السعودية والتحرّك تجاه طريق النظام العالمي الجديد
ليس جديداً أنّ السعودية تحاول أن تحجز لها مكاناً في عالم الغد الجديد، ويبدو أنّ حكّام السعودية قد استطاعوا فهم التغيير العالمي بشكل أفضل من الحكام الأوروبيين على أقلّ تقدير حتّى الآن. الصين وروسيا هما من تقودان القافلة التي تمضي في طريق العالم الجديد، والأمريكيون يحاولون بأقصى الجهود تفخيخ هذا الطريق. من هنا يبدو أنّ الصينيين والروس يريدون من السعودية أن تكون أكثر من مجرّد دولة نفطية يسيرها مضاربو الغرب ونظام البترودولار، فهذا التحوّل يخدم مصالحهما في بناء النظام العالمي الجديد، فهل نشهد تسارعاً في هذه التحولات؟ وما هي الشروط الإقليمية والدولية لتحقق هذه النقلات؟ ماثيو إيهرت من الغربيين الذين أدركوا ديناميكية التحوّل الجاري في السعودية، لنستمع إلى ما لديه.
ترجمة: أوديت الحسين
تنذر العلاقات السعودية الصينية بمزيد من التغييرات التكتونية في قواعد اللعبة العالمية الكبرى وتشكُّل نظام عالمي جديد، بطرق لم يبدأ سوى قلّة من المحللين الغربيين بإدراكها. ففي الوقت الذي يقوم فيه الكثيرون من التقدميين الغربيين بتوجيه النقد للصين لكونها «تشيح بنظرها» عن الأحداث الدامية في اليمن التي تقودها السعودية والتي أدّت إلى مقتل مئات آلاف المدنيين منذ عام 2015، يضيّع هؤلاء أنفسهم حقيقة أنّ واقعاً جيوسياسياً أكثر شمولاً يولد اليوم، والذي سيكون فيه فائدة أكبر بكثير لكلّ من الشعب اليمني والإنسانية بشكل عام.
قد يرى كثيرون بأنّ حكّام السعودية لديهم نظام سيء وأيديهم ملطخة بالدماء، وأنا «الكاتب» أوافقهم الرأي. لكنّ النظام الملكي السعودي ليس مجرّد لاعب أحادي البعد هدفه مجرّد الاستمتاع بأرباح النفط إلى الأبد، ولعب دور الأداة في توليد ونشر حركات التطرّف الإسلامي في العالم العربي، وهي الصورة النمطية المبتذلة التي يسهل على الكثيرين في الغرب «والمتلقين في العالم العربي» رسمها له. هناك اليوم جيل شاب قوي ناشئ في المملكة العربية السعودية «نصف السعوديين البالغ عددهم 31 مليوناً تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً»، كما أنّ هناك احتضاناً متجدداً للتقدم التكنولوجي المتطور كمحرّك لعصر ما بعد الهيدروكربون.
يمكن للمتابع عن قرب أن يرى بوضوح هذه الديناميكية الأكثر صحة داخل الشعب السعودي والطبقة الحاكمة عبر متابعة برنامج الرؤية السعودية 2030 الذي تمّ إطلاقه في نيسان 2016، وفي البيان المشترك في كانون الثاني 2016 بين جمهورية الصين والمملكة السعودية، والذي نص: «في إطار السعي المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحرير البحري في القرن الحادي والعشرين، ترغب الصين بتنسيق إستراتيجيات التنمية مع الدول العربية، وأن تستفيد من مزايا وإمكانات بعضنا البعض، وتعزيز التعاون الدولي في القدرة الإنتاجية وتعزيز التعاون في مجالات إنشاء البنية التحتية، وتسهيل التجارة والاستثمار، والطاقة النووية، والأقمار الصناعية، والطاقة الجديدة، والزراعة والتمويل، من أجل تحقيق التقدم المشترك والتنمية وإفادة شعبينا».
يمكن رؤية هذا التوجه الإيجابي من خلال مجموعة من التحولات في المنطق الأساسي لأولويات السياسة الخارجية السعودية على مدى السنوات الأخيرة، والتي أصبحت ممكنة بفضل الدبلوماسية السلسة من الصين وروسيا اللتين تقودان إنشاء هيكل أمني- مالي جديد قابل للتطبيق بعيداً عن سيطرة أحاديي القطب الغربيين. من بين أهمّ هذه الأولويات الجديدة التركيز على توجيه الشرق نحو سياسة موالية للصين، وتحسين العلاقات الدبلوماسية مع الخصوم التاريخيين داخل المنطقة.
