«اللعبة الكبرى» تعود من جديد… وهذه المرة على جليد القطب الشمالي
بينما اعتدنا أن ننظر إلى العالَم من الشرق إلى الغرب، هناك من بدأ يحدّق في الكرة الأرضية من الأعلى… من القطب الشمالي تحديداً. وما إن نغيّر زاوية النظر حتى تنقلب خريطة النفوذ والمخاطر: تصبح روسيا عملاقاً قطبياً، وتظهر غرينلاند وكندا كجواهر استراتيجية، بينما تتحوّل ألاسكا إلى هامش صغير في الزاوية. في قلب هذا التحوّل، تعود الولايات المتحدة إلى لغة الأساطيل والسباق على البحار، مدفوعةً باستراتيجية جديدة ترى في صناعة السفن مفتاح السيطرة على «اللعبة الكبرى» الجديدة، لكن هذه المرة، على جليد الشمال لا رمال الشرق.
ترجمة: أوديت الحسين
عند النظر من القطب الشمالي نحو الخارج، تظهر صورة مختلفة تماماً للعالم. فمعظم الخرائط تُرسَم باتجاه أفقي من الشرق إلى الغرب، لكن عند النظر من الأعلى إلى الأسفل، تمتلك الولايات المتحدة موقعاً نسبياً جديداً كلياً.
تهيمن روسيا على كامل المنطقة، وتبرز القيمة الاستراتيجية لجزيرة غرينلاند بشكل مفاجئ، وكذلك الأمر بالنسبة لكندا. وبصفتها دولة «قريبة من القطب الشمالي»، بات موقع الصين الجغرافي قريباً إلى درجة تُشعِر الأمريكيين بعدم الارتياح. وبالمقارنة، تبدو الولايات المتحدة ضئيلة جداً على هذه الخريطة القطبية، حيث تشغل ولاية ألاسكا، الأكبر مساحة بين الولايات الأمريكية، زاوية صغيرة فقط في الرؤية القطبية.
تشكّل هذه الرؤية الجيوسياسية جوهر الاستراتيجية الجديدة لحكومة ترامب بشأن «إحياء صناعة بناء السفن». من المرجح أن يصدر أمر تنفيذي أمريكي قريباً، يحدد ملامح خطة طموحة لإحياء صناعة السفن هي الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد بنت الولايات المتحدة خلال أربع سنوات فقط من الحرب العالمية الثانية 2710 سفنٍ من طراز Liberty «الحرية» [وكانت سفنَ شحن أو سفناً تجارية لدعم المجهود الحربي للحلفاء].
الدول المعنية الواقعة في المنطقة القطبية
هذا الموضوع كان أيضاً محور جلسة الاستماع التي نظّمها مكتب الممثل التجاري الأمريكي يوم الإثنين 24 آذار. ناقشت الجلسة حلولاً لمواجهة ما يُوصف «بالعوائق الصناعية» التي تبنيها الصين في مجالات الشحن البحري، والخدمات اللوجستية، وصناعة السفن حول العالم.
إذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، نجد أن الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية خاضتا لعقود طويلة ما يُعرف «باللعبة الكبرى» في آسيا الوسطى للسيطرة على النفوذ العالمي. وقد أدّت تلك المواجهة إلى ترسيم حدود إيران وأفغانستان والتبت الصينية والهند، كما أثّرت بعمق في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للقرن العشرين.
أما اليوم، فإن «اللعبة الكبرى» الجديدة تُعاد صياغتها، لكنها لا تدور في آسيا الوسطى، ولا في أوكرانيا أو غزة أو بحر الصين الجنوبي، بل في المياه المتجمّدة للقطب الشمالي. السيطرة على هذه المنطقة ستكون مفتاحاً لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لحكومة ترامب: انتزاع الهيمنة الاستراتيجية على كامل نصف الكرة الغربي.
تخدم صفقة الاستحواذ بين مجموعة «بلاك روك» والملياردير هونغ كونغي لي كا شينغ على ميناء في قناة بنما هذا الهدف إلى حدّ ما. يقول خبراء عسكريّون غربيّون إنّ المخاطر الحالية وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، مع ازدياد نشاط القراصنة، وهجوم روسيا على أوكرانيا والبحر الأسود، وانقطاع الكوابل البحرية في بحر البلطيق، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وزيادة الأنشطة العسكرية الصينية في المحيط الهادئ.
لكن، وبفضل تأثير تغيّر المناخ، يبقى القطب الشمالي من بين المناطق القليلة التي لا يزال من الممكن فعلياً فتح طرق بحرية جديدة فيها «فقد أجرت الصين وروسيا مناورات بحرية مشتركة هناك العام الماضي». ومن أبرز عناصر هذه «اللعبة الكبرى» الجديدة سيكون تعزيز قدرات الولايات المتحدة البحرية، بما يشمل تطوير الموارد المعدنية في قاع البحر، وطرق الملاحة التجارية، ومدّ كابلات ألياف ضوئية جديدة تستطيع الولايات المتحدة حمايتها بشكل أفضل، بالإضافة إلى تعزيز الوجود الأمني في المنطقة.
