الصين وروسيا: تعاون ثابت في عالَم متغيِّر
رغم أنّ العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والصين كانت تتحسَّن باستمرار منذ نهاية الاتحاد السوفييتي، فإن التعاون الاقتصادي كان مهمَلاً في البداية مع تركيز كلا البلدين على الغرب، للاستفادة من رأس المال والتكنولوجيا والأسواق الغربية. يتحدّث بحثٌ كتبه الدكتور يانيس كلوغ، الخبير في التنمية الاقتصادية في شرق أوروبا، عن تزايد التشابك والتبادل بين الاقتصادين الروسي والصيني منذ تسعينيات القرن العشرين. إليكم بعض ما جاء في هذا البحث.
ترجمة: أوديت الحسين
أصبحت مخاطر الاعتماد المفرط على الغرب قضية خطيرة بالنسبة لصناع السياسات الروس بعد الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009. فقد أدى هروب رأس المال وتراجع الطلب على الموارد الطبيعية إلى ركود عميق في روسيا. لكن موسكو لم تحاول على الفور تحويل اعتمادها على الشرق. بل حاولت السلطات الروسية إعادة ضبط العلاقات الروسية الأمريكية سياسياً. كان المشروع الرئيسي هو «التحديث»، وهي حملة تحديث مستوحاة جزئياً على الأقل من الأفكار الاقتصادية الليبرالية.
لكن عندما كان بوتن يخوض حملته الانتخابية في 2012، نشر مقالاً عن مستقبل روسيا الاقتصادي اقترح فيه الاستفادة من «الرياح الصينية» في أشرعة الاقتصاد الروسي. ولم تكن هذه الطموحات تتعلَّق بالنمو الاقتصادي أو التقدُّم فحسب. فقد تأثّرت سياسة بوتين الاقتصادية بشكلٍ متزايد بموقفه المناهِض للغرب. وعلى خلفية قصف ليبيا من قِبَل حِلف شمال الأطلسي في 2011، والتعاطف الغربي مع حركة الاحتجاج في موسكو في العام ذاته، بات الموقف الروسي من الغرب أقرب للحسم.
لكنّ نقطة الانفصال الأهم حدثت بعد بداية الحرب في أوكرانيا. رغم أنّ العقوبات الغربية على روسيا لا تمتد إلى جميع أشكال التعاون الاقتصادي، فقد بدأ «انفصال» أساسي للاقتصاد الروسي عن الغرب. وعلى هذه الخلفية، أصبح التعاون مع الصين أمراً حيوياً لأجزاء كبيرة من الاقتصاد الروسي فضلاً عن النظام السياسي في موسكو. والأهمية الجديدة للصين تتجاوز كثيراً مجرّد زيادة التجارة، وهو أمر مثير للإعجاب في حدّ ذاته.
إن الصين هي الدولة الصناعية الكبرى الوحيدة التي لا تزال تتاجر مع روسيا دون قيود إلى حد كبير. وحجم الصادرات إلى روسيا كبير، حيث لا يمكن استيراد العديد من السلع المتطورة التي تحصل عليها روسيا من الصين، مثل الآلات أو الإلكترونيات أو المركبات، من أي مكان آخر. بالإضافة إلى ذلك، في جوانب معينة، حلّ اليوان الصيني والبنية الأساسية المالية محل النظام المالي الغربي بالنسبة لموسكو.
الغرب يدفع الصين والروس للتلاحم
كانت السياسة الاقتصادية الروسية بعد عام 2014 متناقضة في كثير من الأحيان، ومدفوعة بمصالح جماعات الضغط، الأمر الذي جعل من الصعب في بعض الأحيان تعميق العلاقات مع الصين. ركزت الاستجابة السياسية الروسية للعقوبات الغربية بعد عام 2014 بشكل أساسي على تعزيز سيادتها الاقتصادية. لم تخطط موسكو لاستبدال التبعية الاقتصادية الغربية باعتماد جديد على الصين. وكان استبدال الواردات هو الأولوية السياسية القصوى، لأنه يرضي كلّاً من نخب الأمن القومي وجماعات الضغط المؤثرة.
وقد أصبح هذا واضحاً في السياسة التجارية، وهي المجال التي لم تحقق فيه روسيا والصين تقدماً كبيراً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد قاومت موسكو خطط بكين لتعميق التعاون الاقتصادي في إطار منظمة شنغهاي للتعاون. ثم بدأت بكين في متابعة مشروع طريق الحرير الخاص بها، في حين أنشأت روسيا الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في عام 2015. ولم تكن كلٌّ من روسيا والصين مهتمة بالتكامل الاقتصادي إلّا عندما لا يَحدُّ من سيادتهما أو توسيع نفوذهما.
كانت موسكو قلقة من أن البضائع الصينية قد تقوّض القدرة التنافسية للصناعات الروسية وكانت تبحث بشكل أساسي عن الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين. وفي الوقت نفسه، كانت الصين مهتمة بشكل أساسي بتوسيع صادراتها إلى روسيا. أبقت هذه المصالح المتباينة نطاق التكامل الاقتصادي الأعمق محدوداً. وبينما أعلن بوتين وشي عن «ربط» مشاريعهما العملاقة الخاصة بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي وطريق الحرير الجديد في عام 2015، فإنّ هذا لم يؤدِّ بشكل ملموس إلى أيّ خطوات أخرى.
