ضدّ «مكافحة الفساد»...عندما تُغيّب الشعوب
لقد أصبحت مكافحة الفساد هي السّمة المعرّفة للسياسات المعاصرة، فالجميع من البنك الدولي إلى دونالد ترامب يشددون على الحاجة لتجفيف المستنقع وطرد المسؤولين الفاسدين. ورغم ذلك من خلال الانقلاب الناعم الذي أزال الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف إلى الحملة القاتلة للفليبيني القوي رودريغو دوتيرته ضدّ المجرمين المفترضين، يمكن «لمكافحة الفساد» أن تتخذ أشكالاً رجعية جدّاً.
بنجامين فوغل
تعريب وإعداد: عروة درويش
حاولت بعض الحركات «اليسارية» تقديم استجابة لهذه المشكلة، لكنها رفضت في كثير من الأحيان اعتبار الفساد مجرّد تعبير خارجي للرأسمالية لا يحتاج إلى معالجة وفقاً لظروفه الخاصة، وتعاملت مع المزاعم بارتكاب مخالفات على أنّها لا شيء سوى حملة تشويهية من الجناح «اليميني». فإن كان اليسار جاداً بخصوص امتلاك وتحويل سلطة الدولة، فإنّه بحاجة للمضي إلى ما أبعد من الفهم الأخلاقي لهذه المسألة. لا يمكن لأحد أن يدافع بعقلانية عن الفساد. ولذلك فإنّ فهم مصادر هذا المرض وأسبابه يكون فقط عبر التطرق إليه بوصفه مسألة سياسية.
ما هو الفساد؟
يميل الفساد إلى الازدهار وسط ثقافة الإفلات من العقاب ودرجات التنمية المتدنية. إنّ بقايا الأوليغارشية السابقة على الرأسمالية في العصر الحديث التي استطاعت إدامة مصادرها الخاصة بالسطوة، تشكل مصدراً رئيساً للفساد فيما يخص العلاقات بين الدولة ورأس المال. لكنّ هذا الميل يتم تدعيمه متى كانت الحركات الجماهيرية غير قويّة كفاية لمساءلة النُّخب. ولهذا السبب بالتحديد ليس الفساد قدراً حتمياً على الأمم المُفقَرة أو الأمم المذنبة، بل هو نتاج قوى تاريخية وصراعات طبقية محددة.
إنّ تعريف الفساد اليوم يختلف عن التعاريف القديمة له، حيث يستخدم اليوم في سياسات «مكافحة الفساد» التي تدعمها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، والذي يعرفها بكونها: «السلوكيات التي تكسر القواعد التي تحكم الموظفين العموميين بما يخص السعي لمصالح خاصة، مثل الثروة أو السلطة أو المكانة». ويتغاضى هذا التعريف عن الفاعلين غير الرسميين الذين يشاركون عادة في مثل هذه التبادلات الفاسدة– فرجل الأعمال الفاسد الذي يحاول التأثير على صانع السياسة من خلال رشوته يفلت من العقاب، فدوره سلبيّ هنا فقط. لكنّ هذا التحوّل في تعريف الفساد يعكس تحركاً أوسع نطاقاً من فهم السياسة بوصفها مجال للشغف والفضيلة المدنية إلى عالم لا يعدو عن كونه أرضاً للمصالح المتنافسة.
إنّ الفساد في الواقع هو أكثر من مجرّد مجموعة من التبادلات غير المشروعة، بل هو إستراتيجية سياسية تستخدمها مصالح بعينها للسيطرة أو للتأثير على المؤسسات أو الدول. إنّها في الجوهر عمليّة خصخصة للحياة العامّة.
