الصراع الداخلي الأمريكي... يسرّع عالماً متعدد الأقطاب
إنّ نتائج الانتخابات الأمريكية النصفية قد جعلتنا نرى بلداً أكثر تمزقاً، لتؤكد بأنّ الولايات المتحدة واقعة في أزمة عميقة تستشري في مؤسساتها. مثّلت الانتخابات النصفية خطّاً جوهرياً بالنسبة للديمقراطيين والجمهوريين، هزيمة لإدارة ترامب ونصراً واضحاً لـ «حزب الحرب» في واشنطن.
فيدريكو بيراتشيني
تعريب وإعداد: عروة درويش
انتهى الأمر في مجلس النوّاب في أيدي الديمقراطيين الذين استطاعوا قلب نتائج 2016، من خلال الفوز بستّة وعشرين مقعداً وحيازة الأغلبية بـ 219 مقعداً، بينما لدى الجمهوريين 193 مقعداً. لكنّ الجمهوريين وخشية من «الموجة الزرقاء» زادوا تمثيلهم في مجلس الشيوخ، فبات لديهم 51 سناتوراً مقابل 45 للديمقراطيين. وبخصوص الحكّام فقد استمرّ الجمهوريون في الصدارة بحيازتهم 25 ولاية بلونهم الأحمر, مقابل 21 ولاية زرقاء للديمقراطيين.
حزب الحرب الأمريكي
بعد مضي عامين على التحقيقات الزائفة في ما يسمّى «روسيا- غيت» واستمرار الهجوم من قبل الإعلام الأمريكي (باستثناء بضع قنوات مؤيدة لترامب، مثل: فوكس نيوز)، بدا بأنّ وصول موجة الديمقراطيين أمرٌ حتمي. لكننا شهدنا عوضاً عن ذلك تكراراً بسيطاً لانتخابات 2016، مع تدبّر ترامب لأمر الأداء الذي يفوق التوقعات.
صحيح أنّ إخفاق الجمهوريين في السيطرة على مجلس النواب لا يمكن مقارنته بما حدث في 2010 عندما خسر الديمقراطيون 63 مقعداً، لكنّ الخسارة تبقى خسارة على الدوام. إنّ منصب «متحدث المجلس» هامّ جداً وسيتم استخدامه حتّى أقصى حد لتطبيق جدول أعمال الديمقراطيين. وقد يضخّ هذا الأمر حياة جديدة في هجوم الديمقراطيين على الرئيس فيما يتعلق بالادعاءات بعلاقته مع روسيا.
لكنّ النتائج أثبتت بأنّ دونالد ترامب ذو شعبية أكبر بكثير ممّا يدّعي خصومه. لم يربح الديمقراطيون أكثر من أغلبية نسبيّة في مجلس النواب. ورغم زلّات وحماقات ترامب فمن الواضح بأنّه لايزال يحظى بدعم شريحة واسعة من المجتمع الأمريكي، بغض النظر عن ضعفه النسبي الذي قد يؤدي إلى نتائج كارثية على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية.
يؤدي مجلس النواب أعمالاً متعلقة بشكل رئيس بالسياسات المحلية، بينما مجلس الشيوخ مسؤول عن إنفاذ تعيينات هامّة، مثل: الخاصة بالمحكمة العليا. سيجعل إمساك الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب من حملة ترامب الرئاسية في عام 2020 معركة شاقّة. سيكون على ترامب أن يقدّم لناخبيه من عام 2019 سلسلة من الوعود الموفّى بها، والتي قطعها عام 2016. إنّ تمرير جدول أعمال خصم في مجلس النواب هو أمر صعب في أفضل الأوقات، وتصبح المهمّة شبه مستحيلة عندما يتعلق الأمر بترامب.
لهذا السبب يواجهنا سيناريو قد يوصل البلاد إلى «حزب الحرب»، إنّ حزب الحرب هو ذلك الفصيل المكوّن من جمهوريين وديمقراطيين يمثلون مصالح تكتلات سلطوية محددة، وليس مصالح الشعب الذي انتخبهم. يبدو لنا بأنّ المنتفع الأكبر من الانتخابات النصفية هم: وكالات المخابرات، وول ستريت، والمصارف ووكالات التقييم الائتماني، والفيدراليين والإعلام السائد، ومراكز الأبحاث المرتبطة، وواضعو السياسات، ومجمع الصناعات العسكرية. لقد اكتشف ترامب في أول عامين له كرئيس مدى ضآلة استقلاليته فيما يخص السياسة الخارجية، وذلك بفضل مثيري الحرب في المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
الوهم العظيم
إنّ النظرة الواقعية للسياسة الخارجية التي استند عليها ترامب في حملته الانتخابية قد انجرفت بعيداً بعد أيام قليلة على انتصاره. فأملاً منه برشوة الصقور في واشنطن أحاط نفسه بالمحافظين الجدد، الذين انتهى بهم المطاف وهم يحاولون إيقاعه في شيء يعكس التوافق في واشنطن، حيث يُنظر لكلّ محاولة لمحاورة الخصوم على أنّها إشارة على الضعف.
