العقوبات الجديدة على الصين: بصق في وجه الريح!
قامرت الولايات المتحدة بالكثير عندما فرضت أحدث عقوباتها على الشركات الصينية العاملة في مجال أشباه الموصلات، معتقدة بأنّ باستطاعتها تركيع الصين والحفاظ على الهيمنة الأمريكية. لكنّ خسارة صناعة أشباه الموصلات الأمريكية لأكبر سوق لها: الصين، سيكون له عواقب كبيرة. في هذه الأثناء سيعاني صانعو أشباه الموصلات في تايوان وكوريا الجنوبية وصانعو المعدات في اليابان والاتحاد الأوروبي من أن يصبحوا هم «الضرر الجانبي» لهذه الحرب. يذكرنا هذا بما قاله كيسنجر مرة: «أن تكون عدواً للولايات المتحدة خطير، لكن أن تكون صديقاً فهو مُهلك».
ترجمة: قاسيون
إنّ الهدف من الجيل الثاني للعقوبات الأمريكية، والتي تلت حزم عقوبات آب 2021، هو تقييد قدرة الصين على استيراد الرقاقات المتطورة، وبالتالي تعطيل قدرتها على تطوير وصيانة الكمبيوترات الفائقة، وتصنيع أشباه موصلات متطورة. أمّا تغليف العقوبات بأنّها موجهة ضدّ الشركات التي تساعد الجيش الصيني، فهو غطاء سخيف للبقاء اسمياً ضمن قواعد منظمة التجارة العالمية التي أنشأتها الولايات المتحدة نفسها والتي تفرض على جميع أعضائها منح حقّ الوصول إلى الأسواق. بعض العقوبات تستهدف حتّى التكنولوجيا الأقدم ولا تقتصر على المتطورة، مثل التكنولوجيا التي كانت تستخدمها شركة آي.بي.إم في التسعينيات.
تشمل العقوبات جميع الشركات التي تستخدم تكنولوجيا أو منتجات أمريكية في سلاسل توريدها. هذا نوع من تمديد صلاحية السيادة الأمريكية الذي يسمح للعقوبات بتحطيم أيّ كيان يكون له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالولايات المتحدة. هذه العقوبات مصممة لتفصل بشكل كلي سلاسل توريد الولايات المتحدة وحلفائها، عن الصين.
كما أنّ الجديد في العقوبات الأخيرة أنّها– بالإضافة إلى الشركات المحددة في العقوبات– قد أضافت 31 شركة إلى قائمة «غير المعرّفين». سيتعين على هذه الشركات أن تزوّد السلطات الأمريكية خلال فترة شهرين بمعلومات كاملة عنها وعن أنشطتها، وإلّا فإنّها تلتحق بالشركات المعاقبة أوتوماتيكياً. علاوة على أنّه يمنع على أيّ فرد أو كيان في الولايات المتحدة أن يعمل لصالح أو مع الشركات غير المعرّفة، ولا حتّى أن يقوم لصالحهم بأعمال مثل تصليح المواد التي باعها لهم سابقاً.
لكن ما هي العواقب المرجح حدوثها بسبب العقوبات الأمريكية؟
إنّ حجم صناعة أشباه الموصلات العالمية يجاوز اليوم من حيث القيمة نصف ترليون دولار، ومن المرجح أن يتضاعف حجمه أكثر من مرّة بحلول عام 2030. وفقاً لتقرير شركة «بوسطن غروب الاستشارية»، فمن المتوقع أن تحتلّ الصناعة الصينية لأشباه الموصلات نسبة 60٪من نمو الصناعة الكلي، لتستبدل الولايات المتحدة كرائد عالمي. هذا هو الدافع المباشر لفرض الولايات المتحدة عقوباتها في محاولة منع الصين من تولي زمام المبادرة.
لكن بينما تهدف الإجراءات المذكورة أعلاه إلى عزل الصين والحدّ من نموها، ما هو الجانب السلبي لمعاقبة الصين على الولايات المتحدة؟
مشكلة الولايات المتحدة أنّ الصين هي الشريك التجاري الأكبر لحليفي الولايات المتحدة: تايوان وكوريا الجنوبية. ففرض مثل هذه العقوبات على المعدات والرقاقات يعني أيضاً تدمير جزء كبير من السوق مع عدم وجود احتمال لاستبداله بشكل فوري. كما أنّ ذلك لا ينطبق فقط على جيران الصين في شرق آسيا، بل يمتدّ إلى مصنعي المعدات، مثل الشركة الهولندية: المورد الوحيدة لآلات الطباعة الحجرية التي تستخدم الأشعة فوق البنفسجية بشكل مكثف. بالنسبة لتايوان وكوريا الجنوبية، فالصين ليست فقط أكبر وجهة تصدير لصناعة أشباه الموصلات ولكن أيضاً لصادراتها الأخرى، وكذلك أكبر مورد لها لمجموعة من المنتجات. من المحتمل أن يؤدي الفصل القسري لسلسلة التوريد الخاصة بصناعة أشباه الموصلات مصحوباً بالفصل في القطاعات الأخرى أيضاً.
