بي.بي.سي: الانحطاط الإعلامي المتخفي
إعداد أوديت الحسين إعداد أوديت الحسين

بي.بي.سي: الانحطاط الإعلامي المتخفي

البدء بما كتبته صحيفة المورننغ ستار Morning Star عن البي.بي.سي مناسب: «قليلة هي الأشياء القيّمة فيها. جزء كبير من الكوميديا فيها – بما في ذلك مسلسلاتها الكوميدية – عبارة عن خدمة طنانة من الانغماس الذاتي الممزوج بالتفاهات الليبرالية، التي تقدمها كتيبة من المنتجين والمؤدين باستخدام مواد نادراً ما تردد صدى الحياة التي يعيشها الملايين». لكنّ هذا النهج من اللا مصداقية هو الذي يسمح للبي.بي.سي بعرض السياسة المعاصرة على أنّها حلقات من «الحرب الثقافية» المنفصلة عن الواقع.

يفيد هذا النهج رعاة البي.بي.سي، فمعدّوها يستمرون بالتركيز على «الاختلافات الثقافية» للطبقة العاملة وكأنّها دوافع للسياسة أكثر من حقائق الاستغلال الرأسمالي. أمّا المحاولة لإظهارها كشبكة ذات مصداقية وميول «يسارية» فهي مجرّد محاولات لتحلية المرارة تخدم إبقاء الوضع الراهن وخطاب عدم وجود بديل، وتجعل من المدهش قيام أيّ شخص بأخذها على محمل الجد.
يمكن لأيّ منتقد للبي.بي.سي – وغيرها من وسائل الإعلام ذات النهج المماثل – أن يتوقّع وضعه في خانة واحدة مع مهاجميها من «المحافظين» وأن يستمع لدفاعات ليبرالية مبدعة. ولكنّ هذا ليس إلا امتداداً للنبرة التقليدية التي تمّت تجربتها واختبارها لبي.بي.سي باعتبارها شبكة «فوق السياسة». إنّ الأكثر إدراكاً من الطبقة الحاكمة يفهمون جيداً أنّ مصداقية إذاعة الدولة تعتمد على «استقلالها» المصطنع التي يحرصون على التركيز على كونه موجوداً بالرغم من عقود الخصخصة والاستعانة بمصادر خارجية وقيود التمويل. وليس الانقسام السياسي الصوري غير الواقعي الهامشي حول بي.بي.سي إلّا جزءاً من سرديّة الحفاظ على هذه «المصداقية» الكاذبة.

