اشتراكيّات القرن الحادي والعشرين... تحديات إستراتيجية (1)
من المتوقَّع أن تتجاوز الصين «الولايات المتحدة» لتصبح أكبر اقتصاد في العالم. الطبقة العاملة الصينية هي الأكبر في العالم. وفي غضون سنوات قليلة، من المرجَّح أن تصعد في الصين حركة كفاحيّة من الطبقة العاملة. كما أنّ الصين هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم، وأكبر الباعثين لغازات الاحتباس الحراري. ولذلك، فإن الصين هي في قلب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية المعاصرة.
مينكاي لي*
ترجمة وإعداد: قاسيون
معيَّنة من الظروف التاريخية لتعمل وتتطور. ومع تطور الشروط التاريخية وتغييرها، نصل، عاجلاً أم آجلاً إلى نقطة تصبح عندها الشروط غير متوافقة مع الاشتغال العادي للنظام، ولا يعود النظام بعدها قادراً على العمل وفقاً لقوانين الحركة الأساسية الخاصة به، ويجب استبداله بنظام جديد (أو عدة أنظمة أخرى).
الصين وأزمة القرن الحادي والعشرين
تقوم الرأسمالية على السعي وراء تراكم لا نهائي لرأس المال، مدفوعٍ بالسعي لتحقيق الربح. وللتشغيل العادي للنظام الاقتصادي الرأسمالي لا بدّ من معدلات ربح عالية ومستقرة، والتي كانت ممكنة تاريخياً بفضل الإمداد الوفير والرخيص من العمالة والطاقة والموارد المادية والضرائب.
ومع ذلك، فإن تطور الرأسمالية قد غيَّر البُنى الاجتماعية. على مدار التطور الرأسمالي، كان هناك ميلٌ متنامٍ إلى البَلتَرة المتزايدة للقوى الكادحة (تحويلهم إلى بروليتاريا، أيْ عمَّال بِأَجر). ومقارنةً بالقطاعات الأخرى من السكان العاملين، تتمتع الطبقة الكادحة البروليتاريّة بقدرة أكبر على التنظيم. وبما أن غالبية القوى الكادحة تصبح بروليتاريّة وتتنامى مَطالِبُها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فهناك ميلٌ لارتفاع تكاليف العمالة والضرائب نسبةً إلى قيمة الناتج الاقتصادي، مما يخفِّض من معدَّل الربح الرأسمالي.
تاريخياً، كان الرأسماليون يستجيبون لارتفاع تكاليف العمالة والضرائب عن طريق نقل رأس المال إلى مناطق جديدة، حيث القوة العاملة أرخص وأكثر وفرة. ويبدو أنّ الصين ربّما تكون آخر منطقة جغرافية كبيرة يمكن أن تؤمّن قوّة عاملة رخيصة ووفيرة إلى جانب الشروط الضرورية الأخرى المطلوبة لتراكمٍ فعَّال لرأس المال. ومع بدء الطبقة العاملة الصينية في المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن تكلفة العمالة الصينية، والعالمية أيضاً، سوف تميل إلى الارتفاع. وليس ثّمَّة منطقة جغرافية كبيرة أخرى يمكن لرأس المال العالمي أن ينتقل إليها.
إنّ السعي وراء نمو اقتصادي لانهائي هو السمّة المميزة للرأسمالية الحديثة. لكن النمو الأُسّي للإنتاج والاستهلاك المادّي قد استنزف الموارد الطبيعية وأدى إلى تدهور البيئة. الكثير من الحيز البيئي الكوكبي قد تمّ استغلاله خلال النصف الثاني من القرن العشرين، من أجل التوسع الرأسمالي. في أوائل القرن الحادي والعشرين، وأصبحت العديد من الأنظمة البيئية العالمية على وشك الانهيار. ولا سيّما الكارثة المناخية الوشيكة التي تهدّد بتقويض أسس الحضارة البشرية.
تشير هذه التطورات إلى أن الظروف المختلفة، التي كانت تاريخياً تعزز الاشتغال العادي للمنظومة الرأسمالية العالمية، قد تغيّرت، وتتغيّر، بشكل جذري، ولم يعد ممكناً استمرار القوانين الأساسية لحركة الرأسمالية.
