الرأسمالية الأمريكية دون بوصلة: هل يكتب الانقسام شهادة وفاة أمريكا نفسها؟
إعداد: عروة درويش إعداد: عروة درويش

الرأسمالية الأمريكية دون بوصلة: هل يكتب الانقسام شهادة وفاة أمريكا نفسها؟

في أعقاب «هجوم الكابيتول» في 6 كانون الثاني 2021، اتخذت كبرى المؤسسات المالية والشركات الأمريكية موقفاً غير مسبوق، حيث أَوقفتْ البنوك الكبرى و«غرفة التجارة الأمريكية» دعمَها للحزب الجمهوري، وانضمّت إليها أكثر من 123 شركة كبرى. إنّ هذا، إذا ما نظرنا إليه من زاوية أوسع، قد ينبئنا بانقسامٍ عميق داخل النخب الرأسمالية الأمريكية، لتكشف لاحقاً عن حالة من التشظّي تزدادُ عمقاً يوماً بعد يوم، مهدِّدة بمواجهاتٍ كبرى قد تصل إلى انهيار وحدة البلاد أو حتى حرب أهلية. وعلى الصعيد الدولي، يبدو أنّ هذا التراجع الداخلي سيمنح منافسي الولايات المتحدة فرصةً لتعزيز نفوذِهم على حسابها.

لكن، ورغم قيام هذه الشركات أيضاً في 2022 بفرض غرامة تمويلية بمتوسط 100 ألف دولار على أعضاء مجلس الشيوخ الذين رفضوا التصديق على انتخابات 2020، فقد تراجعت العقوبات في انتخابات 2022، وتلاشت في 2024. ما الذي عناه ذلك؟ هل النُّخَب التي تموّل مجموعات الضغط التي كانت ترى في ترامب تهديداً في 2021 لم تعد تراه كذلك؟ أم أنّ هناك تغييراً في المشهد جعل اقتراحات ترامب - أمثال التعريفات الجمركية الشاملة، والترحيل الجماعي للمهاجرين - أكثر قبولاً للنخب الرأسمالية الأمريكية؟ أم أنّ هناك انقساماً حادّاً بين النخب الرأسمالية الأمريكية يجعلها عاجزة عن الاتفاق والضغط باتجاه واحد؟

