تركيا وروسيا: مصالح متشابكة تتفوَّق على الخلافات
أولئك الذين تفاجأوا بإمكانية أنْ تتجه روسيا نحو «التخلّي» عن الأسد وسلطته في سورية، في سياق توافقٍ ما مع تركيا - لم تتكشّف كامل نقاطه وأطرافه وتفاصيله بعد - يمكن تصنيفهم إلى قسمين: إمّا مَن لم يدركوا التحوُّلات الكبرى في العلاقات الدولية والإقليمية منذ عام 2015، أو مَن عجزوا بسبب محدودية أدواتهم التحليلية عن التحرُّر من أنماط التفكير التقليدية المرتبطة بفترة الحرب الباردة. في هذا المقال، سنستعرض أبرز التحولات التي طرأت على العلاقات الروسية-التركية خلال السنوات اللاحقة لعام 2015، لفهم أعمق لموقع سورية، بوصفها «ملفّاً مَصلحياً»، ضمن ملفّاتٍ معقَّدة أخرى تربط بين موسكو وأنقرة. فالملف السوري، رغم أهمّيته، لا يشكِّل سوى جانبٍ صغيرٍ من التفاهمات والمصالح المشتركة دولياً وإقليمياً بين هاتين القوَّتَين.
إنّ اختيارنا لعام 2015 كنقطة بدء للبيانات التي سنعتمدها لا يعني بأيّ حال بأنّ العلاقات والتشابكات بين تركيا وروسيا قد بدأت في ذلك العام، ولكن تم الاختيار لأنّه شهد ذروة التوتر بين البلدين، حيث عبّر عن نفسه من خلال إسقاط تركيا في 24 تشرين الثاني 2015 لطائرة روسيّة فوق الحدود مع سورية.
الوضع الجيوسياسي العالمي
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال فهم مصالح القوى الإقليمية ومواقفها في سورية، أو في المنطقة ككل، دون النظر بشكل هادئ إلى الصراع العالَمي بين القطب المتراجِع: الولايات المتحدة وبقيّة المحور الغربي من جهة، والقطب الصاعد الذي يضمّ روسيا والصين من جهة أخرى.
في الواقع، إنّ روسيا التي بدأت منذ 2008 على الأقل، تلعب دوراً نشطاً في إعادة تشكيل العالَم واستعادة مكانتها الدولية في مواجهة الولايات المتحدة وخططها لتقسيمها وإذاعة الفوضى في المنطقة، لم تغفل عينها أثناء البناء الأوراسيّ عن تركيا، الدولة المحورية في جوارها الجيوسياسي. تركيا والنخب التركية بدورهم بدؤوا بالتقاط حبل النجاة الروسي، بعد أنْ بات واضحاً أنّ الأمريكيين لم يعودوا يريدون تركيا كما هي اليوم، فما فائدة القواعد المتقدمة للناتو والجيش التركي الكبير، إنْ كانت الحرب الواسعة قد طويت صفحاتها بشكل كلي تقريباً نتيجة استحالة ضمان النصر فيها، ونتيجة الأثر السياسي السلبي العميق للخسارة في مستوياتها على القوة العالمية الأمريكية المتراجعة؟ بل أكثر من ذلك، ما فائدة تركيا كدولة موحَّدة وقوية، إذا لم تكن جاهزة للاحتراق في اللحظة المناسبة وفي خدمة مشروع الفوضى الأمريكية؟
الأرقام تتحدّث عن نفسها
من المهم لأيّ تحليل أنْ يأخذ بالاعتبار الأرقام الاقتصادية والعسكرية، والتبادلات العامة بين البلدين في الفترة ما بين 2015 و2024. شهد حجم التجارة بين تركيا وروسيا نمواً كبيراً. في عام 2015، بلغ إجمالي حجم التجارة نحو 23.9 مليار دولار. في 2019، قفز هذا الرقم إلى 25.5 مليار دولار. وبحلول عام 2022، زاد هذا الرقم بشكل كبير، فأصبحت روسيا الشريك التجاري الرئيسي لتركيا، حيث بلغت قيمة الواردات 58.85 مليار دولار، أي ما يقرب من ضعف المبلغ مقارنة بالعام 2021.
عززت العديد من المشاريع الكبرى العلاقات الاقتصادية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك خط أنابيب الغاز «ترك ستريم»، الذي بدأ تشغيله في عام 2020، وتوفّر روسيا من خلاله 50% من احتياجات تركيا من الكهرباء. ومحطة الطاقة النووية «أكويو Akkuyu»، التي لا تزال قيد الإنشاء، والتي من المقرر أن توفّر نحو 10% من احتياجات تركيا من الكهرباء.
كما انتعشت السياحة الروسية في تركيا بعد تراجعها في عام 2015 بسبب التوترات السياسية. في 2023، وصل عدد السياح الروس في تركيا إلى 6.3 مليون سائح، وفي 2024 يتوقّع أن يصل عدد السياح في نهاية العام إلى 6.7 مليون سائح. ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد في 2025 ليصل إلى 7.3 ملايين سائح، ما يعني تجاوز عدد السياح الروس الذين يزورون تركيا مستويات الذروة عند 7 ملايين سائح مسجّلين في 2019.
