كيف يعمل إدراكنا للروائح؟
إننا نملك إدراكاً للرائحة يضفي نكهة على غذائنا، وعاطفة على ذكرياتنا، ويصلنا ببعضنا البعض. ولكن كيف يعمل هذا الإدراك بالضبط؟
كاثرين وايتكروف كاثرين وايتكروف

كيف يعمل إدراكنا للروائح؟

أعرف مخاطر التدخين. التبغ هو السبب الرئيسيّ في سرطانات الرأس والعنق، وهو ما قد يؤدي إلى تشوّه في العظام، أو الموت في أسوأ الحالات. وبوصفي جراحة أذن وأنف وحنجرة، فأنا أعلم بأنّ هذا المرض قد أدّى إلى أكثر الحالات تحدياً من الناحية العاطفية والتقنية خلال مسيرتي المهنية: السجائر هي الملومة منذ اليوم الذي أنقل فيه الخبر للمريض وأنا مترددة. السجائر هي الملومة عن بحّة الاختناق التي تصيب المرأة في الغرفة الجانبيّة، والتي لم يعد زوارها يميزوها. والسجائر هي الملومة عندما انفجر الدم من الشريان السباتي لدى الرجل ذو العينين الرماديتين. أنا أعلم بأنّ الدخان قاتل.

تعريب: عروة درويش

إذاً لماذا، عندما زرت منزل أحد المدخنين حيث لا تزال روائح السجائر القديمة عالقة، وملئت رئتيّ دون قصدي بها، قد انتابني شعور غير منطقي بالهدوء؟ ثمّ أتاني الجواب في نهاية المطاف: منافض مليئة ببقايا سجائر مارلبورو، وبجانبها مرهم لعلاج لسعات الحشرات ذو رائحة لاذعة، وأساور فيروزيّة اللون جميلة تحيط برسغي الذي يمسك بيد جدّي. هذه الرائحة هي «صدى مكان عظيم كنت فيه»، وهي تأخذني إلى منزل جدّي لأمي، حيث قضيت أكثر من صيف هناك في طفولتي.  

لكن كيف تؤدّي بنا الممرّات الدخانيّة إلى حيث تلك الصور؟ يكمن الجواب في التكامل الحسّي. هناك وراء الحواس الخمسة الحقيقيّة التي نحصل عليها من لساننا (الحلو والمالح والحامض والمرّ والأومامي)، فإنّ كل النكهات المعقدة والدقيقة للطعام يمكن أن يتم وصلها برائحتها: إنّها الجزيئات المتطايرة التي تتطاير من تجويف فمنا أثناء المضغ والتي تحفّز مستقبلات الرائحة في الجزء الخلفي من أنوفنا، وذلك من خلال عمليّة تدعى «الشم Olfaction». وعليه، فإنّ ما يدعى «أثر بروست»: هو قدرة الشمّ الفريدة من نوعها على إطلاق ذكريات عاطفيّة، منسيّة لكن حيّة، من ماضينا.  

لطالما أثارت اهتمام علماء النفس والفلاسفة وعلماء الأعصاب لسنوات مسألة القدرة على إثبات هذا الدور الشعري للرائحة. كان أوّل من نشر رسمياً بخصوص هذا الموضوع هو دونالد ليرد من مختبر علم النفس في جامعة كولغيت في نيويورك. كانت أعمال ليرد الأولى ذات طابع تجاري، لكنّه أصدر عام 1935 بالاشتراك مع زميله هارفي فيتز تقرير «ما الذي يمكنك فعله بأنفك؟»، أجرى فيه اختبارات شميّة على 254 رجل وامرأة من كبار السن. ومن بين هذه الفئة، استعاد 91.7% من النساء و79.5% من الرجال، ذكريات قديمة لهم بشكل أكثر وضوحاً.

واصل ليرد تقديم الحكايات الشخصيّة التي جمعها من المشتركين في التجارب. إحدى هذه الحكايات قالها محامٍ جنوبي: «إنّ رؤية هذه الأمور في بعض الأحيان تعيد لنا الأحداث، لكنّها تأتي دون شكل أو تمييز، فتكون أحداثاً ميتة. أمّا ما تعيده الرائحة فيأتي دون إلحاح ودون بذلك جهد من قبلي. يبدو الأمر أكثر من مجرّد استعادة ذكريات، فأنا أعود من جديد إلى العالم ذاته، وأكون أنا ذاتي».