إعادة بناء العلاقات والاستقرار في الشرق الأوسط
في تشرين الثاني 2020، أعادت المملكة العربية السعودية والعراق فتح حدودهما وبدأتا في استعادة العلاقات والتعاون بعد 30 عاماً من غزو صدام للكويت الذي شهد قطعاً شبه كامل للعلاقات. كما قطعت كلّ من تركيا والسعودية- وهما اللتان اضطرتا لمواجهة تداخل مجالات المصالح في الشرق الأوسط- شوطاً بعيداً في إعادة ضبط علاقاتهما، مع إعلان كلّ من أردوغان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن: «حقبة جديدة من التعاون» بعد زيارة محمد بن سلمان إلى أنقرة. في البيان المشترك الذي صدر عن البلدين، عبّرا عن: «عزمهما المشترك على تعزيز التعاون في العلاقات الثنائية بين البلدين، بما في ذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية».
لم تمضِ ثلاثة أيام على هذا الاجتماع، حتّى التقى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مع ولي العهد السعودي في جدة حيث تم بحث مسائل الاستقرار الاقتصادي والإقليمي والعلاقات الثنائية وفرص التعاون المشترك. «وقد تلا ذلك رئيس الوزراء العراقي مع نظرائه الإيرانيين في اليوم التالي». إيران والعراق اليوم في المراحل النهائية من العمل على أول خط سكة حديد بين الدولتين في التاريخ: خط سكة حديد الشلمجه- البصرة الذي يمكنه بسهولة أن يتمّ وصله بخطّ سكة الحديد الموجود في العراق بطول 1500 كيلومتر على امتداد العراق، والذي يمكن أن يمتد بسهولة إلى سورية ولبنان كجزء من الممر الجنوبي لمبادرة الحزام والطريق. واجه مدّ هذا الخط مشكلات متنوعة على مدى عشرين عاماً، ولكن بدا فجأة بأنّ جميع المشكلات- سواء تمويلية أو سياسية- قابلة للحل اليوم. كما أنّه يمكن أن يتصل بسهولة بأقاليم ودول آسيا الوسطى والقوقاز وباكستان والهند وأفغانستان والصين.
كما سرّعت السعودية وإيران جهودهما لإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية بعد أن تسبب قيام السلطات السعودية بإعدام رجل الدين نمر النمر في عام 2016 بتمزق العلاقات التام بين البلدين. كما أعادت دول خليجية أخرى كانت قد قطعت علاقاتها مع إيران، مثل الإمارات والكويت، استئناف العلاقات بالفعل. كان كثيرون يعتبرون بأنّ مثل هذا الاختراق كان مستحيلاً تماماً لولا حقيقة أنّ كلّاً من روسيا والصين أوضحتا بأنّ إيران ركيزة أساسية للشراكة الأوروآسيوية الكبرى، وللعب دور محتمل في استقرار الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونها عقدة رئيسية في وظائف كل من ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، وكذلك المسار الجنوبي لمبادرة الحزام والطريق.
الحكم الغربي للشرق الأوسط الذي استخدم المملكة السعودية والأنظمة الأخرى كأسلحة في ترسانته الجيوسياسية، بدءاً من جيوسياسة النفط وصولاً إلى خلق وتوظيف الإرهاب، كان واضحاً بأنّ النظام الدولي القائم على قواعد «إعادة الضبط الكبرى» التي تحدث عنها مؤتمر دافوس، لا يرى مجالاً كبيراً لأنواع الوقود الهيدركربوني المختلفة الموجودة في الشرق الأوسط وروسيا، ما جعلها «العدو الأول» التي يجب تدميرها بأيّ ثمن بحلول عام 2050. لهذا فحتّى على المستوى العملي، سيكون هناك دوراً ضئيلاً للغاية ستلعبه المملكة السعودية أو أيّة دولة أخرى تعتمد على النفط عند تنفيذ الخطة الغربية.
سياسة طاقة عقلانية
من ناحية أخرى ليس لدى الصين مثل هذه الأوهام التي يتمّ تمويهها برؤى خضراء، وبدلاً من ذلك تقدّم رؤية طاقة أكثر عقلانية وعملية مع شركائها السعوديين، كما هو مبيّن في مذكرة التفاهم في آب 2022، الموقعة بين شركتي آرامكو السعودية وسينوبك الصينية، من أجل توسيع التعاون بشكل هائل في مجال الاندماج البتروكيميائي، والهندسة، والإنشاء، وتكنولوجيا التدفق الأعلى والأسفل، وإنتاج الهيدروجين. حتّى أنّ رئيس شركة آرامكو قال: «يبقى ضمان الأمن المستمر لاحتياجات الصين من الطاقة على رأس أولوياتنا- ليس فقط للسنوات الخمس المقبلة، ولكن للخمسين عاماً القادمة وما بعدها».