ولرؤية هذا لسنا بحاجة إلى أكثر من النظر إلى مثال حديث عن «الغوبتا»، وهم مجموعة رجال أعمال هنود تمكنوا من السيطرة على دولة جنوب إفريقيا. لقد كان الغوبتا قادرين بفضل العون من الرئيس جاكوب زوما- الذين اشتروه- من توجيه تعيينات الحكومة وإستراتيجية المشتريات والموازنة الحكومية في سبيل تحويل الأموال العامة إلى خزائنهم الخاصة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ جهات القطّاع الخاص الفاعلة لا تعاني من الفساد بل هي تقوم بإنتاجه. يتراوح هذا من رشوة رجال الأعمال للسياسيين من أجل التصويت على رفع القيود التشريعية، وصولاً إلى القيام بالأنشطة غير القانونية التي يدور فيها مسببو المشكلة من القطاع الخاص والسياسيين حول بعضهم بشكل لا ينتهي «الباب الدوار». يمكن للقطاع الخاص أن يفسد المؤسسات مع الزمن إلى درجة يصبح فيها قانون الممارسات غير المكتوب هو انخراط الموظفين العموميين في التبادل الفاسد أو غض البصر عنه. عندما يصبح هذا الأمر هو «العادة» فيمكننا القول بأنّ المؤسسة قد فسدت.
ويمكن في الوقت ذاته أن يستخدم المتخاصمون كلمة «فساد» من أجل توظيفها في دور إعادة التوزيع، وذلك مثلما يتم عند تبادل المحسوبيات في الأصوات على شكل بنى تحتية أو إنفاق حكومي أو إسكان عام. يمكن تلخيص هذا الأمر في المصطلح المشهور: «إنّه يسرق، ولكنّه ينجز الأشياء». فإذا ما أُجبر المرء على الاختيار بين سياسيّ «نيوليبرالي» غير فاسد، لكنّه سيقضي على الإنفاق الاجتماعي، وبين «ديماغوجي- غوغائي» فاسد لكنّه يضمن أن يحصل مجتمعه على شيء مقابل إيصاله للسلطة، فهل يمكننا أن نختار غير الفاسد هنا؟
الفساد والتنمية
يفعل الفساد المنهجي أكثر من مجرّد التأثير في أداء المؤسسات. فهو يثير دورة من التوقعات المتضائلة، منتجاً لا مبالاة وإحباطاً سياسياً. إذا رأى الأفراد حزباً أو حركة سياسية على أنّها «فاسدة» وبالتالي غير قادرة على إحداث تغيير ذي مغزى، فإنّ هذا الأمر المثير للسخرية سيقودهم إلى الانكفاء إلى مصالحهم الخاصة، أو في أفضل الأحوال أن يروا السياسة بتعابيرها المعاملاتية المجردة. إن كان تغيير السياسة مستحيلاً، فما الذي بإمكانك فعله باستثناء العناية برفاهك ورفاه عائلتك؟
مثل هذا الأمر بمثابة السّم. فالفساد الممنهج سيسهل على الموظفين العامين تبرير التبادل الفاسد باعتباره جزءاً من طبيعة السياسة. فتتحول الرشوة إلى «هديّة» و«خدمة»، وتصبح المعاملة غير المشروعة تعبيراً عن «الصداقة» و «التضامن» بدلاً من المصلحة الذاتية.
هذه هي الحلقة المفرغة الذي ينضوي تحتها نقد البنك الدولي للفساد بوصفه العائق الأكبر أمام التنمية العالمية. وكنتيجة، فإنّ سياسات «مكافحة الفساد» قد أصبحت سمعة معيارية للمشاريع التنموية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، والتي تمّت مأسستها بوصفها سِمة من النظام العالمي النيوليبرالي. لكن في الحقيقة لم يتم النظر إلى الفساد دوماً على أنّه عائق أمام التنمية. فالتحوّل من كون الفساد مسألة محلية لتصبح ذات طبيعة دولية هي سِمة محددة من سِمات حقبة ما بعد الحرب الباردة.
فقد نظر بعض المنظّرين إلى الفساد في الخمسينيات والستينيات بوصفه محفزاً للتنمية، فهو قادر على التقليل من الروتين الحكومي والسماح للأسواق بالعمل بشكل أكثر سلاسة، مما يسهّل على الشركات متعددة الجنسية أن تقوم بالأعمال التجارية. لم يكن الفساد خارج عملية العصرنة بل كان يُنظر إليه بوصفه منتجاً حتمياً لها.