في حين أنّ دراسات ليرد كانت مبهجة ومثيرة للاهتمام، فهي لا تقدّم أيّ دلائل تجريبيّة تدعم تفوّق الروائح على الإشارات الحسيّة الأخرى في إثارة ذكريات عاطفيّة حيّة. وعليه فإنّ فاعليّة الروائح في استحضار الذكريات هو أمر يجب إثباته.

 2:

نشرت أوّل محاولة لتحليل أثر بروست بشكل تجريبي عام 1984. أجرى باحثون في جامعة ديوك في كارولينا الشماليّة تجربتين تمّت فيهما مقارنة الذكريات الشخصيّة التي حفزتها الروائح، مع الذكريات التي حفزتها الصور أو الكلمات. وأظهر البحث أنّ ذكريات الرائحة، قبل التجربة، كانت أقلّ من تلك التي تطلقها الطرائق الحسيّة الأخرى. لذلك يبدو بأنّ الذكريات التي تسببها الرائحة هي مستحدثة ومنعزلة نسبياً: وهذا هو ربّما السبب في أنّ السعي النشيط لهذه التجارب لا يؤدي إلّا للقليل من إظهار الأثر.

وقد تمّ التوسّع في الموضوع في تجارب لاحقة، حيث بدا بأنّ الذكريات التي تثيرها الرائحة تنشأ في مرحلة الطفولة، وذلك على العكس من تلك المرتبطة بالمحفزات البصريّة أو المكتوبة، والتي تسود في مرحلة المراهقة والبلوغ المبكّر. لقد أظهر علماء نفس في جامعة براون عام 1977 هذا الارتباط بين ذاكرة الرائحة والسمات الأخرى: وجدوا بأنّ محاولة الربط الأولى بين الرائحة والصورة قد تمّ استحضارها بشكل أفضل من المحاولة الثانية. وعليه، يبدو بأنّ الذاكرة التي حفزتها الرائحة هي في الغالب «مفقودة منذ زمن طويل». وهذا يعيدنا إلى أحد المشاركين في تجارب ليرد:

عندما اختبرت نفسي، أعدت إحياء عالم من الأشياء المنسيّة، وأدركت بأنّ الروائح قد حفظت الأشياء على قيد الحياة في رأسي لسنوات. يبدو مهمّاً أنّ ولا واحدة من تلك الذكريات حديثة، فأحدثها من بين عدّة اختبارات تعود لعشرة أعوام.

يبدو بأنّ المفتاح لهذه العلاقة الخاصّة بين الرائحة والذكريات التي تشكّلت أوّل مرّة، تتضمن منطقة من الدماغ تسمّى «الحصين Hipocampos». الحصين هو بنية ذات جانبين موجود في عمق الدماغ. وكما هو الحال في العديد من مناطق الدماغ الأخرى، أولى أدلتنا تتأتّى عن حالة خلل وظيفي مأساويّة فيها: كانت الفرضيّة الجراحيّة الخاطئة في الخمسينيات هي أنّ استئصال الفصّ الصدغي الأنسي (Hippocampi) يمكنه شفاء الصرع الانكساري (refractive epilepsy). كان المريض المعني، ويدعى هنري غوستاف مولايسون، يخضع لعملية استئصال الفصّ الصدغي الأوسطي (إزالة ثلثي الفصّ الأماميين، إضافة إلى البنى المحيطة) في عام 1953. لكن في حين أنّ الهدف الأساسي قد تحقق (لم يعد عرضة لنوبات الصرع)، فقد تغيّرت حياته بشكل لا يمكن وصفه: لقد فقد القدرة بشكل كلّي على تكوين ذكريات جديدة طويلة الأمد، واعية أو معترف بها.

تدعم بيانات التصوير العصبي الوظيفيّة الحديثة دور الحصين في خلق ذكريات روائح الطفولة الجديدة: في عام 2009، أظهر الباحثون بأنّ الحصين الأيسر ينشط بشكل فريد أثناء الارتباط الأوّل بالرائحة، وليس بالثاني. عند إجراء مقارنة، لا يحدث مثل هذا النشاط خلال الارتباطات السمعيّة الأولى أو الثانية. إن نظرنا للأمر من وجهة نظر تطوريّة، فقد يكون هذا منطقياً: سيكون من مصلحة الأطفال الصغار أن يتعلموا بسرعة ما هي الأطعمة الصالحة للأكل وتفريقها عن غير الصالحة. أو ربّما، مثلما هو الحال مع الحبّ الأول، الرائحة الأولى هي الأقوى. أيّاً يكن الأمر، فإنّ هذه الحلقات صحيحة بالنسبة لي. لقد شممت الكثير من الأماكن العبقة بالدخان بعد طفولتي، ولكن أيّاً منها لم يطغى على تلك الذكريات المبكرة لجدي.