في سبعينيات القرن الماضي، كانت الصين واحدة من ساحات المعارك الرئيسة في الصراع الطبقي العالمي. ومهَّدت هزيمة الثوريِّين الماويِّين الطريقَ أمام انتقال الصين إلى الرأسمالية، وربما كانت عاملاً حاسماً في تقرير نتائج الحرب الطبقية العالمية في أواخر القرن العشرين. وفي السنوات القادمة، ستعود الصين مرة أخرى ساحةً رئيسةً للصراع الطبقي العالمي. وانتصار أو هزيمة الطبقة العاملة الصينية قد يقرِّرُ إلى حدّ كبير كيف سيتم حلّ الأزمة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
على وشك أزمة كبيرة
كون الاقتصاد الصيني اقتصاداً طرفياً كبيراً متخصِّصاً في الصادرات الصناعية، فمن الضروري بالنسبة للصين أن تحافظ على استثمارات ضخمة في المعدات الصناعية والبنية التحتية. أدى الارتفاع الكبير لمستوى الاستثمار في الصين إلى انخفاض معدل الربح فيها. ومع ارتفاع تكاليف الأجور والضرائب ورأس المال، دخلت الرأسمالية الصينية في حقبة «اعتصار الأرباح» مما أدى إلى المزيد من الانخفاض في معدل الربح.
ومن التجربة التاريخية للرأسمالية البريطانية والأمريكية يُستَنتَج بأنّه غالباً ما كانت تحدث أزمةٌ كبيرة عندما ينخفض معدل الربح العامّ في الاقتصاد إلى أقل من 10 في المائة. من المرجَّح أن ينخفض معدل الربح العام للاقتصاد الصيني إلى 10% اعتباراً من العام 2020 مما سيؤدي إلى أزمة اقتصادية كبرى. ولكن مع الارتفاع السريع في نسبة دَين الصين إلى ناتجها المحلي الإجمالي، فإن حدوث أزمة مالية واقتصادية كبرى قبل العام 2020 هو احتمال وارد أيضاً. ونظراً إلى الوزن الاقتصادي الحالي للصين، فإنّ أزمةً كبرى في الاقتصاد الصيني من المؤكَّد أنها ستجرّ الاقتصاد العالمي إلى الرّكود القادم، الذي قد يكون أكثر ضرراً بكثير من الركود الكبير في 2008–2009.
في الماضي، استطاعت الرأسمالية العالمية التعافي من الأزمات الكبرى من خلال القيام بإعادة هيكلة دون تغيير الإطار المؤسَّساتي الأساس للرأسمالية. ولكن، في القرن الحادي والعشرين، سيكون على الرأسمالية العالمية أن تواجه ليس فقط التناقضات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، بل وكذلك التناقضات الإيكولوجية (البيئويّة) المتصاعدة بسرعة.
القيود الإيكولوجية على التراكم الرأسمالي في الصين
على المدى القصير والمتوسط، يحتاج الاقتصاد الرأسمالي الصيني إلى معدل نمو أكثر من 5% للحفاظ على استقرار اقتصادي. ولكن نموّه وفق معدَّل كهذا (أي: أكثر من 5% سنوياً)، يعني أنّ طلب الصين على النفط، والغاز الطبيعي، والفحم، من المرجَّح أن يفرض على أسواق الطاقة العالمية عبئاً لا يمكنها تحمّله في السنوات القادمة. وسيظل الطلب على المياه في الصين أعلى من كمية موارد المياه العذبة المستدامة بيئياً. ومن غير المتوقَّع أن تتحسّن في السنوات القادمة سوى مؤشرات قليلة فقط لتلوث الهواء (كانبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت مثلاً).
وبافتراض أن الصين يحق لها السماح بنسبة 20% من إجمالي ميزانية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، فإنّه لم يعد ممكناً عملياً أن تفي الصين بمتطلّبات استقرار المناخ اللازمة لكبح لجام ارتفاع درجة حرارة كوكبنا إلى ما دون درجتين مئويَّتين. ولتجنب أسوأ الكوارث المناخية، يجب أن تصل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الصين إلى ذروتها بحلول العام 2030 وأن تنخفض بسرعة بين عامي 2030 و2050. ويقتضي خفض الانبعاثات المطلوب حدوث انخفاض حادّ في معدّل النمو الاقتصادي للصين بحلول العقد الثالث (2020– 2030)، وربما يتطلّب نمواً اقتصادياً سلبياً بحلول العقد الرابع (2030– 2040). وبعبارة أخرى، فإنّ المتطلبات الأساسية لاستقرار المناخ لا تتوافق أساساً مع الاشتغال العادي للاقتصاد الرأسمالي الصيني.
