الحرب ضدّ روسيا تكشف بهوت أمريكا وخوفها من خسارة حلفائها
مايكل هدسون مايكل هدسون

الحرب ضدّ روسيا تكشف بهوت أمريكا وخوفها من خسارة حلفائها

تدير شركة «بلاك روك» ما يقرب من 10 مليارات دولار من الأصول، وبالتالي يميل المستثمرون لإيلاء اهتمام شديد لوجهات نظر وآراء رئيس مجلس إدارتها ومديرها التنفيذي لاري فينك. لنستمع إلى الرسالة التي وجهها لحاملي الأسهم في شهر آذار الماضي: «وضع الغزو الروسي لأوكرانيا حدّاً للعولمة التي شهدناها على مدى العقود الثلاثة الماضية... إنّ العدوان الروسي في أوكرانيا وفصلها اللاحق عن الاقتصاد العالمي سوف يدفع الشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم إلى إعادة تقييم الأماكن التي تعتمد عليها وإعادة تحليل وجودهم التجميعي والتصنيعي- الأمر الذي بدأ الكثيرون بفعله مدفوعين بكوفيد». بعبارة أخرى، كان لمشهد الشهور الماضية ولأعمال الناتو تداعيات بعيدة المدى تتجاوز العدوان الذي حشدته الولايات المتحدة عندما غزت أو دمرت بلداً تلو آخر لسنوات وسنوات. هل العولمة ميتة الآن؟ كيف تصبح الأزمات جزءاً من خطّة الأمريكيين ولكنّها بنفس الوقت قد تسدد ضربة لهم؟

ترجمة: قاسيون

العقوبات التي تمّ تطبيقها من أجل أذية الروس، آذت الأمريكيين والكنديين والأوروبيين بشكل كبير وصولاً إلى محطات الغاز أو لمشاهدة أسعار الغذاء تحلّق للسماء. وكما أعلن بايدن في البداية بالاشتراك مع رئيسة المفوضية الأوروبية: «يجب أن نتأكد بأنّ العائلات في أوروبا يمكنها أن تتجاوز هذا الشتاء والشتاء التالي بينما نقوم ببناء البنية التحتية لمستقبل طاقة متنوع ومرن ونظيف». إذا ما تجاوزنا عن كلمات المرونة والنظافة التي لم تعد تتماشى مع ارتفاع الطلب على الفحم والضغط على سلاسل التوريد العالمية، فمخاطر إذكاء نار الحرب في أوكرانيا تتجاوز حرفياً الرصاص والقنابل وخطابات شجاعة قوات دول أوروبا الشرقية المتأهبين للانقضاض على روسيا!
يمكن فهم هذا بعمق الأزمة التي يعيشها أصحاب الهيمنة الأمريكيين، فهم غير قادرين على الحفاظ على هيمنتهم، وهم يدركون أنّ إشعال الأزمات هو السبيل الوحيد لتأخير سقوطهم. لكن إن عدنا إلى سلوك دول كانت محسوبة لفترات طويلة على المعسكر الأمريكي، فسنجد أنّ أزمة الأمريكيين أكبر عمقاً حتّى من أن تظهر. إن دخول السعودية في محادثات تسمح بتسعير بعض من نفطها بالعملة الصينية اليوان يعني بأنّ هيمنة الدولار الأمريكي في خطر. وقد ظهر فشل الأمريكيين في حشد الدول في آسيا- كان الحشد جميلاً ولكن الإجراءات والوعود خافتة، وربّما أكثر فجاجة في الفشل في أمريكا اللاتينية حيث بدا واضحاً عدم قدرة الأمريكيين على التحكم بعد اليوم في «باحتهم الخلفية». هل العالم المنقسم الجديد جزء من النظام العالمي المنهار أمامنا؟
شهدنا «نشوة» الاصطفاف خلف الناتو بعد دعوة الولايات المتحدة لفرض عقوبات على روسيا، بما في ذلك إزالتها من نظام سويفت. لكنّ عقوبات «الجحيم» لم تنجح، وقد ضربت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشدة أكبر ممّا ضربت روسيا، مع ارتفاع المواد الغذائية والأسمدة والنفط والغاز. إن كانت هذه هي نتيجة العقوبات فلماذا قامت الولايات المتحدة باستفزاز روسيا منذ البدء؟ هل كان الأمر خطأ سياسياً؟ في الواقع قد لا تكون الحرب موجهة لتدمير روسيا، بل لخلق حاجز يمنع ألمانيا وبقيّة أوروبا وبقيّة الحلفاء من زيادة تجارتهم مع روسيا والصين، فالولايات المتحدة أدركت بأنّ مركز النمو العالمي لم يعد عندها منذ بدأت بإزالة التصنيع. فالسياسات النيوليبرالية أدّت منذ الثمانينيات إلى تفريغ الاقتصاد الأمريكي. كيف يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على النمو عندما تفقد القدرة على خلق الثروة؟
الطريقة الوحيدة للحفاظ على النمو عندما لا يمكنك خلق الثروةِ في الداخل أن تحصل عليها من الخارج. كانت محاولة الإدارة الأمريكية العام الماضي منع خطّ أنابيب السيل الشمالي 2 التي فشلت هي منع كامل تجارة الطاقة الأوروبية وغيرها من التجارة مع روسيا، حتّى تتمكن الولايات المتحدة من احتكارها بنفسها. كانت صناعة النفط هي إحدى الأدوات الرئيسية خلال المئة عام الماضية من سيطرة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. السيطرة على تجارة الطاقة العالمية هي المفتاح للناتج المحلي الإجمالي وإنتاجية أيّة دولة، وفكرة تجارة الطاقة التي تخرج عن سيطرة الولايات المتحدة إلى سيطرة دول أخرى تهدد قدرتها على إيقاف البلدان الأخرى.

