روسيا تدرك غرق الغرب في المستنقع وليس عليها إلّا الانتظار
في كلّ يوم جديد تصبح أزمات الغرب أكبر ووحولها تصبح أعمق على النخب الغربية التي خلقتها بأيديها، ورغم الدعاية الإعلامية التي تهدف إمّا للهروب من المسؤولية وتحميلها لروسيا تارة، كما في حال الأزمة الغذائية التي تتزايد يوماً بعد آخر، أو ادعاء القدرة والهيمنة كما في اجتماعات السبعة «الكبار»، الذين أثبت تسارع الأحداث أنّهم ليسوا كباراً ولا حتّى متوسطين في قدراتهم.
ترجمة وإعداد: أوديت الحسين
في 30 حزيران أعلن وزير الخارجية الروسي أنّهم «سينسحبون» من الموقع العسكري على «جزيرة الأفعى»، وهو المكان الذي يعدّ منطقة شديدة الحماوة تريد جميع القوى المتحاربة السيطرة عليها، والذي قامت القوات الأوكرانية بإخلائه في شهر آذار في الأيام الأولى من عملية الروس العسكرية. وهو القرار الذي جاء بعد يوم من لقاء الأمين العام للأمم المتحدة مع وزير الخارجية الروسي.
لا تتفق الرواية الروسية مع الغربية على السبب الذي دعا لافروف إلى الإعلان عن الانسحاب، ولكن إذا ما أخذنا الرواية الرسمية الروسية لنحاول من خلالها فهم ما يجري، فروسيا كما أكّد وزير خارجيتها ليست من أوقفت صادرات القمح الأوكرانية، بل الألغام التي نشرتها كييف في البحر الأسود هي المسبب. وأعاد لافروف التأكيد على استعداد روسيا لتصدير الغذاء والأسمدة في حال تمكنوا من تخطي التعقيدات التي أنتجتها العقوبات الغربية ضدّ روسيا.
وبغضّ النظر عن السبب الذي دفع الروس للانسحاب من جزيرة الأفعى، فمن المنطقي ألّا ننساق للدعاية الغربية بما يخصّ مسؤولية روسيا عن الأزمة الغذائية الجارية. تشكّل صادرات روسيا من القمح 16٪ من الصادرات العالمية، وتشكّل صادرات أوكرانيا 10٪. لكنّ الولايات المتحدة وكندا تصدّران على التوالي 26 و25 مليون طن من القمح، أي ما يقرب من 25٪ من الصادرات العالمية. كما تشكّل صادرات فرنسا 19 مليون طن، وألمانيا 9.2 ملايين طن، أي قرابة 12٪ أخرى من الصادرات العالمية. هذه القوى غير راغبة بمشاركة قمحها مع الذين يحتاجونه، فقد منحت في السنين الأخيرة الأولوية لأمنها الغذائي.
يمنح ما حدث في جزيرة الأفعى روسيا فرصة إظهار أنّ لومها على الأزمة الغذائية– وكأنّ الوضع نتاج عمليّة عمرها 4 أشهر وليس أزمة متراكمة مثل كرة الثلج منذ أربعة أو خمسة أعوام– هو مجرّد أجندة دعائية غربية، وأنّ الملوم الحقيقي هم الغرب. سيعني ما حدث أنّ على كييف التي تحتفل بانسحاب الروس من الجزيرة بوصفه «انتصاراً عسكرياً» لها أن تتحمّل المسؤولية اليوم عن تنظيف سواحل البحر الأسود، بما في ذلك مياه الموانئ. كانت وزارة الدفاع الروسيّة واضحة في رغبتها الاستفادة من الانسحاب، وهو الذي سمّته «بادرة حسن نيّة» وربطته بأزمة الأمن الغذائي، حيث صرّحت: «أظهر الاتحاد الروسي للمجتمع الدولي عدم وجود أية عقبات أمام جهود الأمم المتحدة لإنشاء ممر إنساني لنقل المنتجات الزراعية من أوكرانيا. سيمنع هذا الحل كييف من التذرّع بأزمة أغذية وشيكة بسبب عدم القدرة على تصدير الحبوب بسبب سيطرة روسيا الكاملة على الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود. الأمر الآن متروك للجانب الأوكراني الذي لم يطهّر بعد ساحل البحر الأسود، بما في ذلك مياه المرفأ».