العالم يسير نحو احترارٍ يزيد عن درجتين مئويتين
للحد من الاحترار العالمي على المدى الطويل، إلى ما لا يزيد عن 2 درجة مئوية، يحتاج العالم إلى اتباع مسار الانبعاثات 2,6 RCP (وهو رمز السيناريو الأول والأفضل من بين أربعة سيناريوهات لسيرورة ونتائج الدفيئة حتى العام 2100 وفق تصنيف دولي اعتمده علماء البيئة). وتحقيقه يحتاج إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 3% سنوياً من العام 2012 وحتى 2100.
وتعتمد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمي على مستوى الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، وعلى شدّة الانبعاث المتربطة به، وهذه الأخيرة تُعَرَّف بأنها نسبة: انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم على الناتج المحلي الإجمالي. ومن ذلك تُستَنتَج المعادلة التالية:
معدل تخفيض انبعاثات CO2= معدّل تخفيض شدّة الانبعاث- معدل النمو الاقتصادي العالمي.
إذا كان الاقتصاد العالمي ينمو بنسبة 3% سنوياً، وكان معدَّل تخفيض الانبعاثات المطلوب هو 3%، فإن معدل تخفيض شدة الانبعاث، وفق المعادلة أعلاه، يجب أن يكون 6%، فهل هذا ممكن؟!
الحلّ تكنولوجي أم سياسي؟
من الحقائق الأساسية التي غالباً ما يهملها المتفائلون في التكنولوجيا، هي: أن الاقتصاد العالمي الحالي قائمٌ على بنية رأسمال تحتية شديدة الاعتماد على الوقود الأحفوري. وبغض النظر عن سرعة تقدّم التكنولوجيات الجديدة، فإن معظمها بحاجة إلى دمجها في مبانٍ ومَعدّات جديدة. لكن السلع الرأسمالية الحالية تدوم لسنوات عديدة ولا يمكن استبدالها إلّا ببطء؛ إذ يتم عادةً استبدال 4– 5% من المخزون الرأسمالي القديم كل عام.
لنفترض أن نسبة 5% من المخزون الرأسمالي القديم (مثل: الآلات ومولِّدات الطاقة) قد استُهلِكت وأنَّ استثماراً رأسمالياً جديداً يحلّ محلّها. في هذه الحالة، لا يوجد نمو في مخزون رأس المال. ولنفترض أن المخزون الجديد ينطوي على تكنولوجيات مبتكرة بحيث يسبب المخزون الجديد شدة انبعاثات أقل بـ 50% من تلك الناجمة عن القديم. وهذا يكافئ تقريباً الافتراض بأن جميع محطات الطاقة الكهربائية الجديدة لا تطلق أيّة انبعاثات (أي: أنْ تكون ذات انبعاث صِفري. وتجدر الإشارة إلى أنّ محطات الكهرباء الحالية تسهم بنحو 40% من إجمالي انبعاثات غاز CO2). لكن المخزون الرأسمالي الجديد لن يمثل سوى 5% من إجمالي المخزون، وستظل 95% الباقية تستخدم التكنولوجيات القديمة. وبالتالي، بالنسبة لكامل الاقتصاد، فإنّ شدة الانبعاث الوسطية الجديدة تصبح أقل بنسبة 2,5% فقط مقارنة بالقديمة (5% X 50% = 2,5%).
لنفترض الآن أن الاقتصاد ينمو بنسبة 3%. لدعم النمو الاقتصادي ينمو مخزون رأس المال بنسبة 3%، ويصبح المخزون الجديد يشكّل 8% من المخزون الإجمالي (استبدال 5% من القديم + نمو صافٍ 3%). ومن جديد بافتراض أنّ المخزون له شدّة انبعاث تبلغ 50% مما كانت عليه لدى القديم، عندئذٍ فإنّ شدة الانبعاث للاقتصاد بأكمله ستنخفض بنسبة 4% (8% X 50% = 4%). ولكن معدّل النمو الاقتصادي هو 3% وبالتالي، ووفقاً لهذا الافتراض سينخفض إجمالي الانبعاثات بنسبة 1% فقط، لا أكثر.
وفي الواقع، من المستبعد جداً أن يشتمل المخزون الرأسمالي الجديد على تكنولوجيات جديدة قادرة على إنقاص شدّة الانبعاث بنسبة 50%. إذ تشير معدلات خفض الانبعاثات الملحوظة في الاقتصاد العالمي بالنسبة لمخزون رأس المال الجديد إلى تخفيض لم يستطع أن يزيد عن 25% في أحسن الأحوال.