الأزمة التي تغذيها ستسقطها

المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة أنّ نقطة قوتها هي النقطة التي ستكسرها. فهي تهدد بأن تفصل الدول عن النظام الدولاري، وهو الأمر الذي سيدفع الكثير من الدول للاحتراز. لكنّ نخب الولايات المتحدة تأمل أيضاً بأن ترتفع أسعار الطاقة بشكل كبير ليعود بالفائدة على ميزان مدفوعاتها بوصفها أولاً مصدّر للطاقة، وثانياً تسيطر شركات النفط الأمريكية على جزء كبير من تجارة النفط العالمية. ترى الولايات المتحدة أيضاً بأنّه بمجرّد استبعاد روسيا فارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية بشكل كبير سيعود بالفائدة عليها كمصدر زراعي. سيخلق مثل هذا الارتفاع والاعتماد إجبارياً على الولايات المتحدة أزمة ديون في الكثير من الدول، ويمكن للولايات المتحدة عندها أن تستخدم هذه الديون للدفع تجاه الاستمرار في الخصخصة وبيع الملكيات العامة للمشترين الأمريكيين مقابل المال الذي سيحصلون عليه من أجل تسديد ثمن واردات النفط والغذاء.
تسيطر على الاقتصاد في الولايات المتحدة ثلاثة قطاعات رئيسية: قطّاع الغاز والنفط، ومجمع الصناعات العسكري، وقطّاع التمويل والعقارات. جميع هذه القطاعات يفترض أن تنتفع من الوضع الحالي، ولكن ربّما بنسب مختلفة. سعي الولايات المتحدة لخلق أزمة قد يضرّ البنوك الأمريكية على المدى القصير والمتوسط والطويل. منذ القرن الثالث عشر كانت البنوك تجني الجزء الأكبر من أموالها من تمويل التجارة ومن الذمم المدينة. فإذا كنت مستورداً للنفط، فستحصل على خطاب اعتماد يتعهد فيه البنك بأن يدفع عند التسليم. تعتبر التجارة عملاً مصرفياً ضخماً، واليوم باتت البنوك الأمريكية محرومة من هذا التمويل التجاري طالما أنّها متعلقة بروسيا والصين وربّما بدول الحزام والطريق بعد قليل. لهذا فالبنوك الأمريكية قد تجد نفسها، خاصة إذا ما قالت دول الجنوب العالمي: لن نضحي باقتصاداتنا ونفرض التقشف فقط لدفع ثمن حاملي السندات. لقد ساءت القروض، وهذه قروض بغيضة نحن نتنصل منها، ولن نسددها لهم.
الولايات المتحدة التي تسعى إلى خلق أزمة عالمية تنشر الفوضى، قد تكون ضحية لها. فإن نشبت حرب مالية، وانقسم العالم إلى كتلتين اقتصاديتين، فالأمر يشبه إلى حد كبير حرباً عسكرية. أنت لا تعرف ما الذي سيحدث حقاً جرّاء مثل هذه الفوضى. تعتقد الولايات المتحدة أنّ لديها ما يكفي من القوة عن طريق الرشوة والقوة والاغتيال إذا لزم الأمر، كما دعا بعض أعضاء مجلس الشيوخ منذ فترة. لكن هذا بالتأكيد لن يُقابل ببساطة وسلبية من جانب كلّ شخص تعلن الولايات المتحدة بأنّه عدو.