أظافر الغرب الناعمة
يمكن بسهولة فهم خوف دول الغذاء الغربية ممّا يجري. تواجه هذه الدول الغربية الغنية صعوباتها الخاصة فيما يتعلق بأسعار الطاقة وتكاليف الإنتاج والتضخم. قد يرغبون في الاحتفاظ بموادهم الخام لحماية اقتصاداتهم من المزيد من ارتفاعات التضخم. ببساطة، في حالة عدم استقرار العملة، أو في الواقع في أوقات أي شكل من أشكال عدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي، من الحكمة دائماً امتلاك المواد الخام أكثر من النقد: فقيمته لا تنخفض بسرعة مثل العملة.
من المرجّح أن يتم حل جزء كبير من مشكلة توريد سلع منتجة على نطاق واسع مثل القمح فقط لو لم تقم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمنع روسيا، أكبر مصدّر للقمح في العالم، من مشاركة الإمدادات مقابل رفع العقوبات. أجبرت العقوبات الغربية الشركات الدولية على قطع العلاقات التجارية طويلة الأمد ومغادرة روسيا، ممّا تسبب في انقطاع الإمدادات. في أحد الأمثلة المثيرة للسخرية عند الحديث عن الموقف الغربي من أزمة الغذاء، حظر الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي التعاون مع ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود، والذي يتم من خلاله شحن أكثر من نصف الحبوب المصدرة من روسيا.
من أكثر الأمور التي تقلق الغرب في مجال أزمة الغذاء والقدرات التصديرية الروسية هو أنّ اعتماد إفريقيا الكبير على إمدادات القمح الروسي له بُعد إستراتيجي يعزز نفوذ موسكو في تلك القارة. يتحدّى الوجود الروسي المتنامي بسرعة في إفريقيا المشاريع الاستعمارية الغربية الجديدة للدول الأوروبية. هذا واضح بالفعل في منطقة «الساحل».
على أية حال، لا تزال روسيا تحتفظ بهيمنتها على البحر الأسود ولا يمكنها تحمّل أي تهديد لشبه جزيرة القرم. بصرف النظر عمّا يحدث في جزيرة الأفعى، لا يوجد توقف في العملية العسكرية الروسية الخاصة في جنوب أوكرانيا أيضاً. وذلك بالرغم من أنّ المستشارين العسكريين الأمريكيين والبريطانيين في أوكرانيا كانوا يضغطون منذ مدة لاستعادة تلك القطعة الإستراتيجية في البحر الأسود. حيث صدّت القوات الروسية عمليتين كبيرتين للاستيلاء على جزيرة الأفعى بالقوة، حيث يقدّر المحللون العسكريون الغربيون أنّ الوجود الروسي في جزيرة الأفعى سيشكّل تهديداً لأصول الناتو في رومانيا أيضاً.
بأيّة حال، يمكننا في هذا السياق فهم تأثير دلالات ما جرى ويجري على المشهد العام بخصوص جزيرة الأفعى بما هو أبعد من «فتح ممرّ إنساني للغذاء» من خلال أمرين: الأول إعلان موسكو أنّها لن تقبل سفن شحن القمح برفقة سفن حربية أو طائرات مسيرة غربية، وأنّها تحتفظ بالحق في تفتيش السفن والتأكد من أنّها لا تحمل مواد عسكرية، ما يعني بأنّ موضوع تصدير القمح إن حدث فلن يتحوّل إلى نقطة تغرز فيها السكين في خاصرة روسيا.
الثاني: تصريح الرئيس الروسي في 29 حزيران من «عشق آباد» أثناء الإجابة عن سؤال عن الأهداف الجديدة أو الحالية للعمليّة العسكرية الروسية: «لم يتغيّر شيء بالطبع. لقد تحدثت عنها في الصباح الباكر من 24 شباط. تحدثت عنها بشكل مباشر وعلني حتى يسمعها البلد والعالم بأسرهما: ليس لديّ ما أضيفه. لم يتغيّر شيء... أثق بالمحترفين. إنّهم يفعلون ما يعتبرونه ضرورياً لتحقيق الهدف العام. لقد صغت الهدف العام، وهو تحرير دونباس وحماية شعبها وتهيئة الظروف التي تضمن أمن روسيا نفسها. هذا كلّ شيء. نحن نعمل بهدوء وثبات كما ترون، وقواتنا تمضي قدماً وتحقق الأهداف التي تمّ تحديدها لفترة معينة من الاشتباك. نحن نسير وفقاً للخطة. نحن لا نتحدث عن مواعيد نهائية. أنا لا أحدد مواعيد نهائية أبداً لأنّ هذه هي الحياة، هذه هي الحقيقة، سيكون من الخطأ جعل الأشياء تتناسب مع أيّ إطار عمل، لأنّ القضية تتعلّق كما قلت في السابق، بكثافة القتال التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالخسائر المحتملة، ويجب أن نفكّر قبل كلّ شيء في إنقاذ حياة رجالنا».
