هل يجب أن نشعر بالسوء لقيامنا بالإيثار؟
سمعت وقرأت في أكثر من مكان عن أنّ الإيثار، أو الغيرية، هي مجرّد ضربٍ من ضروب الوهم والخيال. فوفقاً لهذا الرأي فإنّ الشـخص الذي يقوم بفعل خيّر تجاه الغير بذريعة الإيثار، يبتغي بلا شك مقابلاً لفعله هذا. وليس بالضرورة أن يكون الشيء الذي يبتغيه في المقابل ملموساً، بل يكفي أن يشعر بالرضا حتّى يكون إيثاره فعلاً بمقابل. مثال: قيام إنسانٍ بسداد دين إنسانٍ آخر دون أن يعلم المدين بهوية دافع الدين. الشـخص الذي دفع الدين لا ينتظر من صاحب الدين أيّ مقابل ملموس لكونه لم يعلم بالأساس هوية دافع الدين، لكنّ شعوره بالرضا عن قيامه بما فعل كفيلٌ بتعويضه عمّا دفعه، ولهذا فإنّ الإيثار لم يتحقق هنا لكونه حصل على مقابلٍ لفعله، وعليه فإنّ الإيثار مفهوم خيالي لا يمكن الوصول إليه.
انطلاقاً من هذا الحجاج، فالسبيل إلى إخراج فعل الإيثار من حيّز الخيال إلى حيّز الواقع يكون: إمّا بحيادية مشاعر المؤثر، أي عدم شعوره بأيّ شيء على الإطلاق، وهو أمرٌ غير ممكن. أو بجعل فاعل الإيثار هذا يشعر بالسوء نتيجة قيامه بفعله، وعندها لن يحصل على مقابل فعله الخيّر رضا عن النفس، وسيتحقق الإيثار.
إذاً يجب على الشخص أن يشعر بالسوء لقيامه بفعل خيّر، فعندما يساعدنا أحدهم بحمل الأمتعة الثقيلة دون مقابل على سبيل المثال، يجب أن يشعر بالانزعاج حتّى نعتبر فعله من قبيل الإيثار، ويجب لذلك أن ينهرنا عند القيام بشكره كي لا نخرّب عليه فعله. لنتخيّل عالماً لا وجود فيه لكلمة شكراً، أو عالماً موازياً لا امتنان فيه. وأنا هنا لا أتكلم عن الكلمات التهذيبية التي يلقنونا إياها لنقولها في أفراح وأتراح من حولنا فقط، بل أتكلم عن الامتنان الحقيقي لشخصٍ مدّ لك يد المساعدة في الشارع، أو الامتنان لصديق منحك وقت فراغه ليستمع لمشاكلك... هل حقّاً نريد العيش في عالمٍ يخلو من هذا الامتنان؟ وهل حقاً من الذنب أن يشعر المرء بالرضى عن نفسه إن هو فعل ما يستوجب الامتنان؟
إذاً أنت تشعر بالرضا عندما تقوم بفعل خيّر، وذلك لأنّ الآخرين يعبّرون عن امتنانهم بشكل صريح أو ضمني. هذا يجعلك جزء من الحلقة الاجتماعية التي يعتمد فيها الناس على بعضهم غالباً، إن لم يكن بشكل دائم، من أجل تبادل الشعور بالرضا عند القيام بأفعال خيّرة تجاه بعضهم البعض. هذا صـحيح بالتأكيد، ولكن كيف يقلل هذا من غيريتك أو فعل الإيثار لديك؟ إنّ أحد أعمدة تطور المجتمع الإنساني تتجلّى في اعتماد البشر على بعضهم البعض، وعلى ثقتهم ببعضهم البعض. أثبتت الأبحاث أنّ البشر هم الكائنات الحيّة الوحيدة التي تترك أطفالها بشكل جماعي برعاية أشـخاص محددين من الجماعة، بينما يذهب بقية أفراد الجماعة لممارسة أعمال أخرى تضمن ازدهار هذه الجماعة. وبأنّ هذا السلوك المتفرّد لدى البشر يعبّر عن الثقة المتبادلة فيما بينهم، وبأنّه أثّر بشكل رئيسي على قدرتهم على التطوّر في تخصيص الأعمال وتوزيعها فيما بينهم كجماعة، وبالتالي في تطورهم اللاحق «سلسلة كيف أصبحنا بشراً – نوفا». وقد وجدت بقايا الأحفوريات بشراً مُعاقين ولادياً، غير قادرين على الصيد أو الزراعة، ماتوا في سنّ الثلاثين تقريباً. هذا يعني بأنّ الجماعة البشرية لم تكن يوماً سوى جماعة تبادلية غيريّة تعتني بصغارها وضعافها «ذات المصدر السابق».
لكنّ السبب في عدم قدرة أغلب الأشـخاص القائلين بأنّ الإيثار وهم، على أن يتخيّلوا أنّ هذه التبادلية الاجتماعية هي جزء من تكويننا النفسي، سواء كأفراد أو كمجتمع، يعود لكونهم مقتنعين بشكل هوسي بفكرتين: الفكرة الأولى: أنّ هناك شيئاً ثابتاً يدعى «الطبيعة البشرية»، والثانية: من بين الصفات الفطرية لهذه الطبيعة البشرية «الأنانية والشر» اللذين ورثناهما عن «أصلنا الحيواني».
