الوهم السياسي والانحدار الألماني المستمر
شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي تحولاً نحو «اليمين المتطرف» في مختلف دول الاتحاد الأوروبي. ففي ألمانيا، زاد حزب البديل من أجل الألمان الفاشي الجديد حصته من الأصوات بنحو الثلث إلى نحو 16%. كيف حدث هذا؟ لكي نفهم صعود اليمين المتطرف، فمن المفيد أن نلقي نظرة عن كثب على القوة الأكبر في الاتحاد الأوروبي.
لطالما كانت ألمانيا قوة صناعية وسياسية في أوروبا. لقد كانت «الرخاء للجميع» و«القيم للجميع» من المبادئ المُعلنة لألمانيا الموحدة. لكن من المؤكد أن هذه المبادئ لم تتحقق قط. إنّ عدم المساواة والفقر، واستبعاد الأقليات، وتشويه سمعة المنتقدين ودعم العنف العسكري، كلها أمور موجودة دائماً في ألمانيا، كما هو الحال في بلدان أخرى حول العالم. لكن في العقود الثلاثة الماضية، اتخذت السياسة الألمانية منعطفاً قاتلاً. وقد صاحب هذا عملية زحف تآكلت فيها المجتمعات، في حين اختفت حتى التطلعات إلى المساواة الاجتماعية، أو تعزيز الديمقراطية في المجال العام، أو تعزيز السياسات الرامية إلى تحقيق السلام العالمي والازدهار.
ومن أجل إخفاء الانحراف عن أهداف مثل الرخاء العام والقيم، تم خلق أوهام حول ما يحرك السياسة فعلياً. وتم إخفاء تخفيضات الإنفاق الاجتماعي والتقشف وراء تسميات لطيفة مثل «أجندة 2010» أو «الإصلاح». لكنّ هذا لم يفلح، كما وعدت الحكومة، في خلق ملايين الوظائف والنهوض بألمانيا اقتصادياً. ولم يكن نجاح الاقتصاد الألماني في البقاء على قيد الحياة إلى حد ما راجعاً إلى تخفيض الإنفاق الاجتماعي، وضغط الأجور، و«التحرير». ففي نهاية المطاف، كان انتعاش الاقتصاد العالمي من جديد ونمو آلة التصدير الألمانية هو الذي سمح لألمانيا بالنمو، ولو بشكل معتدل.
لقد حققت «الإصلاحات» في الواقع شيئاً، تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في البلاد. كما أدى ذلك إلى إنشاء أكبر قطاع للأجور المنخفضة في أوروبا، وخفض الطلب المحلي، وخلق اعتماداً خطيراً على الأسواق الأجنبية، وزاد من الفقر، واتسعت فجوة الدخل. في وقت لاحق، قامت الحكومة الألمانية بتصدير التقشف إلى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي أثناء أزمة اليورو، مما ضغط على اليونان بشكل خاص للقيام بتخفيضات اجتماعية واقتصادية مدمرة.
كان هناك أيضاً من يستغلون الفرص. وابتهج رجال الأعمال والمستثمرون والأثرياء في البلاد. واليوم، أصبحت الثروة موزعة بشكل غير متساوٍ في ألمانيا أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا تقريباً. ووفقاً للإحصاءات الرسمية، فإنّ أغنى مئة شخص، أو أعلى 1٪، يمتلكون الآن أكثر من تريليوني يورو. لكنّ من المحتمل أن يكون الرقم أكبر من ذلك بكثير. فوفقاً لأرقام معهد الاقتصاد الكلي وأبحاث الاتصالات «IMK»، فإنّ الرقم في الواقع أعلى بثلاث مرات ونصف . ومن الصعب قياس الثروة في ألمانيا ــ لماذا؟
إن أجراس الإنذار لا بد وأن تدق عندما يصبح مجموع ثروة أغنى أربع عائلات في ألمانيا مساوياً لثروة النصف الأدنى من شريحة الدخل. إن مئتي مليار يورو التي يمتلكها النصف الأدنى من شريحة الدخل تعادل تقريباً أصول عائلات مثل بوهرينغر «70 مليار يورو من شركة بوهرينغر للأدوية، وفقاً لتقديرات Netzwerk Steuergerechtigkeit»، وشوارتز «45 مليار يورو من سلاسل السوبر ماركت ليدل وكوفلاند»، والأشقاء كواندت «50 مليار يورو من شركة السيارات بي إم دبليو»، وهايستر آند ألبريشت «33 مليار يورو من سلاسل السوبر ماركت ألدي وتريدر جو». وهذا من شأنه أن يقوض الديمقراطية ويحولها إلى مهزلة. ففي نهاية المطاف، تترجم الأموال إلى قوة ونفوذ.