ومع دخول الكثير من دول العالم الثالث في أزمة ديون، وفي جزء كبير منها نتيجة إجبارها على اتباع السياسات النيوليبرالية التي وضعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كشرط لمنح القروض، فقد تذرّع الغرب «بالفساد» من أجل إعفاء نفسه من اللوم على البؤس والفقر والمعاناة التي ألحقها في جميع أنحاء العالم. ولهذا وضمن هذا التصوير فإنّ إخفاق الأمم في عصرنة نفسها لا يعود إلى إخفاق الخبراء- التكنوقراط عندما قدموا سياسات التكييف الهيكلي، بل يعود للفساد المزمن لدى هذه الدول والتي تعدّ متخلفة جداً للتقيّد بالمعايير الدولية.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بات الفساد هو العقبة الأساسية في وجه تنمية العالم الثالث. بحلول 1993 تمّ اعتماد «مكافحة الفساد» بوصفه عنصراً أساسياً في سياسة التنمية الدولية من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة. أصبحت سياسة «مكافحة الفساد» مركزية ضمن شيء يُدعى الشفافية، وهي تعني: «الالتزام بمعاييرٍ تلائم مصالح رأس المال الدولي». أصبحت سهولة حركة الشركات متعددة الجنسيات وتنقل رأس المال التمويلي بحرية هي المسمار الأساس في سياسات الفساد. في الواقع أدّى هذا إلى عزل الموظفين العموميين عن الجماهير التي تحكمها وبالتالي التي عليها مراقبتها، وجعلها مسؤولة أكثر أمام المؤسسات الدولية التي تراقبها.
التكنوقراط والشعبويون
يمكن تقسيم السياسات التي تّدعي وقوفها ضدّ الفساد إلى نمطين أساسين كبيرين، وذلك بالاعتماد على ما إذا كانت «شعبوية» أم «تكنوقراطية- احترافية» في غالبها. التكنوقراط هو سِمة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي التي يتم الترويج له من خلال المؤسسات متعددة الأطراف، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو «المنظمات غير الحكومية» ذات التمويل الكبير مثل «الشفافية الدولية». أمّا «مكافحة الفساد» الشعبوية فهي نمط من السياسة التي تعتمد على الخلاص الوطني من بلاء الفساد عبر شخصية «مسيحانية- مخلصة» من خارج النظام سوف تقوم «بتنظيف السياسة».
تهدف سياسة «مكافحة الفساد» التكنوقراطية إلى تحويل السلطة من الناخبين إلى النخب المتحكمة. إنّها تضع معاييراً دولية بشأن ما يتم اعتباره «فساداً» وهو غالباً يتماشى مع البلدان المنفتحة على رأس المال الأجنبي. تم إظهار تدخل الدولة في الاقتصاد والإصلاحات التي تعيد توزيع الثروة ودول الرفاه، إمّا أنّها مطواعة ليتم السيطرة عليها من مصالح الفاسد، أو أنّها في بعض الأحيان فساد بحدّ عينها «تحديداً بالنسيبة لليبراليين الذين يعتبرون جميع أنواع الضرائب سرقة». نحتاج هنا للتفكير فقط في البيروقراطيات المتفاقمة وفي الروتين.
تنبثق مكافحة الفساد الشعبوية كاستجابة للأنظمة السياسية التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنّها عالقة في مستنقع الفساد الذي يلوّث كلّ سياسي بغض النظر عن أيديولوجيته. ويبدو شخصٌ خارجيّ غير ملوّث بلطخات المؤسسة واعداً في تنظيف النظام الفاسد الذي يسيطر على البلاد، حيث أنّه يقدّم سياسة افتداء خلاصية.
تتشارك السياسات الشعبوية والتكنوقراطية الدوافع غير الديمقراطية ذاتها. فالسياسات الشعبوية ترى بأنّ التغيير ضمن النظام الفاسد غير ممكن وهي بحاجة لشخص خارجي عن المؤسسة يمكنه أن يلعب دور المخلص، ويكون عادةً ضابطاً أو رجل أعمال ناجح. والسياسات التكنوقراطية ترى في الحشود الجماهيرية والنقاش الإيديولوجي حول السياسة أمراً غير شرعي وبالتالي سبباً للفساد.
