لماذا الاهتمام بتحوّل تركيا إلى مركز عالمي للغاز؟

لماذا الاهتمام بتحوّل تركيا إلى مركز عالمي للغاز؟

في 12 تشرين الأول/أكتوبر خلال أسبوع الطاقة الروسي، أعلن الرئيس الروسي عن مقترح لإنشاء مركز دولي للغاز في تركيا، وبالتالي تعويض فقدان قدرة إيصال الغاز إلى أوروبا بعد الهجمات الإرهابية على خطوط السيل الشمالي 1 و2. جاء الاقتراح بمثابة مفاجأة للكثيرين لعدد من الأسباب سنتحدث عنها في المقال.

في البدء، وبناء على ردّ الفعل الأولي لوزير الطاقة التركي، فالسلطات التركية لم تكن تنتظر هذا الإعلان والمقترح أيضاً. مع ذلك تمّ النظر إلى الاقتراح نفسه بحماسة كبيرة. بعد يومين أصدر الرئيس التركي تعليمات للحكومة للعمل على التحضير لإمكانية إنشاء اللازم ليكون المركز جاهزاً للعمل في أقرب وقت ممكن، بل إنّ بعض تفاصيل المشروع قد خرجت للعلن، كمثال: إمكانية إنشاء المشروع في مقاطعة تراقيا التركيّة في الجزء الأوروبي من تركيا، وهي المتاخمة لحدود اليونان وبلغاريا.
إذا ما نظرنا إلى كلمات الرئيس الروسي حول مركز الغاز، فبعض الأسئلة لا بدّ وأن تخطر ببالنا: لم يمضِ وقت طويل على نسف خطوط السيل الشمالي في قاع البلطيق، ولم تتغيّر الأوضاع، وبالتالي فقد ثبت أنّ خطوط أنابيب الغاز البحرية في الظروف الحالية ليست الطريق الأكثر أماناً لتوصيل الوقود. كما أنّ عملية إنشاء خطوط أنابيب جديدة للغاز بين تركيا وروسيا قد تواجه التحديات نفسها التي واجهتها عمليات إنشاء خطوط السيل الشمالي وتحديداً السيل الشمالي 2.
لماذا إذاً التمسّك بمشاريع خطوط الأنابيب؟ هل لهذا المشروع مزايا تفوق العيوب المتوقعة؟ ماذا عن الاتجاه الواضح للاتحاد الأوروبي الذي يتجه بشكل أساسي إلى رفض موارد الطاقة من روسيا والابتعاد عنها، هل يبقَى للمشروع قيمة إستراتيجية في ظلّ هذا الرفض؟

مشروع منسي وآخر حي

الميزة الأولى للمشروع هي السهولة النسبية لتنفيذه. وفقاً لأليكسي ميلر، رئيس شركة غازبروم، فروسيا قد تعلمت كيفية بناء خطوط أنابيب الغاز بمفردها ولديها اليوم القدرة لتنفيذ مثل هذه المشاريع دون الحاجة للمعدات والتكنولوجيا الغربية. إضافة إلى ذلك، تمّ بالفعل إنشاء جزء كبير من البنى التحتية الضرورية للمشروع. قبل عام 2014 عندما قامت بلغاريا بضغط من الاتحاد الأوروبي بحظر مدّ أنابيب الغاز على أراضيها كجزء من مشروع «السيل الجنوبي»، كانت شركة غازبروم قد تمكنت من بناء جزء من البنية التحتية اللازمة للمشروع في إقليم كراسنادرا الروسي.
تمّ استخدام بعض السعة من هذه الأنابيب بالفعل من أجل تزويد إقليم كراسنادار وشمال القوقاز بالغاز، لكنّ الباقي يمكن استخدامه بشكل كلي في غرضه الأصلي. تمّ تصميم «التيار الجنوبي» الذي بات اليوم طيّ النسيان ليكون بسعة 63 مليار متر مكعب، أي ما يفوق السعة الإجمالية للتيار الشمالي «55 مليار متر مكعب». يمكن الانتهاء من البنية التحتية البحرية اللازمة في غضون عام أو اثنين، فهذا هو الوقت الذي استغرقته روسيا لبناء خطي «السيل الأزرق والتركي»، والمستوعبات البحرية الجافة المؤقتة cofferdams أقصر بكثير بالمقارنة بالمطلوبة لإنشاء الأنابيب في بحر البلطيق.