تمّت خصخصة العديد من المجالات التي يعتمد عليها الناس في البلاد من أجل العيش في أمان وتحويلها إلى «فعالة». إن حالة السكك الحديدية الألمانية ونظام الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية والزراعة وأسواق العقارات وأنظمة التعليم تظهر إلى أين أدى هذا. ففي السابق كانت هذه البنى التحتية في حالة جيدة نسبياً، ولكنها الآن معطّلة ومكلفة وغير عادلة ومسببة للتلوث.
تسليط الضوء على أيّ تناقض ثانوي
من أجل التغطية على الإحباط المتزايد وأسباب المظالم، بدأت الطبقة السياسية في إلقاء اللوم على اللاجئين والمهاجرين في الفوضى . يتم تقديم «الغزاة غير الشرعيين» على طبق من فضة من قبل المؤسسة والصحافة السائدة، وهم كبش فداء مثالي لليمين الاستبدادي ليتم التقاطهم واستخدامهم للفوز بالأصوات. لقد كان ذلك ناجحاً للغاية ليس فقط في ألمانيا، ولكن أيضاً في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة أيضاً.
ومع ذلك، يواصل الساسة ووسائل الإعلام نشر الأسطورة التي تقول إن كل شيء على ما يرام بشكل أساسي، وأن مسكنات الألم هنا وهناك سوف تكفي- المزيد من المساعدات الاجتماعية ــ التي لا تعوض حتى عن فقدان القدرة الشرائية الناجم عن التضخم ــ أو يورو واحد إضافي للأجور الدنيا ــ وهو ما تقوضه الشركات في كثير من الأحيان على أي حال .
ولكن من يريد أن يضع يده على الرواتب والأصول الباهظة، وعلى مكاسب رأس المال للمستثمرين والشركات «التي غالباً ما تكون مخبأة في مستنقعات ضريبية»، فإنه إما يعاقب بالجهل «انظر مطالب اليسار في البوندستاغ»، أو يتعرّض للهجوم من خلال سيناريوهات يوم القيامة الاقتصادية.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، يتجه القطار الألماني أيضاً في الاتجاه الخاطئ، أي نحو «الحلول العسكرية» باعتبارها الحل الأمثل للصراعات في القرن الحادي والعشرين. فبعد سقوط جدار برلين، كان من الممكن أن تجني ألمانيا ثمار السلام وأن تسلك مساراً مستقلاً بالتعاون مع الدول الأوروبية الأخرى، بعيداً عن الولايات المتحدة.
ولكن في نهاية المطاف، لم تكن لديهم الشجاعة الكافية للتخلي عن مفهوم الأمن السام الذي تبنته واشنطن. وكانت النتيجة العمليات العسكرية التي شنها حلف شمال الأطلسي في يوغوسلافيا، والحروب في أفغانستان والعراق وليبيا، ومهام «مكافحة الإرهاب» التي تنفذها القوات الخاصة الأمريكية في مختلف أنحاء العالم، أو ما يسمى بالحروب القذرة. وبحسب جامعة براون، فقد قُتل 4.5 ملايين شخص في سياق «الحروب ضد الإرهاب»، التي أدّت في الوقت نفسه إلى تفاقم الإرهاب. ولم يجعل كل هذا العالم أكثر أمناً، بل جعله أكثر انعداماً للأمن.
أمّا الوهم بالانتصارات فمستمر، ويمكن رؤيته في أوكرانيا. وعلى الرغم من التوقعات القاتمة في ساحة المعركة، وتدمير أوكرانيا ومقتل آلاف الأوكرانيين، فإن شعارات المثابرة ومزاج النصر تنتشر بلا هوادة في ألمانيا كما في كل أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. منذ فترة طويلة حلت السياسة الوهمية محل الواقعية السياسية. وهناك أيضاً الشرق الأوسط الذي ما زال يمتلك موارد هائلة. فالحرب في غزة، الخامسة بالفعل، والدعم القوي المستمر «لإسرائيل» من جانب الولايات المتحدة وألمانيا ، فضلاً عن الدول الأوروبية. كل هذا يدفع المنطقة إلى الفوضى على نحو متزايد.
إن هذا الفشل السياسي هو المحرك الرئيسي للإحباط، والذي يمكن استغلاله من قبل أولئك الذين يريدون دفع ألمانيا وأوروبا إلى أقصى اليمين. ولن يتوقف هذا إلا إذا تم التعامل بجدية مع المشاكل الأساسية. وبما أن ألمانيا لا تزال القوة السياسية والاقتصادية في أوروبا، فيمكن أن يحدث فرقاً كبيراً إذا قررت البلاد تصحيح مسارها وتغييره في نهاية المطاف.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1182