حمام
عندما تبتعد الشمس عن البيوت، وينهزم لهيبها؛ وتكون مرغوبة للطير وللحيوان وللزرع وللإنسان، يفتح المُدرّب أبواب العشش التي يحتجز فيها الحمام. وكأنما الحمام يمتلك ساعة ميقاتية داخل صدوره الصغيرة. تُرفرف الأجنحة بالبهجة مع صوت حركة المفتاح. تنفلتْ أسراب الحمام مسرعة، تطير وراء ذيول الشمس. تملأ صدورها بنسيم الهواء. تدور في فضاءات مفتوحة. لا تقف في طريقها حواجز ولا تُقـيّدها أسوار. علـمها صاحبها الطاعة. إذا ابتعدتْ فبصفارة معينة يأمرها بالعودة، وبصفارة أخرى يأمرها بدخول العشش. كانت هواية تحوّلت إلى تجارة. في السنوات الأولى، كان يعشق صوت الهديل. صوت شجي أسيان. يوحي بالغموض والسحر ويثير الوجدان. ومع رفرفات الأجنحة تنتفض ضربات قلبه ببهجة غامضة. في الشهور الأخيــرة فترتْ علاقته بالحمام. الرفقة الحانية صارت عادة. والملل هزم البهجة.
في بداية العشق، كان يسحره دورات الحمام في الفضاء المفتوح. يرسم الحمام دوائر لا منظورة. دوائر يصنعها الخيال ويُصدّقهــا العقل. كان يُسمّيها دوائر الوهم الجميل. ورغم خبرته في تربية الحمام، فشل في معرفة سر البهجـة البادية في حركة الأجنحة التي تُرفرف بنشاط وتطير إلى هدف غير معلوم، وصانعـة تلك الدوائـر الوهمية التي يراها حقائق. وتشده حمامة شاردة ضلّتْ الطريق وانفصلتْ عن رفيقاتها. يتأمـل حيرتها وهي تطير وحيدة متخبّطة بلا هدف. تلف وتدور بعصبية. حركة جناحيها بلا انضبـاط، ترسم التوتر والحيرة والضياع. وعندما تلتحم بسربها تحل البهجة في قلب التأمل. في تلك السنوات البعيدة، كانت أسراب الحمام تعود إلى صاحبها بصفارة، مهما ابتعـدتْ، وبصفارة أخرى تدخل أعشاشها.
في الشهور الأخيرة، صارتْ الصفارة الواحدة عشرات الصفارات، حتى تعود لصاحبها، وعشرات الصفارات كي تدخل أعشاشها. في السنوات الأولى، كانت الساعة الميقاتية داخل صدور الحمام منضبطة على صفارة صاحبهــــا وأوامره. في الأيام الأخيرة، أصاب تلك الساعة الخلل. لم تعد أسراب الحمام تلتزم بصفارة صاحبها، مهما بدتْ الصفارة عصبية أو متوعّدة أو حتى مرعبة ومنذرة بالعقاب. في السنوات الأولى، كان دخول أسراب الحمام إلى أعشاشها، في الفترة بين اختفاء الشمس وحلول الظلام. ظلّ الموعد ثابتاً لا يتغير. أحياناً، يكون الفرق بضع دقائق في التبكير أو التأخير. في الأيام الأخيرة، حدث الخلل الذي أزعج المُدرّب الخبير. تساءل لماذا هذا الخلل في العلاقة بينه وبين الحمام، رغم كل تلك السنين مـن الانضباط والطاعة؟ منذ يوميْن كاد يفقد أعصابه، إذْ دخلتْ أسراب الحمام إلى أعشاشها بعد خمس عشرة دقيقة عـن الموعد المعتاد، رغم صفارة التهديد. وبالأمس، عاد الحمام بعد ثلاثين دقيقة من حلول الظلام، رغـم صفارة الإنذار بالعقاب. واليوم، اختفى الحمام تماماً. كانت المرة الأخيرة التي رأى فيها المـدرّب الخبير طيوره. وكانت المرة الأولى التي انطلق فيها الحمام إلى فضائه ولم يعد.