السبعة الكبار والقصر العثماني!
بين عامي 1843 و1856، لم يدّخر السلطان العثماني عبد المجيد أية تكلفة لبناء قصر دولما باشا في إسطنبول، والذي تمّ تشييده بهدف إبهار العالم. تمّ تركيب أكبر ثريا من الكريستال البوهيمي على الإطلاق، وأربعة عشر طناً من الذهب لتلميع السقف. كان هذا الترف- الذي لم يكن السلطان قادراً على تحمّل كلفته- مردّه جزئياً إلى الحاجة الماسة لإرباك الدائنين الذين اشتبهوا بأنّ الإمبراطورية العثمانية المتأخرة كانت غارقة في المشكلات وقريبة من الإفلاس ويعطّل مسيرتها التضخم. تعيد قمّة مجموعة السبع بشكل خيالي إلى الأذهان ماضي الانحدار العثماني. هناك الكثير من الانتقادات العامة بأنّ مشهد العظمة الغربية لم يعد يتماشى مع العصر، وهو مثال على الكيفية التي أصبح فيها السياسيون في الدول الغربية بعيدين عن الواقع، بل منحطين.
ظهر المستشار الألماني أولاف شولتز- بصفته المضيف- أخيراً أمام وسائل الإعلام بأجواء كئيبة إلى حدّ ما، وعكست رسالته إلى الصحفيين المجتمعين «أمامنا وقت من عدم اليقين. لا يمكننا توقّع كيف ستنتهي». كان شولتز يشير إلى أزمة أوكرانيا وعواقبها. تحدّث شولتز عن «المدى الطويل» وعن العواقب على كلّ شيء وعلى الجميع. لم يعد للرواية الغربية عن الانتصار على روسيا وجودٌ بعد اليوم.
في الواقع، كانت نقطة الخلاف الرئيسية بين دول مجموعة السبع هي كيفية التعامل مع روسيا. ترى دول مجموعة السبع أنها فشلت في عزل روسيا، وربما ليس من مصلحتها حتى الخلاف التام مع موسكو لأسباب اقتصادية. بالكاد وافقت القمة على مناقشة مجموعة من العقوبات الجديدة ضد روسيا، لكن المداولات أكدت أنّ لاستخدام الأدوات الاقتصادية لمعاقبة روسيا حدود واضحة ما كان يجب تخطيها. الحقيقة أنّ الإستراتيجية الغربية في مأزق- روسيا تربح الحرب على الرغم من تسليم الأسلحة الهائلة من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، كما فشلت العقوبات في ردع روسيا وهي تضر بأوروبا أكثر من إضرارها بروسيا. لقد نفدت جعبة أفكار الغربيين.
بالتأكيد لم تكن هناك أية علامة على وجود معارضة علنية، ولكن حتّى عندما تعهد قادة مجموعة السبع بتقديم دعمهم الثابت لأوكرانيا، فقد كان واضحاً ما هو حاضر في أذهانهم من أنّ العقوبات غير المسبوقة ضد روسيا التي نفذتها مجموعة السبعة والاتحاد الأوروبي- من أجل استهداف اقتصاد موسكو والطاقة الصادرات واحتياطيات البنك المركزي- تسببت في تقلبات السوق العالمية ورفع تكاليف الطاقة. أدى التضخم المرتفع وتباطؤ النمو وشبح نقص الطاقة في أوروبا هذا الشتاء إلى تثبيط شهية الغرب لفرض عقوبات جديدة. منعت الخلافات بين قادة الغرب من الاتفاق على عقوبات جديدة «ملموسة»، حيث وافقت المجموعة فقط على بدء العمل على تدابير تتراوح من وضع حد أقصى لسعر مشتريات النفط الروسي إلى حظر على الذهب. فمع استنفاذ معظم الخيارات المتاحة لمعاقبة روسيا أكثر، بقيت البدائل الأكثر تعقيداً والمثيرة للجدل هي المطروحة على الطاولة.
وجاء في بيان مجموعة السبع: «سننظر في مجموعة من الأساليب، بما في ذلك خيارات الحظر الشامل المحتمل لجميع الخدمات، والتي تتيح نقل النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية المنقولة بحراً على مستوى العالم. نحن نكلف وزراءنا المعنيين بمواصلة مناقشة هذه الإجراءات بشكل عاجل، والتشاور مع البلدان الثالثة وأصحاب المصلحة الرئيسيين في القطاع الخاص، وكذلك الموردون الحاليون والجدد للطاقة، كبديل للهيدروكربونات الروسية».
جعبة خاوية!
