المقاومة بالنسبة للفلسطينيين ليست حواراً فكرياً ولا نظرية أكاديمية
رمزي بارود رمزي بارود

المقاومة بالنسبة للفلسطينيين ليست حواراً فكرياً ولا نظرية أكاديمية

إن كلمة «مقاومة» في المعجم الفلسطيني لا تحتاج إلى شرح وافٍ يتجاوز المعنى المباشر الذي تولده بين الفلسطينيين العاديين. ولم تظهر مصطلحات مثل «المقاومة السلمية» و«المقاومة اللا عنفية» إلا مؤخراً، وتحديداً بعد اتفاقات أوسلو للسلام والتدفق المفاجئ للمنظمات غير الحكومية المموّلة من الغرب، وتغلغلها في بعض دوائر «المثقفين» الفلسطينيين. لكنّ هذه العبارات لم تسجّل قط باعتبارها جوهرية في الخطاب الجماعي للفلسطينيين، فبالنسبة لهم ظلت «المقاومة» كلمة واحدة. لا تتجزّأ، وتضم كل شيء.

ترجمة: أوديت الحسين

هناك فارق حقيقي بين التصور الفلسطيني للمقاومة والمفهوم الغربي الذي يروج لكون الفلسطينيين لا يرون المقاومة مسؤوليةً، ولا يسعون إلى تفسير أو وضع سياق أو تبرير أشكال المقاومة الجماعية التي يستخدمونها. تاريخياً، الظروف وحدها هي التي تحدد نوع وزمان ومكان المقاومة المسلحة أو غير المسلحة.
لكنّ المفهوم الغربي يقوم على مفهوم التفضيل، بمعنى أن إحدى الاستراتيجيتين أفضل من الأخرى، وأنّ إحداهما أخلاقية، في حين أن الأخرى ليست كذلك. وبهذا فإن هذا الموقف المتعصب يخلق تمييزاً واضحاً بين الفلسطينيين «المسالمين»، الذين يطلق عليهم المعتدلون، والفلسطينيين «العنيفين»، الذين يطلق عليهم المتطرفون.
فضلاً عن ذلك فإن التعريفات الغربية للمقاومة انتقائية. فالأوكرانيون على سبيل المثال، مسموح لهم باستخدام الأسلحة ضدّ الجيش الروسي. أما الفلسطينيون فيُدانون بسبب قيامهم بذلك عندما تغزو «إسرائيل» غزة وترتكب إبادة جماعية لا مثيل لها في فلسطين.
ورغم أن بعض دعاة بعض أشكال المقاومة ربما يكونون حسني النية، فيبدو أنّهم يتجاهلون تماماً الجذور التاريخية لمثل هذه اللغة. ومع ذلك، فإنهم من خلال الانخراط في مثل هذا الخطاب الإداني، يعيدون إنتاج تصورات استعمارية قديمة خلقها المستعمرون، سواء عن قصد أو بغير قصد. كانت لغة مماثلة تحدد علاقة أوروبا الاستعمارية بكل الأماكن المستعمرة تقريباً، فكان يُنظَر إلى أولئك الذين قاوموا باعتبارهم متوحشين أو إرهابيين. أمّا أولئك الذين لم يقاوموا، فلم يُمنحوا أي حقوق مدنية أو سياسية، بل فقط امتياز عدم التعرض للتعذيب أو القتل مع الإفلات من العقاب من حين إلى آخر.
ولكي ندرك مفهوم المقاومة في سياقها الفلسطيني بشكل كامل، فما علينا إلا أن ننظر إلى غزة. فرغم أن القطاع كان تاريخياً بمثابة مركز للمقاومة الفلسطينية في الخطاب والفعل، فإن المقاومة هنا ليست نتاجاً للجغرافيا بالكامل، بل هي بالأحرى تجربة وهوية جماعية لأولئك الذين يشغلون هذه المساحة الصغيرة التي تبلغ مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً.
70% من سكان غزة هم من اللاجئين. لقد تعرضوا للتطهير العرقي، إلى جانب ما يقرب من 800 ألف فلسطيني، من فلسطين التاريخية أثناء النكبة في عام 1948. ناجون من المذابح، التي كانت جزءاً من حملة عسكرية كبرى شهدت تدميراً أو إفراغ قرى وبلدات ومجتمعات بأكملها.
وبسبب صغر حجم غزة وطبيعة تضاريسها ـ أرض مسطحة قليلة الموارد ـ كانت معاناة اللاجئين في غزة بالغة الشدة. ففي ظل ماضٍ متواصل من الخسارة والمعاناة والحقوق المنهوبة وحاضر من الحصار والفقر المدقع، كان من المنطقي أن تكون غزة رأس الحربة للمقاومة الفلسطينية على مر السنين. وكثيراً ما كانت درجة الوحشية «الإسرائيلية» تحدد درجة الاستجابة الفلسطينية، لأن العنف يولد العنف، والحصار المميت والحروب والإبادة الجماعية تولد عمليات مقاومة من نوع طوفان الأقصى.