إنّ واشنطن ونُخَبها عالقون في فقاعة القطب الواحد، ولا يزالون مقتنعين بأنّ الولايات المتحدة هي القوّة العالمية الكبرى الوحيدة الموجودة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية. وذلك حتّى مع تأكيد خبراء البنتاغون العسكريين، في وثيقتين رسميتين (تقييم الموقف النووي وتقييم الدفاع الوطني)، أنّ العلاقات الدولية قد تحوّلت إلى واقع متعدد الأقطاب، حيث سيكون على الولايات المتحدة أن تتعامل مع أقرانها من المنافسين، مثل: روسيا والصين.
وتنظر دائرة وجهات النظر النيوليبرالية في واشنطن إلى العلاقات الدولية بشكل غير واقعي وبطريقة مفسدة بالإيديولوجيا. وقد شرح ميرشيمر هذا الأمر بشكل بارع في كتابه الأخير الذي عنونه بشكل ملائم: «الوهم العظيم»، حيث قارن أهمّ ثلاثة «إيمانات» بالقومية والليبرالية والواقعية. إنّ هؤلاء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في مؤسسة السياسة الخارجية مقتنعون بأنّ الولايات المتحدة مهيمنة خيّرة، عليها واجب أخلاقي بإعادة تشكيل العالم على شاكلة مؤسستهم وصورتها.
وأثناء القيام بهذه العملية فإنّ قصف بلدٍ ما وتدمير نسيجه الاجتماعي وقتل مئات الآلاف من الأبرياء، هو أمر مفسّر بشكل بريء بالنهاية النبيلة المفترضة. إنّ عقلية الغاية تبرر الوسيلة هي التي تسيّر عقلية وأفعال الأغلبية الساحقة لمؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن. وكما هو مُؤكَّد، فإنّ الأشخاص الذين وقعوا ضحيّة إيماناتهم الخاصّة هم فقط الذين يعتقدون بأنّهم يتصرفون بهدف الخير العام عند قيامهم بنشر الفوضى والدمار. على العكس من ذلك فإنّ بقيّة العالم قد راقب بقرف وباشمئزاز إمبريالية البلاد الحربية التي كانت ملتزمة باستهلاك موارد الآخرين. وهم كذلك الذين أملوا بأشدّ ما يمكنهم، وخاصّة منذ بداية التسعينيات، بأنّ لحظات القطب الواحد سوف تلقى تأثيراً مضاداً موازناً لها عبر القوى الأخرى. ففي نهاية المطاف ليست روسيا والصين وحدهما من تنتظران اكتمال عالمٍ متعدد الأقطاب، بل جميع تلك البلدان التي لا تنوي الإذعان للإملاءات الأمريكية التي تريد تقييد سياساتها الخارجية والمحليّة.
يمكن لنتائج الانتخابات النصفية تسريع هذه العملية. فمع مجلس نواب مسيطر عليه من الديمقراطيين، سيتعين على ترامب أن يتخلّى عن سياساته الخارجية الواقعية أكثر حتّى ممّا فعل خلال العامين المنصرمين. لقد بدأ تراكم التنازل فيما يخص السياسات الخارجية يصبح مقلقاً. فلنفكر فقط بالعدائية تجاه إيران، والتي أثارتها «إسرائيل» والمملكة العربية السعودية، حلفاء إدارة ترامب الرئيسين. وينطبق الكلام ذاته على الصين التي أثار العدائية تجاهها ترامب نفسه بهدف تبرير إفقار الطبقة الوسطى الأمريكية التي صوتت له لتغيير الوضع. وهنالك بالتأكيد الكراهية المطلقة لروسيا، العدو اللدود لمؤسسة واشنطن.