1085-5

تدرك دول العالم اليوم بأنّ الولايات المتحدة يمكنها ببساطة الاستيلاء على أيّة أصول بالدولار لديها. فإذا كان البلد يفعل شيئاً مستقلاً، كما هو الحال عندما أرادت تشيلي تحت حكم أليندي أن تسيطر على تجارة النحاس خاصتها، قامت الولايات المتحدة ببساطة بالاستيلاء على أموالها. عندما فكرت فنزويلا بإجراء إصلاح زراعي ضمن سياساتها الشعبية، استولت الولايات المتحدة ببساطة على أموالها، وصادر بنك إنكلترة الذهب الفنزويلي. لقد استولت الولايات المتحدة ببساطة على الاحتياطيات الأجنبية لأفغانستان قبل أن تستولي على الاحتياطات الأجنبية لروسيا.
لذلك تخشى الدول هذه الأصول والاحتفاظ بها، وتخشى استخدام البنوك الأمريكية وأيّ شيء ذي صلة بالدولار لأنّ الولايات المتحدة اعتمدت هذه السياسة الآن، ما يبعد الدول عنها. حتّى حلفاء أمريكا ينتابهم الخوف، فألمانيا التي تطلب إعادة إمداداتها من الذهب من بنك الاحتياطي الفدرالي قد لا تحصل عليه. لدينا اليوم ما يشبه تأثير الدومينو، فقد كان الأمر موجوداً منذ مدة ولكنّه يتسارع اليوم، وسنشهد كامل الجنوب العالمي يتخلون عن الدولار ويذهبون إلى عملات أخرى.
النظام الدولي الجديد يخضع للهيكلة اليوم، وما يعنيه هذا إيجاد بديل عن صندوق النقد الدولي، ومجموعة مؤسسات بديلة عن البنك الدولي، وبديل عن النظام القائم على القواعد الأمريكية. لكن لا يمكن للولايات المتحدة أن تنضمّ إلى هكذا نظام، فالولايات المتحدة لن تنضمّ إلى نظام لا تملك الهيمنة على مؤسساته عبر حقوق كالنقض. لذلك سيكون علينا ربّما تخيّل مسارات متوازية: سيكون لدينا مسار نيوليبرالي ممول بالديون في أوروبا وأمريكا الشمالية. ومن جهة ثانية سيكون لديك رأسمالية صناعية تتطور إلى مسار اشتراكية كما في الصين ودول مبادرة الحزام والطريق وكتلة منظمة شنغهاي للتعاون.