في حين أنّ الباحثين السابقين كانوا أوّل من أظهر دوراً خاصاً في ذكريات الرائحة الجديدة، فإنّهم لم يكونوا أوّل من أظهر نشاط الحصين فيما يتعلق بأثر بروست. قبل خمس سنوات من البحث المنشور، قامت مجموعة من جامعة بروان ببدء البحث عن مناطق الدماغ التي تشترك في الذكريات الشخصيّة التي تحفزها الرائحة، وذلك باستخدام التصوير الوظيفي أيضاً. في تجربتهم «طبيعيّة النزعة»، قارنت المجموعة نشاط دماغ المشاركين الذي يربط بين الذكريات العاطفيّة مع العطور التي يشمونها، وبين نشاط دماغهم أثناء رؤيتهم لصور تلك العطور، أو مع روائح أخرى تماماً. ورغم أنّ خمسة نساء فقط هنّ من خضعن للاختبار، فقد كان هناك نشاط دماغي أكبر بكثير عند شمّ الروائح العاطفيّة، منها عند شمّ الروائح غير العاطفيّة أو رؤية الصور. وحصل ذلك النشاط في كلا جانبي الحصين وفي منطقة رئيسيّة أخرى في عمليّة الشمّ: اللوزة المخيّة (Amygdala).

لقد بدأ البحث المنهجي على الحيوانات والبشر في ذلك الوقت لتحديد دور اللوزة المخيّة: ففي المختبرات المنتشرة حول العالم، لم تتعلّم القرود الذين لا يملكون لوزة مخيّة بأنّ الضغط على الرافعة قد يمنع العقوبة، وذلك كما فشل الناس الذين لديهم ضرر في اللوزة في ربط النغمات التحذيريّة بالصدمات الكهربائيّة. وعليه فقد بدا بأنّ هذه المجموعة العصبيّة المزدوجة كانت ذات دور حيوي للتعلّم بشأن الخوف: فهي حالة عاطفيّة نادراً ما يمكن للحيوان أن ينجو دونها.

سرعان ما توضّح أيضاً بأنّ اللوزة المخيّة حاسمة في عمليّة معالجة المشاعر الإيجابيّة، وخاصّة الشعور بالإثابة: فعندما نرى صوراً للطعام أو للجنس أو للمال، فإنّ لوزة المشاركين من البشر تنطلق للعمل. فوفقاً لهذه ولغيرها من الدراسات، نعلم بأنّ هذه المنطقة تلعب دوراً محورياً بشأن العواطف. لذلك فإنّ تنشيط هذه المنطقة أثناء الذكريات التي تحفزها الرائحة، يساعد على تعزيز التناغم العاطفي. وعند اشتراكها مع قدرة الحصين على إطلاق ذكريات قديمة، يتمّ ربط الحنين للطفولة مع رائحة التبغ مع بعضهما.

3:

في حين أنّ اللوزة والحصين هما لاعبان أساسيان في إنشاء وتخزين ذكريات الروائح، فمن المهمّ أن نتذكّر بأنّهما لا يعملان بشكل منعزل. فهما جزء من شبكة أوسع من البُنى التي تشترك في عمليّة الشمّ (olfaction) التي تظهر بشكل جليّ من خلال دراسات التصوير الوظيفي، ومن خلال المرضى الذين يعانون من الأورام أو الإصابات أو الأمراض. أولاً: تنتقل إشارات الرائحة عبر الأعصاب الشميّة من الأنف إلى البصيلات الشميّة (وهي مجموعة من الخلايا العصبيّة على شكل بصيلات توجد داخل الجمجمة وتعمل كبوابات هامّة تفضي إلى بقيّة الدماغ)، قبل أن يتمّ توزيعها بشكل تبادلي إلى بُنى الفصّ الجبهي القاعدي والأمامي، والتي تُعرف مجتمعة باسم قشور الشمّ الأوليّة والثانويّة.