منذ أن طرحت المملكة العربية السعودية لأوّل مرة فكرة بيع النفط إلى الصين باليوان بدلاً من الدولار الأمريكي في آذار 2022، أصبح من الواضح بشكل متزايد أنّ عصر الدولار الأمريكي باعتباره العملة الاحتياطية الوحيدة يقترب بشكل متسارع من نهايته. منذ عام 2016، توسعت التجارة الصينية السعودية بشكل كبير، حيث أصبحت الصين الشريك التجاري الأساسي للمملكة العربية السعودية، حيث بلغت التجارة الثنائية 87 مليار دولار في عام 2021. وفي الوقت نفسه تشتري الصين أكثر من 25٪ من إجمالي النفط الذي تنتجه المملكة العربية السعودية.
على مستوى أعمق يتطرق إلى جوهر البقاء الناجح على المدى الطويل «مقابل مجرّد المرور التكتيكي البراغماتي اللحظي»، أصبحت المملكة السعودية تدرك بشكل متزايد أنّها بحاجة إلى طريقة جديدة للقيام بالأشياء. لقد انتهى عصر الجيوبولتيك للنفط الذي شكلته أسواق المضاربة الفورية والعقود الآجلة كما هو عليه الأمر منذ عام 1973، وذلك على جميع الصعد حيث لن يستمر شخص ملتزم باللعب ضمن هذه القواعد بالبقاء لفترة طويلة. يعتمد الواقع الجديد الذي يرسي شكل تحرك الشرق الأوسط على نمو حقيقي قابل للقياس، مع التركيز على الترابط والسكك الحديدية والممرات الصناعية. يتمّ تحديد أسعار النفط والسلع الأخرى بشكل متزايد من خلال الاحتياجات القابلة للقياس للدول والشعوب، بدلاً من الدوافع قصيرة النظر للمضاربين المهووسين بجني الأموال ولا يهمهم العالم الحقيقي. من هنا يمكننا أن نفهم ونجده أمراً منطقياً قيام الصين بعمل جاد لمساعدة المملكة السعودية لتصبح ثاني دولة خليجية تعمل بالطاقة النووية «بعد قفزة الإمارات المتحدة الأخيرة إلى القرن الحادي والعشرين مع 2.7 غيغاواط من الطاقة يتمّ اليوم بناؤها أثناء كتابة هذه السطور».
في وقت مبكر من عام 2016، وقّعت الصين مذكرة تفاهم لمساعدة المملكة السعودية في بناء مفاعلات الجيل الرابع المبردة بالغاز، وفي عام 2020 وقّعت الشركات الصينية اتفاقية لمساعدة المملكة العربية السعودية ليس فقط في الاستفادة من مواردها الهائلة من اليورانيوم، ولكنّها أيضاً أصبحت بارعة في جميع جوانب دورة الوقود النووي. سيكون هذا أمراً حيوياً ليس فقط لمساعدة المملكة السعودية على الانتقال بنجاح من اعتمادها على الهيدروكربونات، ولكن من شأنه أيضاً إنشاء خزانات نفطية جديدة هائلة للأسواق العالمية التي هي في أمسّ الحاجة إلى الوقود. الفرص الهائلة لتحلية المياه على نطاق واسع هي سبب آخر لكون الطاقة النووية هي الخيار الواضح لأيّة دولة تفكّر بجديّة في التغلب على ندرة المياه بطرق مستدامة.
نمو الترابط
إلى جانب مدينة نيوم الضخمة على البحر الأحمر التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار والتي سيزورها شي قريباً، جعلت «رؤيا السعودية 2030» أيضاً بناء العديد من المشاريع العملاقة أولوية قصوى، مثل خط سكة حديد الحرمين فائق السرعة بطول 450 كلم الذي أنجزته شركة بناء سكك حديدية صينية ليربط بين مكة والمدينة المنورة. يوفر هذا المشروع امتداداً قوياً وهاماً لخط سكة حديد الشمال والجنوب بطول 2700 كلم تم الانتهاء منه في 2015، والذي يربط بين الرياض والحديثة على الحدود الأردنية. كما يتمّ بناء 460 كلم إضافية من السكك الحديدية التي تربط بين مختلف دول مجلس التعاون الخليجي.