تاريخ التنسيق بين النخب الرأسمالية

لطالما كان تنظيم الأعمال في الولايات المتحدة يحدث تاريخيّاً فقط استجابةً لتحدّيات تفرضها حركات العمّال المنظَّمين أو الحركات الفلّاحية. لم تملك الولايات المتحدة في بدايتها، دوناً عن بقيّة الدول الرأسمالية، منظَّمةَ أعمالٍ وطنية موحدة ومهيمنة. ولهذا عندما كانت تظهر مثل هذه المنظمات، فإنها لا تكون ظواهر طبيعية تنبع من داخل مجتمع الأعمال ذاته. فعلى سبيل المثال، تم تنظيم أولى المنظَّمات الرئيسية التي تمثل أصحاب العمل الأمريكيين – «الرابطة الوطنية للمصنّعين» و«غرفة التجارة» – من قبل حملة ويليام ماكينلي الرئاسية عام 1896 وإدارة تافت على التوالي. وكما تُجادل العالِمة السياسية كاثي جيه. مارتن، «يصعب على أرباب العمل في الولايات المتحدة التفكير في مصالحهم الجماعية طويلة الأجل مقارنةً بنظرائهم في أماكن أخرى. نظراً للطبيعة الانقسامية لرأس المال الأمريكي، فإنّهم بارعون للغاية في قول (لا) للوائح التي تسيء إلى مصالحهم الضيقة، وسيّئون للغاية في قول (نعم) للسياسات التي تعزز مخاوفهم الجماعية طويلة الأجل» – مثل التجارة الحرة مقابل الحماية، ومستوى الطلب في السوق المحلية، أو درجة عدم المساواة في الدخل.
شهدت السبعينيات استثناءً لهذه القاعدة، كما حدث في تسعينيات القرن التاسع عشر. فمع تراجع أرباح الشركات وسط التوظيف الكامل المستمر الناتج عن حرب فيتنام، قامت الشركات الأمريكية برفع الأسعار لتعزيز هوامش الأرباح ونقل الإنتاج إلى أسواق عالمية تزداد تكاملاً. أدى ذلك إلى ارتفاع في نشاط النقابات، بينما أثارت خطوات الرئيس نيكسون – مثل إنشاء وكالة حماية البيئة (EPA) وإدارة السلامة والصحة المهنية (OSHA) في عام 1970، وتجميده للأسعار في عام 1971 – استياء المديرين التنفيذيين الأمريكيين. وبذلك، بدأت الطبقة المالكة الأمريكية بالتنظيم بتنسيق غير مسبوق.
في عام 1972، تشكّلت «الطاولة المستديرة للأعمال» من اندماج بين «لجنة دراسة قوانين العمل» و«الطاولة المستديرة لمستخدمي البناء لمكافحة التضخم»، وهذه الأخيرة كانت منظمة ضغط مكرَّسة لترسيخ استراتيجيات مكافحة النقابات في القانون، ومجموعة من المديرين التنفيذيين الساعين إلى تنسيق مقاومة أرباب العَمل لمطالِب النقابات. وكما يشرح بول هايدمان، كانت هذه الطاولة «نوعاً جديداً من التنظيم للأعمال الأمريكية». اقتصرت العضوية فيها على الرؤساء التنفيذيين لأكبر الشركات الأمريكية فقط. وبدلاً من تأييد المرشحين مباشرة أو توظيف جماعات ضغط، ركزت الطاولة على بناء توافق داخل الطبقة الرأسمالية، يتم تنفيذُه من خلال تدخُّلات أعضائها المتَّصلين سياسيّاً بشكلٍ شخصي. بهذا المعنى، كانت الطاولة المستديرة مشروعاً مخصَّصاً للتغلُّب على مشاكل العمل الجماعي داخل الطبقة الرأسمالية – واختيار التجارة الحرة بدلاً من الحماية، والنظام المفتوح بدلاً من المساومة الجماعية، والدولار القوي.