لا يزال ترامب يحوز على قليل من الواقعية التي ذكرها ميرشيمر بخصوص السياسة الخارجية. لكن على إثر هزيمته في مجلس النواب فسيحتاج لمنح النيوليبراليين حريّة أكبر بكثير في مجال السياسات الخارجية، والذين يسعون لإحياء سياسات بوش وأوباما، هذا إن أراد أن يمرر أيّ شيء في مجلس النواب بالطبع. وحال عدم تقديم تنازلات لمجلس النواب، فإنّ جميع وعود ترامب المحلية لناخبيه سوف تتم عرقلتها.
عزلة وتراجع واشنطن
من المتوقع أن تتكثّف الحرب الأهلية السياسية الدائمة في الولايات المتحدة على مدار العامين المقبلين، وفكرة وجود إدارة أقلّ استقلالية في مجال السياسة الخارجية سوف يدفع بقيّة العالم للاعتماد بشكل أقل وأقل على واشنطن، والبدء بالبحث في أماكن أخرى. فحتّى الدول الأوروبية، مثل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا، أدركت بأنّ الحلف الحصري مع واشنطن ليس نافعاً، بل مصيره في واقع الأمر الفشل نتيجة للفوضى في السياسة الأمريكية.
وفي هذا السياق، فإنّ أحداث الفترة الماضية بشكل خاص هي هامّة. فبينما تحاول العديد من الدول «الأوراسية» مثل: الهند واليابان وتركيا وإيران وروسيا والصين وأفغانستان وباكستان أن تتخطّى الخلافات فيما بينها عبر خلق أطر تعاون دولي، تدفع واشنطن نحو الفوضى، وتحاول تسريعها بهدف عكس هذه التفاهمات. يمكن رؤية مثال ساطع على هذا التراجع للدور الأمريكي في كوريا. فدون تدخل الولايات المتحدة تقوم سيول وبيونغ يانغ بالمضي قدماً نحو مصالحة سلمية. فمون جاي إن وكيم جونغ أون يقومان بالتواصل بشكل يومي، والتقدم المحرز في المناطق المجردة من السلاح تتحدث عن نفسها، مثل: إعادة وصل السكك الحديدية. إنّ مثل هذا المثال يعكس النموذج العالمي الذي يتّجه نحو حلّ الخلافات، ويمثّل الأساس لبناء حلول ثنائية تفاوضية مباشرة بين الأطراف المعنية.
هذه الأمثلة كثيرة وتستحق الاهتمام. فالأمثلة الصارخة الأخرى هي السعي لحلّ الخلافات بين الهند والصين، وكذلك الخلافات الحدودية بين اليابان والصين، وبين اليابان وروسيا. ودوماً الهدف واحد: تخطي العقبات التي تقف في طريق المكاسب المشتركة. لكن الأهم من ذلك هو الخروج أبعد من نموذج القطب الواحد التي تؤدي لأنّ يركز جميع اللاعبين على مصالح واشنطن قبل مصالحهم الخاصة.
إنّ الشرخ المستمر في الطبقة السياسية الأمريكية لن يؤدي إلّا لتسريع فقدان التفوّق الأمريكي في النظام العالمي القائم. تجد الولايات المتحدة نفسها في وسط تراجع واضح، دون وجود حتّى جبهة سياسية موحدة كما كان الحال أيام أوباما وبوش. لكن مع وجود إدارة ترامب في الإدارة الأمريكية، ومجلس النواب في يد الديمقراطيين، والشيوخ في يد الجمهوريين، فنحن نشهد وضعاً من شأنه تقليص دور واشنطن في الشؤون الدولية.
إطالة أمد حلم عالم القطب الواحد
وهنالك أيضاً سيناريو أكثر جنوناً وأكثر تدميراً لدور الولايات المتحدة في العالم. فمن شأن إقالة ترامب، وهو الأمر الذي قد تتم المبادرة به من مجلس النواب، أن تزيد على الفوضى القائمة في الولايات المتحدة كمية إضافية، وأن تدفع البلاد نحو انهيار اجتماعي وسياسي. ففي حين أنّ مثل هذا السيناريو بعيد الاحتمال، فلا يمكن استبعاد حدوثه كليّاً، خاصة في ضوء الحماقة الحالية لمؤسسة النظام الحاكم في واشنطن.