معايير مزدوجة نمطيّة

ليست «مصداقية» البي.بي.سي المشوهة نتاج الأزمة الراهنة، وليست وليدة الأزمة الأوكرانية أو تشكّل مصطلح «الغرب الجماعي»، بل هي متأصلة في الشبكة منذ زمن طويل. لا يمكن الإلمام بكامل الانحياز في التغطية الإعلامية في مقال واحد، حيث تتم قصقصة الكثير من الأخبار حول الضحايا المدنيين قبل عرضها على الجمهور، أو حتّى التجاهل المنهجي لحملات مثل «حياة السود تهم» أو «حياة المسلمين تهم». لكن يمكن إعطاء مثال: إظهار الاحتجاجات التي خرجت رداً على مقتل الأسود مارك دوغان من قبل الشرطة البريطانية على أنّها مجرّد أعمال شغب دافعها الجشع.
كان ثابتاً أيّام الوجود العسكري الغربي في أفغانستان أنّ البي.بي.سي – كلّما أمكنها ذلك – تتجاهل تغطية أيّة أخبار عن مقتل المدنيين على أيدي القوات البريطانية والأمريكية. قامت البي.بي.سي بتغطية خبر إعادة رفات الجنود البريطانيين، ولكن دون أيّ ذكر للقتلى العراقيين، ولا حتّى إحصائياً. كان يتمّ حجب الاحتجاجات ضدّ مقتل المدنيين إلى أقصى حد، كمثال المظاهرات التي خرجت في أفغانستان إثر مقتل أطفال محليين بقصف عسكري صاروخي في 2011. حتّى دمية الغرب الرئيس كرازاي كان مجبراً في حينه على التصريح: «نيابة عن الشعب الأفغاني أريدكم أن توقفوا قتل المدنيين». هذه القصّة تمّ دفنها في خدمة النصوص الإخبارية للبي.بي.سي، مثل الكثير من القصص المشابهة.
عند تغطية أخبار انسحاب القوات البريطانية الجزئي في 2014، وبدلاً من تغطية الانسحاب، كانت البي.بي.سي تبثّ تقارير وبرامج عن المقابر الأفغانية «المليئة بضحايا الحرب الذين قتلهم السوفييت وطالبان وتحالف الشمال والاستقرار المزعزع». لم يكن هناك ذكر للعواقب المدمرة للغزو البريطاني-الأمريكي. لا يمكن هنا لأحد ألّا يلاحظ نمط إعلام شركاتي مهيمن عبر تلفزيون دولة، والمصمم لإنتاج حصيلة محددة بشكل صارم.
إنّ تغطية بي.بي.سي للأحداث العالمية تثير أسئلة دافعي الضرائب البريطانيين عن الدور الذي تلعبه القناة كممثل تبريري للهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وصف الأستاذ الجامعي البريطاني غافين لويس هذا الأمر بالقول: «تميل تغطية بي.بي.سي لإجراءات وسياسة الحكومة الأمريكية إلى أن تكون مدفوعة بصيغة سردية منحرفة وغير مهنية: [الرجل الصالح ضدّ الرجل الشرير]. البلدان التي تربطها علاقات غير ودودة مع الولايات المتحدة مثل دول أمريكا اللاتينية اليسارية أو روسيا أو إيران، تخضع بشكل غير متناسب للنقد المستمر الحاضر والتاريخي، بل وحتّى لنظريات المؤامرة التخمينية... يتمّ على الدوام إظهار روسيا ضمن دائرة الاتهام بالتدخل غير الشرعي في البلدان التي يكون فيها عدد كبير من السكان من أصل روسي».
إنّ تقنيات التحرير الموالية للأمريكيين التي يتمّ اعتمادها في بي.بي.سي بسيطة بشكل ساذج أحياناً، وتستند بشكل رئيسي إلى المعايير المزدوجة على مستوى التحليل. يتمّ دوماً إخضاع الأجانب وتاريخهم وأنماط سلوكهم لتحليل تاريخي «عام»، بينما الجرائم التي تقوم بها أمريكا الأنجلو-ساكسونية يتمّ نقلها على أنّها حوادث فردية معزولة لا سمات مشتركة تجمعها مع أيّة انتهاكات سابقة لها. فإذا ما بحثنا بشكل حذر حول تغطية أيّة أحداث في روسيا «حتّى قبل اندلاع أزمة أوكرانيا»، فهي دائماً ما تدور حول قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، أو معاداة المثلية، أو القومية. في المقابل لن تسمع عن الولايات المتحدة في بي.بي.سي – وهي التي تضمّ 5٪ فقط من سكان العالم ولديها 25٪ من مساجين العالم، وغالباً ما يكونون محبوسين في سجون خاصة لتحقيق الربح، عن هذا النوع من القضايا المنهجية. وكما يقول لويس: «علينا تخيّل تغطية البي.بي.سي الحالية لأحداث مثل هويّة مارتن لوثر كينغ واحتجاجاته، ليس من المستغرب ألّا يحصل متابعو القناة على معلومات حقيقية بقدر ما سيحصلون على محتوى ترفيهي لا يختلف عن الذي كان يتمّ عرضه على شبكات الكيبل والراديو الأمريكية».

الأشرار في «الشرق»

كتب البروفسور عميد معهد البحوث الصينية في جامعة فودان، تشانغ وي، الكثير عن تغطية بي.بي.سي المتحيزة في الصين والأخبار الكاذبة، منها: «عندما التقوا بي في أحد برامجهم وهم يتباكون على حقوق الإنسان في هونغ كونغ، قالت لي مذيعة الإحصاء المعتمد بشكل رسمي في القناة: إنّ الصين قمعت في 2019 مليوني شخص نزلوا إلى الشوارع في هونغ كونغ للتظاهر ضدّ حكومة بكين المركزية. المثير للسخرية أنّ تعداد سكان هونغ كونغ هو 7,5 ملايين إنسان تشمل العجائز والأطفال. من غير المنطقي أن تقول بأنّ 30٪ من السكان نزلوا إلى الشوارع. لكن رغم ذلك لم تقتنع لا المذيعة ولا القناة واستمروا في إحصاءاتهم الخاصة...»
يقول سونغ لوزينغ بدوره، وهو باحث في معهد الصين في بكين، أيضاً عن البي.بي.سي: « لطالما اتهمت بي.بي.سي الصين بأنّها تحبس الملايين من اليوغور في معسكرات اعتقال. في أحد البرامج قامت المذيعة بطرح السؤال شديد السخف عن تشينغيانغ وكأنّ ما تقوله من المسلّمات غير القابلة للدحض: [ماذا عن المليون إنسان المحبوسين في معسكرات الاعتقال، البعض يعتبر ذلك جريمة إبادة جماعية]. لم يعجبها ضحكي بصوت عالٍ ولا جوابي بالطبع، فالحقيقة التي ذكرتها أنّ تشينغيانغ قد جذبت إليها في عام 2019 وحده أكثر من 200 مليون سائح، ولم تحدث فيها ولا حالة عنف إرهابي لثلاثة أعوام على التوالي هو إنجاز مذهل، لا تتناسب مع طرحهم... إنّ نهج البي.بي.سي هو: نحن نخدع، نسرق، نكذب».
إنّ الإمبريالية الإعلامية هي جزء شقيق للإمبريالية الثقافية، وهي الطريقة العصرية للاستعمار، والبي.بي.سي ليست أكثر من أداة لهذه الإمبريالية تحاول التخفي بأغطية أكثر إقناعاً للجمهور.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:38