تركيا نهمة للتطوّر

الآن علينا أن نناقش مسألة الأمن. يختلف البحر الأسود بشكل كبير وإيجابي لخطوط الأنابيب، عن بحر البلطيق. فروسيا وتركيا تسيطران بشكل كلي على هذه المنطقة من الناحية العسكرية والاستخباراتية. علاوة على ذلك، تسيطر أنقرة المتحمسة للمشروع بشكل مباشر على مرور السفن العسكرية عبر مضيق البوسفور والدردنيل، وبالتالي يمكنها بسهولة مراقبة تحركات السفن ونطاق حركتها، بل وحظر المرور بشكل مطلق إذا لزم الأمر.
يمكن فهم الاندفاع الواضح للحكومة التركية لتنفيذ المشروع للعديد من الأسباب، فالتحوّل إلى مركز دولي للغاز – كانت حتّى فترة قصيرة ألمانيا والنمسا تشغلانه بشكل غير رسمي، وبولندا بوصفها مستورد الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، سيعزز الموقف الدولي وخاصة تجاه أوروبا. كما أنّه سيعزز مواقف أردوغان السياسية الذي يواجه انتخابات صعبة في الصيف المقبل تأتي وسط الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا، والمتمثلة في الضعف الكبير في قيمة الليرة التركية مقابل الدولار. لهذا يحتاج أردوغان ومن معه إلى مثل هذا المشروع ليعزز من فرصه الانتخابية. لهذا فإشارات مثل إعلان وزيري الخارجية التركي ووزير خارجية قطر التي تملك ثالث أكبر احتياطي غاز طبيعي مؤكد في العالم بحصّة 12.5٪ من الاحتياطي العالمي، عن «توافقهما التام» في وجهات النظر حول القضايا في المنطقة هي دليل على حماسة تركيا.
تقدّم موسكو بهذا الشكل يد المساعدة للتيار السياسي التركي الذي يترأسه أردوغان اليوم، والذي يمكن فهمه كجزء من عملية أوسع مستمرة منذ فترة لتطوير التعاون الروسي التركي ضمن مجموعات أوسع مثل بريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون. خاصة إذا ما انتبهنا لتصريحات المسؤولين الأتراك، مثل تصريح وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نيباتي لصحيفة وول ستريت الأمريكية في 22 تشرين الأول قائلاً: «علينا أن نفعل كلّ ما هو ضروري لحماية مصالح بلدنا. إن كان ذلك ضرورياً فتركيا يمكنها شراء وشحن النفط الروسي دون تمويل أو تأمين غربي. وفي حالة فرض أيّة عقوبات، لدى تركيا كامل القدرة على تطوير أدوات تكيّف فيها نفسها مع الوضع الجديد»

المستهلك يرفض الاستهلاك!

من النقاط الرئيسية التي لا يجب إغفالها هنا: كيف ستستفيد روسيا وتركيا من هذا المشروع أصلاً بالنظر إلى الإستراتيجية التي قدمتها مفوضية الاتحاد الأوروبي قبل عدّة أشهر والتي تنص على المقاطعة الكاملة لمنتجات الطاقة الروسية، بما في ذلك الغاز، بحلول عام 2027؟
قبل أن نجيب، من المفيد استعراض الواقع في أوروبا: ارتفاع أسعار خانق، واحتجاجات ومظاهرات، وحكومات سيكون عليها بعد وقت قصير أن تجيب ناخبيها عن السبب في هذه الكوارث. هذا لا يحدق فقط في بلدان أوروبا الفقيرة، بل يضرب محرّك الاقتصاد الأوروبي: ألمانيا. التظاهرات في ألمانيا بدأت بالفعل، ولكن لننظر إلى حديث وزير الصحة كارل لاوترباخ في مقابلة في 16 تشرين الأول، حيث قال بأنّ العديد من المستشفيات الكبرى بدأت بإغلاق أبوابها بسبب أزمة الوقود المستمرة. أو لننظر إلى التقرير الصادر عن معهد لايبنيز للدراسات الاقتصادية، والذي جاء فيه أنّ كمّ الأعمال التي أعلنت إفلاسها في ألمانيا هي أكثر بمقدار الثلث بالمقارنة مع الفترة ذاتها من عام 2021.
يمكننا من هنا أن نخمّن بأنّ روسيا وتركيا تعتمدان على شيء من قبيل تفكك الاتحاد الأوروبي أو على الأقل ضعف سيطرة مؤسساته على اقتصادات جنوب وشرق أوروبا التي تستعيد سيادتها. من شأن التراجع الذي بات شبه مؤكد لمحرّك الاتحاد الأوروبي: ألمانيا، أن يلغي الدعم من ميزانية الاتحاد الأوروبي للبلدان الأقلّ نمواً. سيصبح من الصعب أكثر فأكثر على بروكسل أن تملي إرادتها السياسية وأن تفرض قراراتها الاقتصادية.
لن يشمل هذا فقط دولاً مثل صربيا وهنغاريا، بل سيمتدّ إلى دول اعتمد الأمريكيون فيها على تيار معاداة الروس السياسي بشكل مفرط، مثل بلغاريا والتشيك. من المرجح أن تبدأ الكثير من الدول الأوروبية باتخاذ قرارات تحفظ مصالحها الوطنية في محاولة الوقوف في وجه العاصفة الاقتصادية القادمة. عندها سيكون الغاز الروسي الأكثر موثوقية عبر تركيا موجوداً ليلعب دور المنقذ الحقيقي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1094