في عام 1975، استجابت غرفة التجارة للتحديات المتزايدة. فقد استعانت بروبرت ليشر، المستشار الإداري لجماعات الضغط، كأوّل رئيسٍ بدوام كامل للغرفة. ومع ارتفاع التضخُّم إلى مستويات تفوق المعدَّلات المعتادة بعد الحرب، حقّقت حملة ليشر الناجحة بشكل مذهل إحياءً ملحوظاً لغرفة التجارة. ففي عام 1976، كان للغرفة بالكاد 50,000 عضو من الشركات، لكن بحلول عام 1980 ارتفع العدد إلى ما يقارب 250,000. وأصبحت المنظمة، التي كانت راكدة سابقاً، بمثابة «حاضنة لحركة اجتماعية من أجل الرأسمالية»، وفقاً لوصف كيم فيليبس فاين.
من عام 1980 وصاعداً حشد الرأسماليون الأمريكيون قوّة جماعية ليس فقط لخوض معارك سياسة قصيرة الأجل، بل لوضع رؤية طويلة الأجل لإدارة الرأسمالية الأمريكية: رؤية تستلزم التراجع عن نظام «الصفقة الجديدة / New Deal». وكانت «الصفقة الجديدة» (1933–1939) حزمةَ إصلاحات ومشروعات مثّلت تدخُّلَ الدولة الأمريكية لتخفيف عواقب الكساد الكبير على المجتمع، نفّذها الرئيس روزفلت.
لكنّ الباحث السياسي بول هايدمان يقول إنّ نجاح تعبئة الأعمال هو الأمر ذاته الذي أدّى إلى انهيارها. فقد هزمت الطبقة الرأسمالية العدوَّ الذي كان يوحّدها، والمتمثّل في النقابات العمالية المنظَّمة، والتنظيم الحكومي، والضرائب. بدت الأرباح وكأنّها عادت إلى مسارها التصاعدي، وبدأت كثافة النقابات في الانخفاض الحادّ، واعتنق الحزبان الرئيسيّان أشكالاً مختلفة من النيوليبرالية التي تبنّتْها غرفةُ التجارة والطاولة المستديرة: تخفيض الضرائب الفردية، وإلغاء القيود التنظيمية، والدولار القوي. وهكذا تلاشت القدرة على العمل الجماعي التي تمّ تطويرها خلال سنوات الأزمات.
بحلول تسعينيّات القرن الماضي، كانت «الطاولة المستديرة للأعمال» تعاني من تراجعٍ تنظيمي شديد. ومع تضاؤل دخلها، دعا رئيسها الأعضاء إلى زيادة رسوم العضوية ثلاثة أضعاف للحفاظ على قدرتها على التأثير السياسي. ونتيجة لذلك، فقدت الطاولة المستديرة ثلث أعضائها. وفي عام 1993، أعرب فيرنون لوكس الابن، الرئيس التنفيذي لشركة «باكستر» العملاقة في مجال الأدوية، عن أسفه لحالة تنظيم الأعمال قائلاً: «على الرغم من أن الأعمال قد تتمتع بشيء من القوة الاقتصادية، فإن معظم رجال الأعمال لا يمتلكون قوة سياسية حقيقية ولا يدّعون فهمَها أو استخدامها. لن يحدث أي تغيير في مدارسنا إلا إذا حظي بموافقة العمليات السياسية بشكل ما. ومع ذلك، عندما نواجه سؤالاً في مجال السياسة العامة مثل التعليم، نجد أنفسنا في قطاع الأعمال غالباً في حالة من الجهل التام».
استطاعت غرفة التجارة البقاء خلال تلك الفترة، ولكن فقط عبر التخلي عن مهمّتها الأصلية في توحيد جماعات الضغط التجارية عبر القطاعات المختلفة. وبدلاً من ذلك، دخلت الغرفة في مجال «بيع الإنكار selling deniability» لأعضائها، وهو نموذج عمل جرت تجربته لأول مرة من قبل صناعة التبغ. فمع خشية شركات التبغ من أن يؤدي الدفاع العلني ضد اللوائح الصحية إلى الإضرار بعلاماتها التجارية، قامت بالتبرع سرّاً للغرفة، التي بدورها ستتولّى الدفاع ضد اللوائح التي تعارضها الصناعة. وانتشر هذا النموذج ليشمل قطاعات السيارات والأدوية والتأمين، حيث ضخّ كلٌّ منها مبالغَ ضخمة من الأموال في الغرفة على أمل التستّر على تدخلاتها السياسية غير الشعبية.