إنّ أفضل ورقة للرئاسة يمكن أن تلعبها في هذه الحال، هي تمثيل مصالح المحافظين الإنجيليين، وهم الذين يرتبطون بشكل وثيق بالصهيونية «الإسرائيلية». يمكن بهذا لترامب أن يجد في الأقليّة الجمهورية حلفاء له تخلصه من عزله، ناهيك عن ذكر أنّ مثل هذه المحاولة من جانب الديمقراطيين سوف تفتح الطريق أمام الجمهوريين لتحقيق الفوز في انتخابات 2020، حيث سيظهر الديمقراطيون بأنّهم مجرّد مفسدين قادرين على المعارضة وغير قادرين على بناء أيّ شيء. لا يمكن استبعاد مثل هذا الاحتمال. ومع انتصار حزب الحرب في الانتخابات النصفية، ستكون ورقة الرئيس الرابحة أن يتحدث باسم المؤسسة الأمريكية التي تسعى جاهدة لفرض إرادتها على بقيّة العالم على أساس: «الاستثنائية الأمريكية».
إنّ الهدف الجديد لحزب الحرب كما يبدو هو إطالة أمد حلم عالم القطب الواحد، والسيطرة على مجلس النواب هي الخطوة الأولى في هذا المسعى. على ترامب إمّا أن يتكيّف أو يفتح معركة، لكن بملاحظة توصله إلى اتفاق مع هذا الحزب فور فوزه في عام 2016، فلن يكون من المستغرب أن يتخلى عن السياسة الخارجية للمحافظين الجدد والنيوليبراليين والصهاينة في سبيل بقائه في موقعه ومحاولته الفوز في انتخابات 2020.
على الحلفاء والأعداء أن يستعدُّوا على حدّ السواء لتحمّل موجات الصدمة الناجمة عن الصراع بين النخب في واشنطن، وأن يدركوا بأنّه من غير الممكن الاعتماد على ترامب، ناهيك عن حزب الحرب، وخاصة عندما تكون للضرر الناتج عن كليهما آثار سلبية على الحلفاء حتّى. فأوروبا على سبيل المثال تعاني من نكسات الشرق الأوسط وإفريقيا وإغراقهما في الفوضى من قبل حزب الحرب، وكذلك تعاني اقتصادياً من العقوبات المفروضة على روسيا وإيران.
والأكثر من ذلك، أنّ الحرب الاقتصادية التي يستخدم فيها ترامب العقوبات والرسوم الجمركية لم تفعل أكثر من المساهمة في زيادة سوء الترتيبات الاقتصادية المالية الدولية، لتزيد من سرعة إتمام نزع الدولار من الاقتصادات العالميّة.
إنّ سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب سوف تجبر الرئيس على تبني موقف أشد تجاه موسكو. وهذا سيدعو للتساؤل عن مصير أيّ تقدم كان البعض يأمله في مسألة السيطرة على التسلّح.
إنّ الانتخابات النصفية هي ما كان ينتظره حلفاء وأعداء واشنطن من أجل فهم الاتجاه الذي ستسلكه السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القليلة القادمة. قدمت الانتخابات للحلفاء وللأعداء مشهداً أكثر فوضوية وأكثر انقساماً للولايات المتحدة، لتشير إلى حلول الوقت بالنسبة لهم للتوقف عن انتظار واشنطن. فمع الأخذ بالاعتبار أنّ ترامب لا يسيطر على سياسته الخارجية، فإنّ أية محاولة للانخراط في حوار معه ستكون بلا فائدة. وكلما أدرك الحلفاء والأعداء هذا الأمر وتصرفوا على أساسه، كلما كانت أحوالهم أفضل على المدى القصير والمدى الطويل.
ولا يجب كذلك أن ننسى احتمال أنّ ترامب قد يتمكن من تقييد أيدي حزب الحرب في السياسية الخارجية من أجل الاستمرار في التعاون مع روسيا في الفضاء وتوسيع هذا التعاون، وخاصة أنّه سيتمكن من استثمار هكذا تحركات في حشد الدعم في انتخابات الرئاسة 2020. فرغم أنّه قد يكون لحزب الحرب سطوة في الكثير من الأماكن، فلا بدّ بأنّ مؤيدي السلام والابتعاد عن الحرب قادرون على إيصال صوتهم بطريقة أو بأخرى.
يبدو بأنّ واشنطن ونخبها عالقون في الديناميكيات المحلية لدرجة لا تسمح لهم بملاحظة أنّ سلوكهم يسرّع الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب. سوف يحلّ العامان التاليان مسألة الوقت الذي يحتاجه نظام عالمي متعدد الأقطاب ليكتمل، ومسألة الوقت الذي تحتاجه واشنطن لتدرك بأنّها دولة لا يمكنها التعامل مع العالم من موقف مهيمن.