ينتج من المحاكمة المنطقية السابقة: أنه من المستحيل على الاقتصاد الرأسمالي العالمي أن يحقّق معدّل تخفيض سنوي في شدة الانبعاثات بنسبة 6% على مدى عدة عقود طويلة من الزمن. وبالتالي، فإنه في ظل ظروف النمو الاقتصادي اللامحدود، لا يمكن للعالَم تحقيق ذلك المستوى من تخفيض الانبعاثات الضروري لإنجاز الهدف الآمن، ألا وهو الحدّ من الاحترار العالمي بما لا يزيد عن درجتين مئويتين مقارنةً بالعصر ما قبل الصناعي. وفي الواقع، حتى لو التزم العالَم على الفور بنمو اقتصادي صفري، فإنه سيكون من المستحيل تقريباً تحقيق معدل سنوي لخفض الانبعاثات بنسبة 3% سنوياً من الآن (كلام الكاتب منذ العام 2016) وحتى نهاية القرن الواحد والعشرين.
ومع اقتراب الاحترار العالمي من درجتين مئويّتين، فإن بعض أشكال تغير المناخ الخطير لن يكون ممكناً تجنّبها بحلول النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. لكن السؤال هو: ما إذا كان يمكن للإنسانية أن تتجنَّب أسوأ الكوارث المناخية التي قد تدمّر الحضارة البشرية؟ ربما يعتمد الجواب جزئياً على كمية الوقود الأحفوري المتاحة القابلة للاستثمار الاقتصادي.
نهاية عصر النفط؟
في مراجعة «مشهد الطاقة السنوي» لعام 2014، توقَّعت «إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، EIA» أنّ إنتاج الولايات المتحدة من النفط سيصل إلى ذروته في 2019. وفي دراسة مستقلة (2014) قام ديفيد هيوز، وهو عالم جيولوجي وزميل باحث في معهد بوست كاربون (ما بعد الكربون)، بدراسة «مسارح» النفط الصخري باستخدام بيانات الإنتاج التفصيلية (يشير مصطلح «المسرح النفطي» إلى مجموعة من حقول النفط في منطقة جغرافية تشترك بظروفها الجيولوجية). ووجد هيوز أن إنتاج النفط الصخري الأمريكي من مسارحه الرئيسة سوف يصل إلى ذروته قبل العام 2020، ومن المرجَّح أن تكون معدلات إنتاج النفط الخام بعد عام 2020 أقل بكثير مما توقَّعه معهد EIA.
من المرجَّح أن تتزامن ذروة إنتاج النفط في الولايات المتحدة مع ذروة إنتاج النفط العالمي. عندما يتأخّر إنتاج النفط العالمي عن تلبية الطلب المتزايد سترتفع أسعاره مجدَّداً، مما سيسرِّع الركود الاقتصادي العالمي القادم.
إذا دخل إنتاج النفط العالمي في حالة من التراجع الدائم، ما بعد عام 2020، فإن الاقتصاد الرأسمالي العالمي سوف يواجه صعوبات انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. وبما أنّ المنظومة قائمة على تراكم لا نهائي لرأس المال، فإنّها تحتاج إلى مستوى معيَّن من معدل النمو الاقتصادي للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فإذا انخفض معدل النمو الاقتصادي إلى ما دون العتبة المطلوبة للاستقرار وفَشِلَ النظام في التعافي، فإنّ أزمته الهيكلية ستشتدّ.
هل ما زال «التوسّع الجغرافي» مَهرَباً ممكناً للرأسمالية؟
في الماضي، تمكن النظام الرأسمالي العالمي من النجاة من العديد من الأزمات الكبرى عبر إستراتيجية التوسع الجغرافي أو ما يسمّيه بعض الباحثين «الإصلاح المكاني، spatial fix« (ديفيد هارفي 2001).
في القرن 21، هل يمكن للنظام الرأسمالي العالمي أن يتغلب مرة أخرى على أزمته البنيوية الحالية من خلال «الإصلاح المكاني»؟
في القرن العشرين، كانت أطراف النظام الرأسمالي العالمي تشكل في أغلب المراحل نحو ثُلُثَي سكان العالم. بينما شكل كلّ من المركز مع أشباه الأطراف في أغلب المراحل حوالي سُدُس سكان العالم. وعبْر التبادل غير المتكافئ كان يتمّ نقل الفائض الاقتصادي من الأطراف إلى المركز. وتمركز الثروة الاقتصادية في بلدان المركز سمح لها بقيادة التراكم الرأسمالي العالمي وبـ«شراء» طبقاتها العاملة المحلية (بمعنى إرضائها النسبي لتميل إلى صفّها). في القرن العشرين كانت بلدان المركز تسهم بنحو 50– 60% من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، والأطراف بنسبة 20– 30%.