وكما رأينا، فإنّ هذه البُنى الشميّة المركزيّة، هامّة للتعلّم وللتذكّر العاطفي. علاوة على ذلك، إنّها تتداخل تشريحيّاً مع الجهاز الحوفي (Limbic system): وهو شبكة بدائيّة في الدماغ، والتي تقوم لدى الكثير من الحيوانات بفرض كلّ من الاستجابات الفيزيولوجيّة والسلوكيّة للمحفزات المحيطيّة الهامّة عاطفياً. باختصار: ترتبط الروائح والعاطفة والذاكرة والدافع من خلال الجهاز الحوفي.

لذلك من المثير للاهتمام أنّ الرائحة لها علاقة خاصّة باللوزة المخيّة، وبالتالي بهذه الشبكة الأوسع نطاقاً. يتمّ ترميز المعلومات في الطرائق الحسيّة الأخرى، مثل السمع أو الرؤية، لتخضع للفلترة في منطقة في الدماغ تدعى بالمهاد (Thalamus). تختار البوابة المهاديّة (Thalamic gating) المعلومات الحسيّة التي سيتمّ إرسالها بشكل متوازٍ إلى اللوزة والقشرة المخيّة، والتي ستؤدي معالجتها في القشرة في نهاية المطاف إلى الإدراك الواعي. ومع ذلك، فإنّ معظم المعلومات الشميّة لا تمرّ عبر المهاد وهي في طريقها إلى اللوزة، بل تنتقل إليها بشكل مباشر. هذا يعني بأنّه، خلافاً للحواس الأخرى، فإنّ المعلومات الشميّة التي تصل إلى اللوزة، قد لا تكون مُرسلة عبر المهاد من أجل معالجة واعية متزامنة. وفي حين تمّ اقتراح آليات مختلفة «لتبويب» الشم، فإنّ هذا الطريق المباشر إلى الجهاز الحوفي يثير سؤالاً مغرياً: هل تؤثّر الروائح، بشكل لا واعٍ، على الحالة العاطفيّة لأحدهم؟ هل يمكن للرائحة أن تترك أثرها علينا بشكل أكثر هدوءً، ولكن أكثر انتشاراً مّما كان يعتقد بروست أساساً؟

4:

تدعم أمثلة من ممارساتي السريريّة الخاصّة أثر الرائحة على الصحّة العاطفيّة على المدى الطويل. لنأخذ مثالاً السيّد جي، وهو رجل هادئ في أواخر العقد الرابع من العمر، والذي فقد إحساس الشمّ بعد إصابته بنزلة برد. عندما رأيته آخر مرّة، وصف لي مدى صعوبة التلاؤم مع حالة الشمّ الجرداء: فبدلاً من توقّع وجبة الغداء بات عليه معرفتها من المكتوب، ولم يعد نسيم الصيف يحمل رائحة العشب الأخضر، ولم يعد يفرّق رائحة عطر زوجته. وبينما يصف شعوره، بدا جليّاً بأنّ هذه الخسارات الصغيرة هي ذات قيمة كبرى.

أظهرت الدراسات وجود أعراض الاكتئاب الخفيف على أقلّ تقدير، لدى حوالي ثلث المرضى الذين يعانون من ضعف في الشم. ومن المثير للاهتمام، أنّ العكس صحيح أيضاً: فالمرضى الذين يعانون من الاكتئاب، غالباً ما يكونون مصابين بضعف الوظيفة الشميّة. وكما هو متوقّع، يبدو بأنّ الاكتئاب يؤثّر على مدى محبّة الناس للروائح من عدمها، حيث يُنظر إلى الروائح الكريهة على أنّها أكثر كراهة، وإلى الروائح الجميلة على أنّها أقلّ جمالاً (أي يحدث تحولٌ سلبيّ في الإدراك المتعلّق باللذّة Hedonic perception). يمكن إرجاع هذه التبدّلات إلى تغيّر المعالجة العصبيّة لإشارات الرائحة، والتي تمّ إثباتها باستخدام تخطيط كهربيّة الدماغ الشميّة (electroencephalography) لدى المرضى المصابين بالاكتئاب، والمشاركين الأصحاء الذين شاهدوا فيلماً حزيناً.

علاوة على ذلك، يمكن إثبات الاختلافات البنيويّة عند مقارنة دماغ المصابين بالاكتئاب مع دماغ غير المصابين به: فالبُصيلات الشميّة (وهي أوّل محطّة تقوية تستقبل مدخلات الروائح من الأنف) هي أصغر بكثير لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب. وبينما تتحسّن الوظيفة الشميّة بعد علاج الاكتئاب، فإنّ حجم البصيلات الشميّة لا يتحسّن. لقد قادت مثل هذه الاكتشافات توماس هومل وإيونا كروي من جامعة درسدن التقنيّة إلى القول بأنّ المدخلات الشميّة المتضائلة يمكن أن تسبب على المدى الطويل اختلالاً وظيفيّاً في الجهاز الحوفي، وهي بذلك تمثّل عاملاً خطراً يؤدي للاكتئاب.