1205-31

ترامب أم لا ترامب؟

في ظل غياب منظمة وطنية قويّة لتنسيق العمل السياسي بين الرأسماليين، أصبحت الانقسامات داخل الانتماءات السياسية لرأس المال الأمريكي اليوم تتركّز في الغالب على الخطوط القطّاعية، حيث تُتَّخذ التدخّلات السياسية عادة لدعم المصالح الضيقة للقطّاع. في المجمل، جمع «ترامب» خلال هذه الدورة الانتخابية 1.1 مليار دولار، منها 69% من المساهمات الكبيرة. أمّا «هاريس» فقد جمعت 1.7 مليار دولار، جاء 58% منها من المساهمات الكبيرة.
كانت القاعدة الأساسية لحملة ترامب الانتخابية هذه الدورة، كما هو الحال دائماً، تتمثل في الصناعات التقليدية، مثل التصنيع والطاقة والخدمات اللوجستية. فقد قدمت الشركات الزراعية – التي تستفيد من الأجور المنخفضة والتنظيمات المتساهلة فيما يخصّ المبيدات والأسمدة – ما يقارب 18 مليون دولار لترامب، مقارنة بـ4 ملايين دولار فقط لهاريس. يبدو أنّ التعرفة الجمركية الشاملة بنسبة 20% التي اقترحها ترامب لم تردع قطاع الزراعة عن التبرع له. ففي عام 2020، قدّم المانحون من هذا القطاع 16 مليون دولار لترامب. أمّا قطاع النقل فقد تبرّع بما يقرب من 97 مليون دولار لترامب، وهو ما يعادل 18 ضعفاً لما تبرَّعَ به لهاريس. وبالمثل، قدّم قطاع الطاقة ما يقارب 6 أضعاف الدعم المالي لترامب (31.1 مليون دولار) مقارنة بهاريس (5.3 مليون دولار).
تميل قاعدة المانحين للحزب الديمقراطي إلى القطاعات غير الإنتاجية، وبشكل رئيسي التمويل والتكنولوجيا. من قطاع التكنولوجيا، جمع ترامب فقط ما يعادل سُبع المبلغ الذي جمعته هاريس، وكان معظمه من الشركات المصنّعة للإلكترونيات. حتى تشرين الأول، كان المانحون في صناعة الإنترنت قد خصصوا 82% من مساهماتهم السياسية للديمقراطيين، بينما كانت نسبة 72% من التبرعات في صناعة البرمجيات موجَّهة لدعم الديمقراطيين. يبدو أنّ المخاوف بشأن تداعيات رئاسة ترامب على التجارة بين الولايات المتحدة والصين قد أثّرت في دعم قطاع التكنولوجيا.
حصل الديمقراطيون على دعم استثنائي من الشركات المصنعة للإلكترونيات، ربما بفضل الإعانات المقدمة من قانون CHIPS وقانون خفض التضخم، إضافة إلى التوجه الدولي الأكثر وضوحاً للحزب. فقد تلقّت هاريس 19.7 مليون دولار من التبرعات من هذا القطاع، وهو ما يعادل خمسة أضعاف ما جمعه ترامب. ومع ذلك، يبدو أنّ إعانات بايدن لقطاع الطاقة المتجدّدة والمَركبات الكهربائية لم تحقّق سوى دعمٍ ماليٍّ طفيف للحزب. تلقّت هاريس 6.9 مليون دولار فقط من قطاع الطاقة المتجدِّدة والمركبات الكهربائية، ومعظمها من المستثمرين الجريئين في القطاع، مقارنة بـ2.4 مليون دولار لترامب.
غابت عن قاعدة المانحين لهاريس قطاعات النفط والغاز، التي قدّمت 20.4 مليون دولار لترامب، والتبغ الذي قدم 8.6 مليون دولار، وإدارة النفايات التي قدمت 8.2 مليون دولار. وعلى الجانب الآخر، غابت عن قاعدة ترامب قطاعات التعليم والإعلام. ومن اللافت للنظر أنّ هاريس تلقّت أكثر من ضعف التبرعات من صناعة الدفاع مقارنة بترامب. أما النخبة المالية فكانت منقسمة، لكنها، وبشكل يثير الاهتمام، مالت نحو الجمهوريين: جمع ترامب 234.9 مليون دولار من القطاع مقارنة بـ117 مليون دولار جمعتها هاريس.
في الواقع، هناك من يعتبر بأنّ لوبي الأعمال الأمريكي يتّسم بما يمكن اعتباره نقصاً في العقلانية على مستوى الطبقة بأكملها. بين خياري زيادة الضرائب على الشركات والإنفاق العام أو فترة رئاسية ثانية لترامب، اعتبرَتْ معظم الجهات المانحة الكبرى في قطاعات المالية والطاقة والزراعة والنقل الخيارَ الأول تهديداً أكبر للنظام الذي يهيمنون عليه. من جهة أخرى، اختلفت التكنولوجيا المتقدمة وصناعة الإنترنت مع أقليةٍ (ولكنها ملحوظة) من قطاع المالية مع هذا الرأي، لكنها فشلت في شن حملة ناجحة.
كانت التدخلات السياسية غير المتناسقة لطبقة الرأسماليين الأمريكيين خلال رئاستي ترامب وبايدن الأولى تجسيداً لعجزهم طويل الأمد عن التغلب على مشاكل العمل الجماعي. تميزت انتخابات 2024 في الولايات المتحدة بالدعم العلني من قبل مديري صناديق التحوط، ورأس المال الاستثماري venture capital، والأسهم الخاصة private equity لترامب. بخلاف نظرائهم في القطاعات التقليدية، لا تُعتبر صناديق التحوط جهات توظيف بمعنى الكلمة. على سبيل المثال، «أكرمان»، الذي تبلغ ثروته الصافية أكثر من ثلاثة أضعاف ثروة «جيمي دايمون»، يوظف أقل من 100 شخص. يمنح هذا الحرية الكبيرة لمديريها، الذين هم أغنى بكثير من نظرائهم في الصناعات التقليدية، للتدخُّل سياسياً.
لكن هؤلاء المموِّلين ليسوا موحَّدين في دعمهم للحزب الجمهوري. قدم رأس المال الاستثماري ثلثي مساهماته للحزب الديمقراطي، بينما قدمت صناديق التحوط النسبة نفسها للديمقراطيين، وقسمت الأسهم الخاصة تبرعاتها بالتساوي. ومع ذلك، فإن تدخلاتهم السياسية تتسم بطابعها الفوضوي وغير المنظم. على سبيل المثال، ترشح مدير صندوق التحوط «توم ستاير» في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الديمقراطية عام 2020، بتمويل ذاتي بلغ 70 مليون دولار من ثروته الخاصة.