علاوة على ذلك، تلقى خط السكك الحديدية فائق السرعة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، والذي تبلغ تكلفته 200 مليار دولار ويعرف أيضاً باسم: الجسر البري السعودي، دعماً كاملاً من جميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي الستّة في عام 2021، التي ستحظى بسكة حديد فائقة السرعة تمتد بطول 2100 كلم عبر الصحراء العربية بفروع يمكن أن تمتد شمالاً إلى مصر حيث يجري بالفعل تنفيذ مشاريع مماثلة، وإلى الجنوب نحو اليمن وما بعده عبر مضيق باب المندب البالغ طوله 26 كلم عبر البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا. إن استمرت عملية السلام الناجحة بين المملكة السعودية واليمن، وإن كان من الممكن إدخال إيران في دور الوساطة، فمن الممكن تماماً أن يرى هذا المشروع- الذي أطلق عليه عندما تمّ الكشف عنه لأول مرة في عام 2019 اسم: «جسر القرن الإفريقي»- أخيراً ضوء النهار.
خلال القرن الرابع عشر، لاحظ الفنانون الأوروبيون أنّه لا يمكن خلط الزيت والماء بدون عنصر ثالث من تمبورا البيض الذي يعمل كوسيط، حيث تصل مجموعة من الأصباغ من مناطق بعيدة مثل شبه الجزيرة العربية وحتّى من آسيا، وذلك حتّى يتحوّل إلى لون للصبغ. بنفس الطريقة، أصبحت الصين وروسيا إلى حد كبير هذا «العنصر الثالث» الذي يجعل المصالح السياسية العدائية في جميع أنحاء الشرق الأوسط تتناغم في إطار نموذج جديد من التعاون والثقة. نحن اليوم نشهد إمكانية تشكُّل مستقبل جديد مدفوع بإعادة إيقاظ روح طريق الحرير، بحيث يتمّ رسمه أمام أعيننا.
كيف سيكون النظام العالمي الجديد؟
في حين أن التحالف الروسي الصيني- وهو الذي يقود ويدفع تجاه إنشاء نظام عالمي جديد- قوي، فإن الدول الأخرى من بين الـ 148 دولة التي وقعت حتى الآن اتفاقيات تعاون مع مبادرة الحزام والطريق تعاني أحياناً من الأرضية المتزعزعة. في هذه المناطق الضعيفة، تُبذل الجهود الغربية بشكل صارخ لجعل نسيج التحالف الأوراسي هشاً من خلال جميع الوسائل الممكنة.
يرى البعض بأنّ هذا كان مصير باكستان التي شهدت الإطاحة المزعومة من وزارة الخارجية الأمريكية برئيس الوزراء عمران خان في 10 نيسان. وكيف ألقى هذا بظلال من الشك على مستوى التزام الحكومة الجديدة بمشاريع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني ومبادرة الحزام والطريق على النحو المبين في اتفاقية تونكسي ومواقع أخرى، بالإضافة إلى الاتفاقيات الأمنية الأوسع المؤيدة ليوراسيا والتي تم تقديمها من خلال منظمة شنغهاي للتعاون في السنوات الأخيرة. وذلك رغم تعهد الحكومة الباكستانية الجديدة بالحفاظ على الممر الاقتصادي الباكستاني كأولوية وطنية عليا.
مهما كانت نتيجة الصراعات الجارية حالياً وعلى رأسها في أوكرانيا، أو الضربات العسكرية من قبل الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أو الجهود الأوسع لزعزعة استقرار حلفاء روسيا وإيران فإن الحقيقة هي أن النظام الحالي كما نعرفه هو في حالة تدهور نهائي، في حين أن النظام الاقتصادي الجديد سوف يظهر بطريقة أو بأخرى، ولن يتمكن من أن الاعتماد على نموذج إمبراطورية رومانية جديدة تدير عالماً منقسماً وفقيراً ومتحارباً تحت تأثير هيمنة اجتماعية عابرة للوطنية.
*ماثيو إيهرت: رئيس تحرير «مراجعة الوطني الكندي»، وزميل رئيس في الجامعة الأمريكية في موسكو. مؤلف سلسلة كتب: «التاريخ غير المروي لكندا» وثلاثية «صراع الأمريكيتين».
بتصرّف عن:
canadianpatriot.org - thecradle.co
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1086