعمل في مختبر مختص، وتتمحور بحوثه على البكتيريا. وانخرط في تجارب شتى لاكتشاف شيء بإمكانه أن يضرب تلك الكائنات المجهرية الدقيقة التي تسبب ما لا يحصى من الأمراض للبشر. وفي عطلة عيد الميلاد ورأس السنة، نسي فليمنغ أحد السندويشات في المختبر. وتكاثرت فطريات العطن على الخبز، وتطاير بعض منها إلى الأطباق التي كان فليمنغ يربي أنواع البكتيريا فيها. بقية القصة معروفة. عند عودته، لاحظ فليمنغ أن البكتيريا ماتت في الأمكنة التي وصلها بعض من العفونة الخضراء التي نمت على الخبز. كانت تلك نقطة انطلاق أخرى لبحوث طويلة لاكتشاف سبب موت البكتيريا من عفن الخبز. وجرى البحث عن المادة التي تسببت في موت البكتيريا. وبتلك الطريقة، ظهر البنسلين.

كم هي نسبة الصدفة في ذلك الاكتشاف؟ على كم رأس وقع وتفاح وأجسام اخرى لا حصر لها، قبل أن يفكر عالم الفيزياء والرياضيات الانكليزي اسحاق نيوتن بالجاذبية سبباً لذلك السقوط؟ من دون أن يكون نيوتن على ذلك المستوى العلمي، هل كان له أن يكتشف قوانين الجاذبية بمجرد حدوث «صدفة» سقوط تفاحة على رأسه؟

لنعد إلى البلاستيك. لنعد إلى البكتيريا التي اكتُشِفَت في مكب نفايات ياباني في 2016، وتبين انها تستطيع تفكيك نوع من البلاستيك («بولي إثالين تيرفثالييت» polyethylene terephthalate، ويعرف اختصــــاراً باسم «بي إي تي» PET)، هـــــو الأكثر استخداماً في صنع عبوات المـــاء والمشروبات. آنــــذاك، لاح أمل بتحسين طرق إعادة تدوير تلك العبوات، لأن 14 في المئة يخضع للتدوير لكن لا يصل الأمر إلا للحصول على ألياف تستعمل في أنسجة الثياب والسجاد.

ووفق البحث الذي وثَّقَته مجلة علمية مرجعية تابعة لـ»الأكاديمية الوطنية للعلوم» في بريطانيا (اسمها Proceedings of National Academy of Sciences)، توصل علماء في بريطانيا (جامعة «بورتسموث») واليابان (جامعة «كييوو»)، إلى التعرُّف الى الإنزيم الذي تفرزه البكتيريا، ويعمل على تفكيك بلاستيك العبّوات.

وبرزت مشكلة في التعرّف إلى تركيبته، لأنه بدا معتماً دوماً تحت عدسات الميكروسكوبات، حتى الأشد قوة بينها. وفي استفاد الفريق من مصدر ضوء اصطناعي توصل إلى ابتكاره مختبر بريطاني متقدم يعمل في فيزياء الذرات («دياموند» Diamond)، يعطي ضوءًا أشد إنارةً من ضوء الشمس بقرابة عشرة بلايين مرَّة!

تحت ذلك الضوء الكاشف المبهر، انكشفت تركيبة الإنزيم الملتهم لبلاستيك العبّوات. وعمل العلماء على تركيبه اصطناعياً. ثم لاحظوا أنه يستغرق وقتاً طويلاً كي يفكك البلاستيك. وانكبوا على بحوث لإحداث تغييرات في تركيبة الإنزيم، تجعله قادراً على «أكل» البلاستيك، بسرعة. وبعد بضع تجارب تضمنت تعديلات متنوّعة في تلك تركيبة، ظهر الإنزيم الذي يقدر على الالتهام السريع الـ«بي إي تي» المستخدم على نطاق واسع في صنع العبوات التي تمثل خُمس الكمية الاجمالية للبلاستيك.

واقتـــرب البشر خطوة للخلاص من كابـــــوس تلك العبوات، لا ينقصهم سوى أن يثبت الإنزيم فعاليته في تفكيك كميات كبيرة من البلاستيك، ولا يقتصر أمره على الفعالية في أطباق المختبر. في ذلك الصدد، أبدى البروفسور جون ماكغين الذي ترأس الفريق العلمي العالمي، تفاؤله بالقدرة على الإنزيم المزيل للـ»بي إي تي»، خلال سنوات قليلة.

هل تخاف أرقام البيئة وأخطارها؟ إذاً لا تقرأ الآتي

إذا كنت ممن يخافون مواجهة الأرقام المتصلة بالمعطيات الكوارثية عن البيئة، فلا تقرأ الأرقام التي تتحدث عن البلاستيك. ربما لأنها الأشد مرارة. ربما لأن البلاستيك بأنواعه لا يتفكك طبيعياً، بل يجثم بثقله على مياه المحيطات والبحار والأنهار، مهدداً المياه والبشر والكائنات البحرية وغيرها.

- إذا رصّت عبوات المياه المباعة عالمياً بعضها بعضاً بشكل طولي، فإنها تصنع خيطاً يصل إلى نصف المسافة بين الأرض والشمس!

- ينتج العالم سنوياً 311 مليون طن من البلاستيك، تتساوى وزناً مع مجموع أوزان البشر كلهم.

- يتوقع أن يُستَهْلَك نصف تريليون عبوة بلاستيكية بحلول العام 2021.

- تحتوي المحيطات على قرابة 150 مليون طن من البلاستيك، تحوي 23 مليون طن من المواد الكيماوية المضرة وغير القابلة للتحلل.

- هناك 6 شركات كبرى للعبوات البلاستيكية التي تحتوي على مياه ومشروبات وعصائر («كوكاكولا»، و«بيبسي كولا»، و«صانتوري»، و«دانون»، و«دكتور بيبر سنابل» و«نستلة»)، تنتج خمس منها 2.16 مليون طن من عبوات البلاستيك سنوياً. وتمثل مياه الشرب الكمية الأكبر من تلك العبوات.

- إنتاج عبوات من بلاستيك مُعاد تدويره يستلزم 75 في المئة من الطاقة التي يتطلبها إنتاجها من دون إعادة تدوير. ومع ذلك، لا يعاد تجمع سوى نصف العبوات البلاستيكية، ولا يعاد تدوير سوى شطر يسير منها.

- في 2015، اشترى الصينيون 68.4 بليون عبوة مياه، وارتفع الرقم إلى 73.8 بليون في 2016!

- يرمي البشر عشرين ألف عبوة بلاستيك كل ثانية. ويصل المحيطات قرابة عشرة ملايين طن من البلاستيك سنوياً. في 2050، سيفوق البلاستيك في المحيطات والبحار وزن ما تحويه من أسماك.

- يتسرب بلاستيك المحيطات والبحار إلى من يأكلون الأسماك والأصداف والأطعمة البحرية، ما يحمل تهديداً كبيراً لصحة البشر.

- بيع قرابة 840 بليون عبوة مياة شرب في 2016، وكان الرقم عينه 300 بليون قبل عشر سنوات. وفي 2021، يتوقع ارتفاع الرقم إلى 583.3 بليون عبوة.