لكن حدثت نجاحات التعاون الروسي الصيني بشكل رئيسي في مجال تصدير روسيا للموارد الطبيعية والقطاعات الاقتصادية المرتبطة بها، فقد علمت الصين بأنّها إن كانتْ ستنجو من محاولات الولايات المتحدة خنقها، سيكون عليها تأمين مصدر موارد طبيعية لا يخضع للإملاءات الأمريكية. لهذا، ومع استمرار نموّ جوعِ الصين للسلع الأساسية، ارتفعت صادرات روسيا من الفحم والغاز الطبيعي المسال والمعادن والخامات، ولكن المنتجات الزراعية أيضاً بين عامي 2014 و2022. وكان قطاعا التعدين والزراعة أيضاً من القطاعات التي شهدت معظم المشاريع الاستثمارية الصينية الكبيرة في روسيا.
غيّرت الحرب في أوكرانيا بشكل جذري شروط التعاون الاقتصادي بين روسيا والصين. فقد لحق الواقع الاقتصادي الروسي بواقعه السياسي بين عشية وضحاها. تسببت العقوبات الغربية القاسية في انهيار سلاسل التوريد مع الشركاء الغربيين التي تم بناؤها على مدى عدة عقود. وكانت الشركات الروسية تبحث بشكل عاجل عن مصدر جديد للمكونات والمواد وقطع الغيار، للحفاظ على استمرار عملياتها. ووجد معظمها شركاء تجاريين جدد في الصين - الدولة الصناعية الكبرى الوحيدة التي لم تفرض عقوبات على روسيا.
انتقدت القيادة الصينية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، لكن لم يتضح على الفور ما إذا كانت الشركات الصينية ستكون على استعداد لتوريد السلع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا. بدأت بعض الشركات الصينية الكبرى مثل هواوي في الحد بشكل صارم من صادراتها إلى روسيا، في حين حاولت البنوك الصينية النأيَ بنفسها عن روسيا خوفاً من العقوبات الثانوية. لكن لم يستمر هذا الموقف الحذر في البداية سوى بضعة أسابيع، قبل أن ترتفع الصادرات الصينية إلى روسيا مرة أخرى.
بلغ حجم التجارة بين روسيا والصين رقماً قياسياً جديداً بلغ 241 مليار دولار في عام 2023. وعلى الرغم من أنَّ نموَّ التجارة بين الصين وروسيا يتبع اتّجاهاً واحداً منذ سنين متعدّدة، إلّا أنّ العقوبات الغربية ضدّ روسيا أدّت إلى تعزيز كبير بعد عام 2022. رغم أنّ الاستثمار الصيني لا يزال يواجه حتّى الآن مشكلةً بسبب مخاطر الالتزام طويل الأمد.
في عام 2023، جاءت 36.5% من واردات روسيا من السلع من الصين. كانت هذه الحصة 3% في بداية في عام 2000. تلعب الصين أيضاً دوراً رئيسياً في الصادرات الروسية، حيث تمثل 30.5% من شحنات السلع الروسية في عام 2023.
مع نمو التجارة الثنائية، تغيّرت طبيعة المنتجات المتبادلة. حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت روسيا تستورد بشكل أساسي سلعاً استهلاكية رخيصة كثيفة العمالة من الصين «مثل الأحذية والملابس والسلع الجلدية». ومنذ ذلك الحين، أصبحت الواردات من الصين، عوضاً عن الغرب، عالية القيمة وكثيفة التكنولوجيا بشكل متزايد. زادت حصة السلع الرأسمالية بشكل كبير «منتجات ملموسة تُستخدم في إنتاج سلع وخدمات أخرى». كان أكثر من نصف إجمالي الواردات من الصين في 2023 في فئات المعدات والآلات «23%»، والمركبات «21%»، والإلكترونيات «15%».
كما تغيّر تكوين الصادرات الروسية إلى الصين بشكل أساسي. فحتّى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تصدّر روسيا أيّ هيدروكربونات (النفط ومشتقاته) تقريباً إلى جمهورية الصين الشعبية. وكانت معظم شحنات روسيا عبارة عن سلع صناعية مثل المواد الكيميائية والآلات ومنتجات الصلب. كما بالكاد تصدّر روسيا أي سلع كثيفة التكنولوجيا إلى الصين اليوم «باستثناء الأسلحة، والتي لا يتم تضمينها في إحصاءات التجارة المتاحة للجمهور». وكانت الصادرات الرئيسية لروسيا إلى الصين في عام 2023 هي الوقود الأحفوري «73%» والمعادن والخامات «11%» وكذلك الخشب «4%». كما صدّرت روسيا منتجات زراعية هامة إلى الصين «فول الصويا 3 في المائة إلى الصين، ومنتجات الأسماك 2.2 في المائة إلى الصين».
بالنسبة للصين، تمكنها من توسيع مصادر وارداتها، يعني قدرتها على التخلص من أيّ محاولات ضغط أمريكية وغربية عليها، وكذلك الحال فيما يخصّ السوق الروسية التي باتت متعطشة للمنتجات البديلة عن الغربية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1207