القطاع المالي وترامب

ظهرت الفوضى في الطبقة الرأسمالية بشكلها الأكثر تجلياً في الدعم الذي حصل عليه ترامب من القطاع المالي. فهذا الدعم لا يمثل تحولاً شاملاً نحو الحزب الجمهوري، بل يعكس الفوضى العميقة في الطبقة الرأسمالية الأمريكية.
إنّ تشتُّت مصالح هذه الطبقة، وعدم قدرتها على إيجاد انضباطها وضبط إيقاع الدفاع عنها، عنى بأنّ الكثير من الرأسماليين كان عليهم اتخاذ قرارات الدفاع عن مصالحهم بشكل فردي. ورغم أنّ هذا غير متصوّر في بنية رأسمالية معقدة ومنظمة، كالموجودة في الولايات المتحدة، يجب تخيّل حدوث ذلك تبعاً لكون القطاع المالي ليس بنوكاً ومؤسسات مالية فقط، بل هو مجال مفتوح لجميع القطاعات الاقتصادية ضمن عملية الأَمْوَلة التي خضع لها الاقتصاد الأمريكي في العقود الثلاثة الأخيرة.
لا يمكن للقطاعات الرأسمالية التي تملك فائضاً ماليّاً هائلاً ناجماً عن استثمارات مالية في مجالات متعددة أن تتمكن من اتخاذ قرارات متّسقة، فهي من ناحية تحصل على الريع من أمكنة متناقضة. لهذا ودون تصوّر تهديد حقيقي للطبقة المالكة، لا يوجد دافع لتوسيع التنظيم الوطني إلى ما يتجاوز هوسَه القطّاعي قصير الأجل. ونتيجة لذلك، فقد الرأسماليون الأمريكيون ليس فقط القدرة على فرض الانضباط على السياسيين، بل القدرة على تنظيم أنفسهم أيضاً. يمكن اعتبار هذا انعكاساً للنجاح طويل الأمد لرأس المال – حيث افتقدت الشركات منذ السبعينيّات سبباً كافياً للتنظيم كما فعلت خلال تلك الفترة – ولكنه قد يتحوّل قريباً إلى مشكلة.
ما يجري اليوم يعكس بوضوح حالة الانقسام والتشظّي العميقة داخل النخب الرأسمالية الأمريكية، وهي حالة لا يمكن أن تستمر دون دفع ثمن باهظ في المستقبل. إنّ غياب التنسيق والتنظيم على مستوى الطبقة المالكة، إلى جانب الصراعات الداخلية المتصاعدة، يضع الولايات المتحدة على مسارٍ مليء بالتحديات التي قد تصل إلى مواجهات وصراعات كبيرة.
لا يمكن التنبؤ بنتائج هذه الصراعات، ولكن ليس من المستبعد أن نشهد أحداثاً بحجم انهيار وحدة الولايات المتحدة نفسها، حيث قد تتجه البلاد، في أدنى الأحوال، نحو انقسامات سِلميّة، أو قد تنجرّ، في أقصى السيناريوهات، إلى حرب أهلية جديدة. أمّا على الصعيد الدولي، فإنّ هذا التفكّك الداخلي سيكون دون شك فرصةً ذهبية لمنافسي الولايات المتحدة، الذين يراقبون مرحلة التراجع الأمريكي بعينٍ حذرة ولكن مترقّبة، ما قد يغير معادلة القوى العالمية لصالحهم.
في خضمّ هذه التحولات، يبدو أنّ النخب الرأسمالية الأمريكية، بدلاً من قيادة البلاد نحو الاستقرار، تتحوّل إلى عبءٍ ثقيل يُسرِّع من وتيرة الانحدار. السؤال لم يعد ما إذا كانت أمريكا ستواجه هذا المصير، بل متى وكيف ستحدث هذه الانقسامات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1205