المقاومة المسلحة عنصر حاسم

رغم أن سكان غزة المقاومين استخدموا على نطاق واسع الإضرابات العامة وغيرها من أشكال العصيان المدني على مر السنين، وخاصة في الفترة ما بين الاحتلال «الإسرائيلي» عام 1967 وما يسمى «إعادة الانتشار» العسكري الإسرائيلي عام 2005، فإنّ المقاومة المسلحة كانت دائماً عنصراً حاسماً في المقاومة الفلسطينية.
وعلى الرغم من عزلة غزة الجغرافية، التي سبقت منذ فترة طويلة آخر طبقة من الحصار «الإسرائيلي» المفروض على القطاع في عام 2007، فإن سكان غزة، كما يحكم عليهم من خلال حالة التمرد المستمرة والخطاب السياسي، كانوا ينظرون إلى أنفسهم دائماً جزءاً من كيان فلسطيني أكبر وأكثر تماسكاً. وأحد الأسباب وراء ذلك هو أن الذاكرة الفلسطينية الجماعية كانت بمثابة عامل ربط بين الأجيال، أبقى المجتمعات الفلسطينية مرتبطة بفلسطين كواقع ملموس، وكذلك كفكرة.
إن الأمر سيستغرق سنوات عديدة قبل أن ندرك العواقب النفسية لهذه الحرب بشكل كامل. ولكن الأرقام تتحدث بالفعل عن تغير في التصورات. إذ يعتقد أكثر من 70% من الفلسطينيين الآن أن المقاومة المسلحة هي الطريق إلى الأمام، وهو ما يشكل تحدياً مباشراً وحاسماً للتصورات التي سادت بعد اتفاقات أوسلو مباشرة وخلال المرحلة المبكرة ممّا يسمى بعملية السلام. ففي ذلك الوقت، كان العديد من الفلسطينيين يعتقدون حقاً أن الحل التفاوضي هو أقصر الطرق إلى إقامة الدولة الفلسطينية.
إن الاحتمالات تشير إلى أن المقاومة المسلحة سوف تستمر في النمو، ليس فقط في غزة، بل وفي الضفة الغربية أيضاً. ومن المرجح أن تستمر حركة مسلحة ناشئة، تتركز في الغالب في المنطقة الشمالية من الضفة الغربية، في النمو أيضاً، وتصمم نفسها، كلما أمكن ذلك، على أساس أفكار واستراتيجيات وقيم المقاومة في غزة. والواقع أن نوعاً مختلفاً من الوحدة الفلسطينية يتشكّل الآن.
إن إحدى أقدم الدعوات إلى المقاومة وأشدها قوة، والتي كانت تُعرف آنذاك بالجهاد، لم تكن من قِبَل فلسطيني، بل من قِبَل واعظ سوري في آخر خطبة عامة ألقاها في مسجد الاستقلال في حيفا في التاسع من تشرين الثاني 1935. لقد ظل الفلسطينيون يقاومون لسنوات. ولكن ما جعل دعوة عز الدين القسام خاصة بشكل خاص هو أنها ساهمت في التمرد الذي استمر مدة ثلاث سنوات ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني والذي أعقب إضراب عام 1936. ربما نضج الفكر السياسي للقسام في فلسطين، ولكنه تطور في سورية ومصر. لقد فر القسام من الاستعمار الفرنسي في عام 1920 ليخوض نضالاً آخر ضد الاستعمار، وهذه المرة شارك فيه البريطانيون وحلفاؤهم الصهاينة في فلسطين.
وحتى المقاتلون المدربون والمجهزون جيداً لا يستطيعون القتال، ناهيك عن البقاء على قيد الحياة، في وجه القوة النارية «الإسرائيلية» في أغلب أنحاء غزة. فكيف نجحت المقاومة الفلسطينية في البقاء على قيد الحياة؟ الجواب هنا لا يتعلق بالتكنولوجيا أو التكتيكات العسكرية بقدر ما يتعلق بالقيم غير الملموسة. وإذا طرح هذا السؤال في غزة، فمن المرجح أن تشير الإجابة إلى مفاهيم مثل «روح المقاومة». ورغم أنه من غير السهل تحديد مثل هذه المفاهيم غير الملموسة، فإنّ الحقيقة هي أن المقاومة المسلحة في فلسطين ما كانت لتنجو من الهجوم «الإسرائيلي» لولا صمود الشعب الفلسطيني.
إن المقاومة بالنسبة للفلسطينيين ليست حواراً فكرياً أو نظرية أكاديمية. كما أنها ليست نتيجة لاستراتيجية سياسية. وعلى حد تعبير فرانز فانون، في إشارة إلى حروب التحرير: «نحن نثور ببساطة لأننا لم نعد قادرين على التنفس». الواقع أن الثورات والمقاومة الفلسطينية هي نتيجة مباشرة لرفض الشعب الفلسطيني قبول الظلم الذي يفرضه الاستعمار الاستيطاني والاحتلال العسكري والحصار المطول والحرمان من الحقوق السياسية الأساسية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1181