في أواخر القرن العشرين، ولاحتواء ارتفاع تكاليف العمالة والموارد، أصبح من الضروري للنظام الرأسمالي العالمي تعبئة مناطق جغرافية جديدة للمشاركة الفعالة في الإنتاج الصناعي العالمي. وأصبحت الصين هي المركز للإنتاج الصناعي العالمي. وأخذت النهضة الاقتصادية للصين تسبّب تحوّلاً صميميّاً في بنية النظام الرأسمالي العالمي. ولأول مرة في التاريخ الرأسمالي، بدأت الفجوة بين المركز وأحد الأطراف تضيق. بحلول العام 2013، انخفضت حصة بلدان المركز الرأسمالي من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي إلى حوالي 40%، في حين ازدادت حصة البلدان الطرفية إلى حوالي %40 في المائة.
في السنوات القادمة، من المحتمل أن تتقدّم الصين إلى مرتبة أشباه-الأطراف (عندما يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد (per capita GDP) في الصين فوق الوسطي العالمي، وتبدأ مكاسب الصين من التبادل غير المتكافئ تتفوق على خسائرها منه). وستنخفض حصّة الأطراف من تعداد سكان العالم إلى نحو 50%. وهذا يثير التساؤل عمّا إذا كانت القوى العاملة المتبقية في الأطراف تستطيع أن تولّد فائضاً اقتصادياً كبيراً بما فيه الكفاية ليتم نقله إلى المركز. وإذا لم تعد ثروة العالم متركّزة في المركز الرأسمالي، فهل تستطيع دول هذا المركز الاستمرار في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؟
في أواخر القرن العشرين، ساعدت مشاركة الصين في تقسيم العمل الرأسمالي الدُّوَلي على خفض تكلفة العمالة العالمية، وإحياء معدل الربح العالمي. في المستقبل، عندما يطالب العمّال الصينيون بمزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فهل يمكن تعبئة قدرات أية منطقة جغرافية كبيرة أخرى على وجه البسيطة بحيث تستطيع احتواء ارتفاع تكلفة العمالة في الصين وبقية العالم؟
حتى تستطيع منطقة جغرافية أخرى أن تحلّ بديلاً عن الصين كمركز الإنتاج الصناعي العالَمي، يجب أن تلبّي العديد من المتطلَّبات:
(1) أن تؤمّن قوى عاملة كبيرة ورخيصة بما فيه الكفاية، من مقاس الصين على الأقلّ.
(2) أن تكون قواها العاملة مجهَّزة بالبنية التحتية والكفاءات والمهارات اللازمة للإنتاج الصناعي الرأسمالي.
(3) أن تحكمها دولة رأسمالية فعّالة قادرة على توفير شتّى الظروف السياسية والاجتماعية المطلوبة للتراكم الرأسمالي.
(4) وأخيراً، ألّا يكون التراكم الرأسمالي فيها مقيَّداً بنضوب الموارد والأزمات البيئية.
باستثناء الصين، تشمل أطراف النظام الرأسمالي العالمي حالياً بشكل رئيس: جنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، وإفريقيا شبه الصحراوية. وتعاني العديد من بلدان هذه المناطق حالياً من عدم الاستقرار السياسي ولا تمتلك البنية التحتية المادّية الكافية للتصنيع الرأسمالي. ربما تكون الهند هي البلد الوحيد القادر على توفير قوّة عمل صناعية يمكن مقارنتها بالصين حجماً. فهل تستطيع الهند إنقاذ الرأسمالية، هذا ما سنعرفه في القسم التالي.
* تمّ اختيار وترجمة وتحرير النصّ من الفصلين الأول والثامن من كتاب «الصين وأزمة القرن الحادي والعشرين» (China and the Twenty First Century Crisis)، الناشر: بلوتو برس (ط1، 2016)، تأليف مينكاي لي Minqi Li– باحث صيني ماركسي في الاقتصاد السياسي، وبروفسور في جامعة أوتا الأمريكية. وله أيضاً كتاب «صعود الصين وموت الاقتصاد الرأسمالي العالَمي» (بلوتو برس 2008)