في البدء، لا يوجد شيءٌ طبيعي اسمه «الطبيعة البشرية». فحصولك على صبغيات وجينات بشرية هو شرط لازم كي تصبح بشريّاً، لكنّه لا يجعلك بشرياً بالضرورة. فحتّى تصبح بشرياً فأنت بحاجة لتتعلّم هذا الشيء من خلال وقتٍ طويل من الإجراءات الاندماجية والتدريبية التي ندعوها بالتربية والعائلة. والدليل على ذلك أنّ الأطفال الذين لم يتلقوا هذه التربية وعاشوا بشكل منعزل أو ضمن ظروف غير طبيعية، نضـجوا وملكوا أجساداً بشرية وحسب، وباتوا يشبهون البشر من الخارج، لكنّهم لم يتصرفوا مثل بقيّة البشر. حتّى أنّ بعض المناطق في أدمغتهم لم تتطوّر على الإطلاق بالمقارنة مع الطفل الذي يتربّى في أسرة عادية وفي محيط اعتيادي «جيني: تراجيديا علمية – روس ماير». وبعضهم باتوا يسمعون أصواتاً في رؤوسهم يتحدثون معها كي يشعروا بالصـحبة، مع غياب جماعة حقيقية تزودهم بالصـحبة «التجربة المحرمة – روجر شاتوك».
أمّا السبب الوحيد الذي يجعلنا نعتقد بأنّ البشر أنانيون وأشرار بطبيعتهم هو قيام الثقافة السائدة وأصـحاب الأجندات الرأسمالية بتكرار الأمر على مسامعنا حتّى بتنا نسلّم بحقيقته دون نقاش. لطالما اختلف الباحثون واختلفت مدارس علم النفس فيما بينها على صحّة هذه الفكرة، وعلى مداها، وأضعف هذه المدارس إثباتاً لرأيها هي مدرسة التحليل النفسي الفرويدي القائلة بالشرور الطبيعي للبشر، وكتب علم النفس التي تناقض هذه الفكرة بالتجارب وبالنظريات وبالملاحظة كثيرة لدرجة لا يمكن حصرها. وأذكر منها رأي ويلهلم رايك الذي رأى بأنّ المجتمع هو الذي جعل من الإنسان شريراً عن طريق قمعه ومحاولة السيطرة عليه وليس الشرور في الإنسان بطبعه. وقد أثُبتت آرائه بشكل خاص من قبل مجموعة من أتباع مدرسته في مؤسسة «إيسلان» «الآثار النفسية والجسدية للتفكّر – مايكل مورفي»، «التعريف بحركة قدرات الإنسان – وليام كولسون».
أمّا الهراء الذي يسوقه أصحاب هذا الرأي عن كوننا ورثنا شرورنا من أصلنا الحيواني، وبأنّ الصرامة الاجتماعية هي التي قوّمت هذا الشرور، فهو ادعاء إيديولوجي لا سند له ولا يستحق الردّ حتّى. لكنّني رغم هذا سأورد التالي من كتاب دانييل جولمان: «الذكاء العاطفي» للردّ عليه: «إن كثيراً من الأبحاث المتصلة بالجهاز العصبي التي أُجريت على الحيوانات وخاصة الرئيسيات من غير الإنسان، أوضحت أن هناك قدرة على التعاطف لدى الرئيسيات... وتفضّل ليزلي براذرز تسميتها بـ «التواصل العاطفي»، ليس فقط من خلال عدد من الحكايات التي تروى، بل من دراسات لمثل التجربة التالية: تدربت قرود الريزوس «Resus» في بداية التجربة، على الخوف عند سماع صوت معين في أثناء تعرضها لصدمة كهربية. ثم تعلمت بعد ذلك كيف تتفادى الصدمة الكهربية بدفع رافعة عند سماعها لهذا الصوت المعين. بعد هذا التعلم، وضع زوجان من هذه القرود، كل منهما في قفص منفصل. كان الاتصال الوحيد بينهم من خلال دائرة تليفزيونية مغلقة، سمحت لهما برؤية صورة وجه القرد الآخر. سمع القرد الأول – وليس القرد الثاني – الصوت المخيف الذي ظهر في نظرة الخوف على وجهه. في هذه اللحظة نفسها، دفع القرد الثاني الرافعة، التي تمنع الصدمة. هذا تماماً هو فعل التعاطف، أو التقمص الوجداني، إن لم يكن الإيثار».
طالما أنّنا لسنا أشراراً بطبيعتنا والمجتمع هو المسؤول عن شرورنا، وطالما أنّنا نحتاج للتبادلية العاطفية والمعنوية والمادية بين بعضنا كي نرتقي بهذا المجتمع، وطالما أنّ شعورنا بالسرور والرضى الناجم عن قيامنا بفعل خيّر يخدم هذه التبادلية هو شرط لازم لاستمرارنا بأداء هذا الفعل، فهل فعل الإيثار هو مجرّد وهم؟