من المحتمل أيضاً أن تتلقى الشركات الأمريكية التي تصنّع المعدات وأدوات أتمتة التصميم الإلكتروني أمثال سينوبسيس وكادينس، وموردي أشباه الموصلات المتطورة أمثال كوالكوم وانفيديا وإ.إم.دي، ضربة كبيرة في مقاييس حدّها الأدنى الإنتاجي، فجميع هذه الشركات تمثّل الصين لها أكبر وجهة تصديرية. المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة ليست في كون الصين هي القسم الأسرع نمواً في عالم صناعات أشباه الموصلات، بل أيضاً في كونها السوق الأكبر له. لذلك فالعقوبات الأخيرة لن تقوم فقط بإعاقة الشركات الصينية المدرجة على اللائحة، بل أيضاً الشركات الأمريكية بحرمانها من جزء كبير من أرباحها، وبالتالي من استثماراتها المستقبلية في التكنولوجيا.
السياسة نفسها والعالم مختلف
ليس نظام العقوبات وفصل سلسلة التوريد العالمية بالأمر الجديد على الولايات المتحدة، فقد اتبعت مع حلفائها سياسة مماثلة خلال الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفييتي، وكان يسمّى حينها «ترتيب فاسينار Wassenaar Arrangement». كان هدفه مماثلاً للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على صناعة أشباه الموصلات. كان يعني في جوهره نظام منع التكنولوجيا عن أيّة دولة تعتبرها الولايات المتحدة «عدوّة»، وكان حلفاؤها في ذلك الوقت كما هو الحال اليوم يسيرون وفق ما تمليه الولايات المتحدة. كان الحظر يشمل منتجات محددة، ولكن تمّ إدراج الأدوات التي يتمّ من خلالها تصنيع هذه المنتجات في قائمة حظر التصدير.
لم تكن الدول الاشتراكية هي التي يطبّق ضدّها النظام فقط، بل تمّ أيضاً حرمان دول أخرى مثل الهند من التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر الفائقة والمواد المتقدمة وأدوات الآلات شديدة الدقة. الفارق اليوم هو أنّ الولايات المتحدة كانت تتمتع مع حلفائها العسكريين– الأوروبيين بشكل رئيسي– بميزة أنّ لديهم أكبر الشركات الصناعية في العالم. كانت الولايات المتحدة تسيطر في حينها أيضاً على النفط والغاز في غرب آسيا، وهما المورد الحيوي لجميع النشاطات الاقتصادية.
أمّا اليوم فيتمّ شنّ حرب الرقاقات ضدّ الصين في وقت أصبحت فيه الصين أكبر مركز صناعي في العالم، وأكبر شريك تجاري لـ 80٪ من دول العالم. ومع عدم التزام دول أوبك بإملاءات الولايات المتحدة، فقدت السيطرة أيضاً على سوق جزء هام من سوق الطاقة العالمي.
لماذا إذاً بدأت الولايات المتحدة حرب رقاقات مع الصين وهي لا تملك القدرة على الفوز فيها، أو في أفضل حالاتها قد تحقق نتائج محدودة؟ لا يمكن للولايات المتحدة في أحسن الأحوال أن تفعل أكثر من تأخير صعود الصين كقوة عسكرية عالمية وكأكبر اقتصاد في العالم. ربّما يمكن تفسير ذلك فيما يسميه المؤرخون العسكريون «مصيدة ثوسيديدس»: عندما تقوم قوّة عسكرية مهيمنة بمنافسة قوّة صاعدة، يزيد هذا من احتمال حدوث إمّا حرب اقتصادية أو عسكرية بينهما. وإن اقتصرت مصيدة ثوسيديدس بين الولايات المتحدة والصين على الحرب الاقتصادية– حرب الرقاقات– فيجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين.
اليوم ومع سلسلة العقوبات الأمريكية الجديدة يمكننا أن نعتبر بأنّ عالم النيوليبرالية الذي ابتكره الأمريكيون قد انتهى. وكلّما فهمت الدول الأخرى هذا الأمر حققت مصالح شعوبها بشكل أسرع. الاكتفاء الذاتي اليوم لا يدور حول صنع المنتج في دولة ما ليصبح تطوراً، بل أن تطوّر هذه الدولة المعرفة اللازمة لصنع هذا المنتج لديها دون أن يكون لدولة أخرى القدرة بأن تفرض عليها حظراً يمنعها من إنتاجه.
بتصرّف عن:
US Chip War Version 2: Decoupling from China or Declaring War?
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1094