5:

إن نظرنا إلى ما وراء الاكتئاب، فهل يمكن للجهاز الحوفي أيضاً أن يربط الرائحة بظروف عصبيّة ونفسيّة أخرى تتضمّن سوء الانتظام العاطفي؟ رغم أنّ الأدلّة محدودة، يبدو بأنّ الوظيفة الشميّة (تحديداً القدرة على تمييز الروائح بشكل صحيح) تكون تالفة في التوحّد والفصام. كلا هذين الحالتين تتميزان بفشل الانخراط الاجتماعي وبالفشل في التعبير العاطفي. في حالة الفصام: هناك رأي يشير إلى أنّ الفشل في عمليّة معالجة الروائح، يمكن أن تكون دلالة تنبؤيّة على التقدّم إلى الاضطراب.

لذلك يبدو من الثابت إلى حدّ ما أنّه يمكن للروائح أن تثير ذكريات مكثفة عاطفياً من ماضينا، وأنّه يمكن ربط فقدان الرائحة والعجز العاطفي مع بعضهما. لكن بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون ضمن «الحدود الطبيعيّة» من الصحّة العقليّة والوظيفة الشميّة، هل لا تزال الرائحة تؤثّر على حياتنا اليوميّة؟ هل بإمكان الروائح أن تعدّل ليس فقط مزاجنا الشخصي، بل أيضاً الطريقة التي نفسرها بها ونغوص بها في عالمنا الخارجي؟

قد يجادل البعض بأنّ البشر قد تطوروا إلى أبعد من ذلك الضبط البدائي. لقد بات العالم المعاصر مسيطراً عليه بصريّاً: إنّ إحساس المرء بالرائحة يصبح غير مجدٍ تقريباً بالنظر إلى الألوان الزاهية للمشروبات والبسكويت والحلويات، أو بالنظر إلى تصريح «صالح للاستعمال قبل تاريخ...». وإذا جمعنا ذلك مع الحياة الرقميّة بشكل متزايد، فنحن لسنا بحاجة لنشمّ الأشياء التي نراها. بأيّ حال، عندما لا نكون عالقين أمام شاشاتنا، فإنّ الأدلّة تشير بشكل متزايد إلى أنّنا قد نتواصل بشكل لا واعي عبر الرائحة، وذلك عبر عمليّة تدعى: (النقل بالإشارات الكيماويّة Chemosignalling).

واحدٌ فقط من أنواع التواصل هذه يتضمن نقل الحالات العاطفيّة من شخصٍ لآخر عبر رائحة الجسد، وهي المسمّاة «العدوى العاطفيّة». في 2012، قامت مجموعة من جامعة أوتريخت بتقييم الاستجابة السلوكيّة للمشاركات الإناث، بعد تعريضهن لعرق ذكور مأخوذ من تحت الإبط. لقد أظهرت النتائج بأنّ العرق الذي تمّ التبرع به في ظلّ ظروف الخوف، أظهرت الإناث علامات خوف غير واعٍ. ظهرت نتائج مماثلة عندما تمّ التبرّع بالعرق في ظلّ ظروف مثيرة للاشمئزاز، حيث أظهرت النساء المشاركات (لسوء حظهن) علامات على الاشمئزاز غير الواعي. لذلك يبدو بأنّ هذه النتائج تدعم كلا إنتاج واستقبال الإشارات الكيميائيّة النشطة للإنسان.

وتمّ مؤخراً مشاهدة ذات النتائج في دراسة تصوير وظيفي. أظهرت المجموعة تحت الاختبار تحولاً إدراكيّاً في شكل الوجوه الغامضة عاطفيّاً تجاه إمّا المزيد من الخوف (بالنسبة للوجوه التي كان الخوف واضحاً عليها) أو تجاه المزيد من الحياديّة (بالنسبة للوجوه التي كانت الحياديّة بادية عليها) عندما تعرضوا لرائحة جسد تمّ التبرع بها في ظروف القلق، بالمقارنة مع رائحة الجسد التي تمّ التبرع بها أثناء القيام بالتمارين الرياضيّة. وقد ارتبطت هذه المبالغة في الخوف المحسوس في ظلّ ظروف رائحة القلق كانت مرتبطة بزيادة تنشيط الحصين الأيسر، وربّما يعكس هذا زيادة الوصول إلى الذكريات الشميّة ذات الصلة العاطفيّة.