ناقش قادة مجموعة السبع أيضاً اقتراحاً أمريكياً ينصّ على أن مشتري النفط الروسي يجب أن يحددوا بأنفسهم السعر الأقصى الذي يرغبون في دفعه مقابل ذلك. في النهاية، لم يتم اتخاذ قرارات ملموسة على خلفية تحفظات الاتحاد الأوروبي. لن يكون اقتراح الولايات المتحدة منطقياً إلا بالمشاركة الكاملة لجميع دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الصين والهند اللتين من غير المرجح أن تدعما مثل هذا القرار. في الواقع، تعتمد بعض دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 100٪ تقريباً على النفط الروسي، في الحقيقة وحتّى لو وافقت الدول الأوروبية على المقترح الأمريكي، فإن لم توافق روسيا على توريد النفط بسعر مخفض، فإن هذه الدول تخاطر بأن تكون محرومة بشكل تام من المواد الخام.
أمّا الأمل الثاني للأمريكيين كان خفض دخل روسيا عبر وقف استيراد الذهب الروسي. أراد شولز مناقشة الاقتراح الأمريكي على مستوى الاتحاد الأوروبي أولاً. لكن رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل كان متشككاً: «بالنسبة للذهب، نحن مستعدون لمناقشة التفاصيل ومعرفة ما إذا كان من الممكن ضرب الذهب بطريقة تضر بالاقتصاد الروسي ولا تضر بنا أنفسنا». كان المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، متجهزاً للرد: «سوق المعادن الثمينة عالمي، وهو كبير جداً وضخم ومتنوع للغاية. كما هو الحال مع السلع الأخرى، إذا فقدت إحدى الأسواق جاذبيتها بسبب قرارات غير شرعية، فهناك إعادة توجيه إلى حيث يكون الطلب أكثر على هذه السلع وحيث تكون الأنظمة الاقتصادية أكثر راحة وأكثر شرعية».
كانت أحد الأسباب الرئيسية لدعوة الهند للقمّة هو توسيع التحالف العالمي ضد روسيا، لكن الحيلة لم تنجح. وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، أخبر رئيس الوزراء مودي شولتز في اجتماع ثنائي بأنّ الهند لا يمكنها الانضمام إلى أية جهود ضد روسيا، كما دافع علناً عن مشتريات النفط من روسيا. في الواقع، يكاد الانفصال عن الواقع يكون سريالياً. في قمة مجموعة السبع الأخيرة تحت الرئاسة الألمانية في عام 2015، تعهد القادة الغربيون «بتحرير» 500 مليون شخص من الجوع بحلول عام 2030، لكنّ الأرقام ترتفع بشكل مستمر منذ 2017، وفي 2022 هناك أكثر من 150 مليون شخص يعانون من سوء التغذية.
المناخ مثال آخر على الانفصال. تعرّض المستشار الألماني لانتقادات بسبب محاولته إضعاف اتفاقيات حماية المناخ الدولية في قمة مجموعة السبع. فبسبب أزمة الطاقة، تحاول ألمانيا التراجع عن التزامها الطوعي بعدم تمويل الوقود الأحفوري بنهاية 2022. لا شك أن هذا العام مهم بالنسبة للمناخ. لقد وعد المجتمع الدولي بتحديث الخطط المناخية الوطنية وتكييفها لتلبية هدف 1.5 درجة مئوية قبل مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ، ولكي يحدث هذا يجب أن تعطي مجموعة السبع مثالاً يحتذى. لكن على العكس من ذلك، تزيد ألمانيا من وارداتها من الفحم بسبب عدم اليقين بشأن إمدادات الغاز الروسي. وشددت مجموعة الدول السبع على دور زيادة شحنات الغاز الطبيعي المسال، مضيفة أنها «تقرّ بأن الاستثمار في هذا القطاع ضروري استجابة للأزمة الحالية». حذر شولز، مرة أخرى، من الخطر الحقيقي لنقص الطاقة في الاقتصاد الألماني وتأثير الدومينو على بقيّة الاقتصادات.
في الحقيقة، أظهر «قصر» مجموعة السبع أنّ الغرب يجهل كيفية الخروج من «عقوبات الجحيم» ضد روسيا. كشفت القمة أن العقوبات الحالية ضد روسيا قد تجاوزت عتبة الألم لمعظم صانعي السياسة الغربيين. والقادة الأوروبيون يكتشفون الآن أن هناك ثمناً يجب دفعه للاستمرار في العقوبات. وصل الأمر بتحذير الحكومة الألمانية الأسبوع الماضي من نقص محتمل في الغاز قد يؤدي إلى إغلاق المصانع وتقنين محتمل لإمدادات الغاز للمنازل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1077