من جهة أخرى، نمت الاستثمارات المتبادلة، حيث وصلت الاستثمارات الروسية في تركيا إلى نحو 20 مليار دولار بحلول عام 2019. وأنشأ البلدان منصّة استثمارية مشتركة بقيمة مليار دولار للاستثمار في القطاعات الواعدة.
وفيما يخصّ الصادرات التركية إلى روسيا فقد ارتفعت أيضاً. في عام 2022، صدّرت تركيا سلعاً بقيمة 9.24 مليار دولار إلى روسيا، بما في ذلك الصادرات الرئيسية من الحمضيات «430 مليون دولار» وأجزاء السيارات «329 مليون دولار» والفواكه منزوعة النوى «298 مليون دولار».
أمّا من روسيا، ففي عام 2022، صدّرت روسيا سلعاً بقيمة 25.3 مليار دولار إلى تركيا. وشملت الصادرات الرئيسية النفط المكرَّر «6.51 مليار دولار»، وقوالب الفحم «3.2 مليار دولار»، والقمح «2.05 مليار دولار».
وفيما يخصّ القطّاع العسكري، فقد كان شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي S - 400 في عام 2017، وإتمام هذه الصفقة في عام 2019 بمثابة تطور كبير في تعاونهما الدفاعي، ليصبح، نوعيّاً، الإعلان الصريح عن تحوّل تركيا من دولة تابعة لمنظومة الإمبريالية الغربية إلى دولة تنشد استقلالاً في قراراتها وسياساتها وتنميتها، والدفاع عن نفسها.
لقد توسعت علاقات البلدين، اللّذَين يتمتعان بسواحل على البحر الأسود، في مجالات التجارة والسياحة والطاقة بشكل ملحوظ أيضاً منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وكما أوردنا، في عام 2019، أغضبت تركيا حلفاءها في حلف شمال الأطلسي بشراء صواريخ إس-400 الروسية، ممّا أجبر واشنطن على فرض عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية، وأخرجتها من برنامج مقاتلات إف-35، حيث كانت مساهمة في التصنيع والشراء.
الاستمرار في النمو
يبدو أنّ العلاقات الروسية التركية مستمرّة بالنمو والتشابك أكثر فأكثر، ففي العاشر من كانون الأول 2024، انعقدت أول جلسة خارجية للترويج لإمكانيّات الأعمال والاستثمار في روسيا في إسطنبول، تركيا، والتي نظمتها مؤسسة روسكونغرس Roscongress، بدعم من سفارة الاتحاد الروسي والبعثة التجارية للاتحاد الروسي في تركيا. ناقشت جمعيات الأعمال التركية والروسية وممثلو الأعمال والمسؤولون الحكوميون سبل توسيع التجارة الثنائية من خلال مشاريع استثمارية جديدة.
شارك في الجلسة أكثر من 360 ممثلاً عن الشركات الروسية والتركية وجمعيات الأعمال ووسائل الإعلام والهيئات الحكومية. كان الموضوع الرئيسي للمناقشات هو تعزيز التعاون الثنائي وتوسيع العلاقات التجارية والاقتصادية. وكان الهدف من الحدث ليس فقط عرض الآليات القائمة لدعم التعاون بين الشركات الروسية والأجنبية، بل واستكشاف نماذج جديدة للتعاون أيضاً للتغلب على التحديات في الاقتصاد العالمي المتحول.
علّق المدير التنفيذي لمؤسسة روسكونغرس على الحدث قائلاً: «خلال اجتماعه مع الرئيس بوتين في أستانا في 3 تموز 2024، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هدف تركيا المتمثل في تحقيق 100 مليار دولار في التجارة مع روسيا. البنية التحتية لنمو التجارة الكبير بين بلدينا موجودة بالفعل: في النصف الأول من عام 2024، بلغ حجم التجارة 28 مليار دولار. ترى مؤسسة روسكونجرس أنَّ مهمّتها هي جمع الشركات الروسية والتركية لتحقيق هذا الهدف. جلسة اليوم ليست سوى بداية لحوار أوسع، والذي يجب أن يستمر على منصّات مثل منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، وأسبوع الطاقة الروسي، ومنتدى الاستثمار في القوقاز، وغيرها. الشركات التركية على دراية جيّدة بهذه التنسيقات: على سبيل المثال، في عام 2024، شاركت الشركات التركية بنشاط في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، ممثّلةً قطاعات مثل الخدمات اللوجستية والبناء وتجارة الجملة والآلات والأدوية. ستشكل مناقشات اليوم الأساس لمقترحات لمزيد من تطوير التجارة، والتي آمل أن تستمر في روسيا».
يبدو أنّ روسيا وتركيا ماضيتان في التوافق على جميع الملفّات الخلافية بينهما، وتعزيز التعاون لتحقيق مصالحهما بأقصى حدّ ممكن. وفي هذا السياق، فإنّ طلب الانضمام إلى مجموعة البريكس الذي قدمته تركيا في 2 أيلول 2024، هو خطوة نحو هذا التعزيز، الذي يبدو أنّه يهدف في نهاية المطاف إلى إدماجٍ كامل لتركيا في القطب الصاعد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1207