خيوط أوروبا

مسألة أوكرانيا ليست إلّا نوعاً ما من صفقة قصيرة الأجل، لكنّ المدى الأطول سيكون في الواقع أمراً يهزّ أوروبا لدرجة إبعادها عن الناتو وتأثير الولايات المتحدة. تسيطر الولايات المتحدة بشكل تام على السياسيين الأوروبيين. المعارضة الوحيدة للناتو وللولايات المتحدة في أوروبا هي من الجناح اليميني القومي. الجناح اليساري يقف خلف الولايات المتحدة تماماً منذ أن سيطر الصندوق الوطني للديمقراطية والوكالات الأمريكية الأخرى على الأحزاب اليسارية في جميع أنحاء أوروبا. شكّل توني بلير اليسار الأوروبي، والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا وبقية أوروبا، وحزب العمال في إنكلترا، وهذه ليست أحزاباً عمالية وليست اشتراكية، بل هي أحزاب نيولبيرالية مؤيدة لأمريكا.
إن كنّا نريد أخذ فكرة عن الطريقة التي تقوم فيها الولايات المتحدة بمقاومة زوال سطوتها، فقد كان لديهم هيبة الدولار في قدرتهم على اختلاق الأشياء، وهم يخسرونها شيئاً فشيئاً. الأداة الواضحة للولايات المتحدة التي كانت تستخدم مع الأوروبيين بشكل خاص. في معظم بلدان أوروبا، مجرّد دفع المال لهم ودعم حملاتهم السياسية والتدخل عبر الدعم المالي الهائل للسياسيين الموالين للولايات المتحدة. الاغتيالات المستهدفة منذ الحرب العالمية الثانية، عندما انتقل البريطانيون والأمريكيون إلى اليونان وبدأوا بإطلاق النار على جميع المناهضين للنازية لأنّهم كانوا اشتراكيين إلى حدّ كبير، وأرادت إنكلترا وأمريكا استعادة الملكيّة اليونانية. لديك عملية «غلاديو» في إيطاليا، لديك الاغتيالات المستهدفة من تشيلي على طول الطريق عبر بقية أمريكا اللاتينية وما بعدها. القاعدة الأمريكية: إن لم تتمكن من شرائهم اقتلهم.
لطالما كانت الولايات المتحدة تبحث عن نقاط الضعف، وستحاول العمل على نقاط الضعف. التخريب بالتأكيد هو أداة أخرى يتمّ استخدامها، كما هو الحال في أوكرانيا. لذا فالسؤال هو ما إن كانت هذه المحاولة على نقاط الضغط ستجبر الدول الأخرى على الانصياع. بالتأكيد ستعاني هذه الدول في حال عدم الانصياع على المدى القصير، لكن على المدى الطويل سيعني أننا نضطر إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في نقاط الضغط الرئيسية. سيكون هناك الكثير من الانقطاعات وحتى المجاعة والكثير من عمليات نقل الملكية والاضطراب، ولكن على المدى الطويل ستفشل محاولة الولايات المتحدة إنشاء نظام عولمة واحد مترابط يفصل أوروبا وأمريكا الشمالية عن بقيّة العالم.
على المقلب الآخر لدينا الأوليغارشية الروسية. كانت الأوليغارشية ذات توجه غربي للغاية لأنّهم عندما نقلوا النفط والغاز والنيكل والعقارات في روسيا إلى أيديهم، كيف استطاعوا إنفاق المال؟ لم يكن هناك أية أموال في روسيا لأنّه تمّ تدميرها بالكامل بعد عام 1991 في «العلاج بالصدمة». الطريقة الوحيدة التي يمكنهم فيها الاستفادة من الأموال كانت عبر بيع بعض أسهمهم إلى الغرب. هذا ما أراد خودوركوفسكي فعله عندما أراد بيع يوكوس لمجموعة ستاندرد أويل. اليوم أدركوا أنّ الولايات المتحدة يمكنها ببساطة الاستيلاء على اليخوت الخاصة بهم، والاستيلاء على عقاراتهم في بريطانيا، وعلى فرقهم الرياضية، وعلى الأصول التي يمتلكونها في الغرب، فقد باتوا يدركون بأنّ أمانهم الوحيد هو الاحتفاظ بها داخل روسيا وفي الاقتصادات المتحالفة معها. على هؤلاء اليوم أن يحزموا أمرهم، فإمّا السير على خطا تشوبايس الذي غادر روسيا نهائياً إلى الغرب وأخذ أموالهم والاحتفاظ بما يأملون أن يبقي لهم الغرب بعض ما سرقوه، أو البقاء في روسيا والنظر إلى ثرواتهم من خلال جعلها تساهم في إنشاء وسائل إنتاج روسية.

ماذا بعد؟

إنّ مواقف دول مثل الصين وكازخستان ومن شابهها يعود بالفائدة على التموضع الإستراتيجي لروسيا وعلى إنشاء النظام العالمي القادم. لكنّ موقف الهند التي كانت في السنوات الأخيرة أقرب للولاء إلى أمريكا يشي بأنّ الولايات المتحدة ربّما تلقت ضربة كبيرة. فإن كنت تنظر إلى المصالح الاقتصادية الوطنية الضمنية للهند، فمصالحها الاقتصادية تكمن في المنطقة التي تقع فيها، مع أوراسيا وليس مع الولايات المتحدة. كان- ولا يزال- السؤال الذي يدور داخل البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية: هل يمكن الحفاظ على السيطرة على الهند، فهذه مناطق الأزمات الكبرى القليلة المتبقية المقبلة.
لا أعتقد بأنّ مواجهة نووية ستحدث مع أنّه يصعب استبعاد أيّ خيار في مرحلة التوتر القادم. لكنّ الأمر الذي سيستمر هو استمرار محاولة الولايات المتحدة في فرض النيوليبرالية على الدول الأخرى بوصفها الطريقة التي يمكن أن تصبح بها ثرية. النيوليبرالية تفقر، وهي حرب طبقية ضدّ العمل عن طريق الأمولة في المقام الأول، وحرب طبقية ضدّ الصناعة، وحرب طبقية ضدّ الحكومات. إنّها الطبقة المالية ضدّ بقيّة المجتمع، والتي تسعى دوماً إلى استخدام الديون للسيطرة على الشركات والبلدان والأسر والأفراد. إنّها زقاق مسدود. لكن في النهاية ما الذي يمكن لرأس المال الإمبريالي فعله غير محاولة الاستمرار في الحياة؟ قد تكون الفوضى والأزمات جزءاً من خطّة الإمبريالية للبقاء، لكن هل حقاً يمكن العبث بالعالم كلّ هذا الحد والاستمرار في الهيمنة؟ هذا ما بدأنا نشعر بأنّه غير قابل للتحقيق.

بتصرّف عن:
www.globalresearch.ca

معلومات إضافية

العدد رقم:
1085