تُعدّ كاسحات الجليد أحد الأهداف الأساسية في خطة ترامب. ففي نهاية ولايته الأولى، طرح ترامب خطة للتعاون مع فنلندا وكندا لبناء كاسحات جليد قطبية، وقد صادقت إدارة بايدن لاحقاً على هذه الاتفاقية، ما يُظهر أن الأمن البحري والقطبي يُعدّ من مجالات التوافق النادرة بين الحزبين في الولايات المتحدة. ولم تبنِ الولايات المتحدة أيَّ سفينة من هذا النوع منذ 25 عاماً على الأقل، لكنّ مصدراً في البيت الأبيض قال بأنَّ ترامب يأمل ببناء واحدة قبل نهاية ولايته الثانية.
كما ترغب الولايات المتحدة في فرض سيطرة أوسع على شحنها التجاري. فحالياً لا تملك الولايات المتحدة سوى 185 سفينة تجارية للمحيطات، بينما تمتلك الصين 5500 سفينة. نظرياً، يمكن للصين تعطيل الاقتصاد الأمريكي من خلال منع استخدام سفنها، أو عبر إغلاق الممرات الحيوية في بحر الصين الجنوبي. وبما أن القوات الأمريكية، حتى في أوقات الحرب، تعتمد بدرجة كبيرة على الأساطيل التجارية لتوفير الإمدادات، فإن هذا الوضع قد يُضعف قدرة الولايات المتحدة على خوض الحروب مستقبلاً.
جوهر استراتيجية ترامب هو دمج صناعة السفن التجارية مع صناعة السفن الحربية. ويقول إيان بينيت، المساعد الخاص للرئيس ومدير القدرات الصناعية والبحرية في مجلس الأمن القومي: «هدفنا من إنشاء هذا المكتب الجديد هو تحسين عمليات الشراء، وتحفيز الطلب، وإزالة العوائق أمام التنافسية في صناعة السفن الأمريكية، ما يعزّز ثقة الشركات في الاستثمار طويل الأجل في هذا القطاع».
هذا التحوّل بالغ الأهمية. فاستراتيجيات صناعية مماثلة هي التي مكّنت الصين من التفوّق في قطاعات مثل صناعة السفن. كما يمثّل هذا توجّهاً معاكساً تماماً لسياسات عهد ريغان، حين فصلت الولايات المتحدة بين صناعة السفن التجارية والعسكرية وخفّضت الدعم الحكومي الموجّه لهذا القطاع.
وفي المقابل، ينظر كثيرون داخل إدارة ترامب إلى صناعة السفن بوصفها «رقائق السيليكون الجديدة»، وفق تعبير مستشار الأمن القومي السابق في إدارة بايدن، جيك سوليفان. يشمل هؤلاء مستشار الأمن القومي مايك والتز، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمستشار الاقتصادي في البيت الأبيض بيتر نافارو، وممثل التجارة الأمريكي جيمسون غرير. وقد عبّر سوليفان نفسه عن دعمه لاستراتيجية ترامب.
وتُظهر مسودة أمر تنفيذي مسرّبة أن الحكومة الأمريكية تعتزم اتباع نهج «العصا والجزرة»، يتضمن فرض رسوم على السفن الصينية الراسية في الموانئ، وإنشاء صندوق للسلامة البحرية يُموَّل من خلال إعفاءات ضريبية ومنح وقروض لدعم صناعة السفن المحلية وتدريب العمال، إلى جانب فرض عقوبات تجارية لتحفيز هذا القطاع. ومن المرجح أن يتطلّب الأمر شراكة مع حلفاء مثل كوريا الجنوبية، حيث استحوذت مجموعة «هانوا» على حوض بناء السفن في فيلادلفيا، واليابان، وفنلندا، وكندا.
هل سيتمكّن ترامب من الالتزام بهذا المسار؟ لقد أخبر الكنديين: «ما لم تصبحوا الولاية 51 للولايات المتحدة، فلن يُسمح لكم باستخدام كاسحات الجليد الأمريكية الصنع». لكن مصادر مطّلعة تؤكد أن الاتفاق الثلاثي بين أمريكا وكندا وفنلندا لبناء كاسحات الجليد لا يزال قيد التنفيذ ولم يتأثر بالمشكلات التجارية.
يعاني قطاع الشحن الأمريكي من انكماش حاد، ويُعدّ دعم الحلفاء أساسياً لإحيائه. إذ لا يمكن خوض هذه «اللعبة الكبرى» اعتماداً على الولايات المتحدة وحدها.
* رانا أيلين فروهر (من مواليد 4 مارس 1970) من أصول تركية، هي مؤلفة أمريكية وكاتبة عمود في مجال الأعمال ورئيسة تحرير مساعدة في صحيفة فاينانشال تايمز. وهي أيضًا محللة اقتصادي عالمي في شبكة سي إن إن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1220