لا يبدو بأنّ الاتصالات القائمة على الرائحة مقتصرة على العرق: ففي عام 2011، أشار علماء أعصاب بأنّ دموع الإنسان تحوي على إشارات كيميائيّة. خلال ثلاثة تجارب، أظهرت المجموعة المختبرة بأنّ الرجال الذين تعرضوا لدموع الإناث العاطفيّة (التي جُمعت أثناء بكاء النساء وهنّ يشاهدن فيلماً حزيناً)، يقلل من تصنيفهم للإثارة، ليتسبب في تقييم صور النساء على أنّهن أقلّ جاذبيّة جنسيّة، ويقلل مستويات التستوستيرون اللعابيّة، وتقليل النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالإثارة. وقد تمّ تمييز ظاهرة مماثلة لدى الفئران، حيث تقلل الفرمونات في «دموع» الحيوانات اليافعة من سلوك التزاوج لدى الذكور البالغين. وتدعم هذه الدراسة الفرضيّة بأنّ الدموع العاطفيّة هي بمثابة «بطانيّة كيميائيّة» تحمي الحيوانات من العدوان (الجنسي وغيره). قد يساعد هذا على تفسير البكاء العاطفي، هذه الممارسة الغامضة، بطريقة أخرى – وهي الأمر التي حيّر الغرض منها العلماء لسنوات عديدة.

وقد تلعب الإشارات الكيميائيّة أيضاً دوراً في الإنجاب البشري. ففي عام 1995، وجد باحثون من جامعة برن بأنّ النساء تفضلن روائح أجساد الرجال ذوي تشكيلات المناعة الجينيّة المختلفة عنهن، والذي يُعتقد بأنّها تعود إلى إفراز جزيئات المناعة (وخاصّة بروتينات HLA) في العَرق. هذا أمرٌ منطقي من الناحية النظريّة، حيث قد يقود التزاوج بين الأشخاص الذين يملكون تشكيلات مناعيّة مختلفة إلى إنتاج ذريّة تقاوم الأمراض المعدية بشكل أكبر، وذلك مقارنة بذريّة الأشخاص ذوي المناعة المتماثلة. ظهرت من جديد نتائج مشابهة لدى الفئران، حيث بالإضافة إلى المزايا التطوريّة ضدّ الأمراض، يمكن لهذه التفضيلات أن تمنع السفاح (نظراً لكون الفئران الأكثر قرابة يملكون المزيد من التشكيلات المناعيّة المتطابقة).

لا يزال أمر تأثّر اختيارنا لشريكنا بشكل غير واعٍ «بالروائح الجينيّة» محلّ جدل بين العلماء. وربّما يتمّ تدعيم هذه النظريّة من قبل العمل الحديث الذي قاده مانفريد ميلينسكي من معهد ماكس بلانك للبيولوجيا التطوريّة. حيث وجد بأنّ المشاركات الإناث كنّ قادرات على تمييز «الرائحة الجينيّة» الخاصّة بهن، وأنّ مثل هذه الروائح تسبب نشاط مناطق معينة في الدماغ أثناء التصوير الوظيفي. لقد أظهر هذا البحث بأنّ الاختلاف في بروتينات HLA يرتبط بالشراكة وبالرضا الجنسي وبالرغبة وبالتكاثر. يمكن تتبّع الإشارات الكيميائيّة الناقلة حتّى إلى عادات التسوّق لدينا: يبدو بأننا نختار بشكل غير واعٍ العطور التي تعزز رائحتنا الجينيّة.

يبدو بأنّ هذه الدراسات، جنباً إلى جنب مع الدراسات الأخرى، قد تساعدنا حقّاً على تعظيم نتائج تجاربنا الجسديّة والعاطفيّة في العالم. فمن الناحية النظريّة، يمكن أن يؤدي سوء تفسير الإشارات الاجتماعيّة المعتمدة على الخلل الشمّي بدوره إلى ضعف المشاركة الاجتماعيّة. كمثال: هل يمكن للخلل في تمييز الروائح أن يساهم في السمات السريريّة لهذه الحالة؟ علينا أن ننتظر لنرى.

وبعد كلّ هذا، فإنّ رائحة السجائر هي من تبقي جدّي حيّاً لدي.