تميل «مكافحة الفساد» الشعبوية إلى تفضيل القوى الرجعية، ويبدو ذلك جليّاً في السياق الحديث لبروز الأحزاب «اليمينية الشعبوية» التي ملأت الفراغ عقب انهيار «أحزاب يسار الوسط» كما حصل في «الجبهة الأمامية» في فرنسا أو «الليغا» في إيطاليا.
من المفارقة أنّه عند إزالة السياسة من الضوابط ومن المحاسبة الديمقراطية نصبح ضمن حلقة مفرغة، حيث تقودنا سياسة «مكافحة الفساد» إلى خيبة الأمل بالسياسة، وبالتالي إلى ازدهار الفساد. حيث يصبح المسؤولون الفاسدون بمنأى عن الاضطرار للخضوع للمحاسبة الجماهيرية، وتصبح سياسات الفساد في يد القطاع الخاص، وهو القطاع الذي لا مصلحة له أساساً في مكافحة الفساد الجوهري. تحوّل «مكافحة الفساد» الشعبوية النضال السياسي إلى مجرّد أخلاقيات بسيطة، وغالباً ما تنزع الشرعية عن النضال الجماهيري كوسيلة لتغيير حقيقي.
تجريم الديمقراطية الاجتماعية
بهدف إسقاط واقعي للإخفاق في سياسات «مكافحة الفساد»، فلدينا مثال يجدر التطرق له في البرازيل. فقد ساعدت الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للفساد ضدّ ديلما روسيف وحكومة حزب «العمال» في عام 2015 على حدوث انقلاب ناعم «برلماني» أعاد للوراء عقوداً من الحقوق الاجتماعية. تبع المظاهرات التحقيق التاريخي في فساد «لافا ياتو ،غسيل السيارة»، الذي قاد إلى سجن الرئيس السابق لولا دا سيلفا بأدلة واهية وورّط كامل الطبقة السياسية في البرازيل. لكنّ هدفه الحقيقي كمن في مكان آخر.
فبدعم من وسائل الإعلام البرازيلية التي يهيمن عليها ريدي غلوبو، تم تحويل لافا ياتو إلى حدث وطني مع عناوين يومية تركز على الملاحقات القضائية والتحقيقات مع قياديي حزب «العمال». تم تحويل بطل الرواية الرئيس في لافا ياتو، القاضي سيرجيو مورو، إلى نجم «مسيحاني- مخلص» لمكافحة الفساد.
خرج مئات البرازيليين من الطبقة الوسطى غالباً إلى الشوارع احتجاجاً على الفساد. لقد كانت الطبقة الوسطى العليا هي من قادت الاحتجاجات، حتّى لو ضمّت تلك الاحتجاجات أجزاءً من الطبقة العاملة وحتّى العمال المنظمين. تمّ دعم الاحتجاجات بحركات غامضة «لمكافحة الفساد» مثل «حركة الحرية البرازيلية MBL»، وذلك بتمويل من الأخوة كوتش والأموال المشبوهة والأموال المتدفقة من الأحزاب «اليمينية» الدولية.
وبهذا أصبحت «مكافحة الفساد» هي الصرخة الحاشدة لأعداء حزب «العمّال»، ولكن الذي بات ملحوظاً هو أنّه تمّ استخدامه كمصطلح جمعي لمعاداة السياسات الاجتماعية لحزب. فعلى الرغم من عدم تخلي الحزب أساساً عن السياسات النيوليبرالية، فقد اتخذ عندما كان في السلطة تدابير اجتماعية تاريخية في وقتها، مثل رفع الحدّ الأدنى للأجور وإعانات الرفاه وفرض نظام حصص على جامعات النخب للسماح للطلاب الأفقر بالدخول إليها.
حتّى هذه السياسات الاجتماعية «المعتدلة» تمّت مهاجمتها بأنّها تربك النظام الطبيعي المزعوم عن «الجدارة»، عبر مكافأة الفقراء الذي لا يستحقون هذه المكافأة. وعليه فقد أظهرت وسائل الإعلام «اليمينية» بأنّ الضمان الاجتماعي «رشاوى» يتم تقديمها للفقراء وللطبقة العاملة. تم استهداف محاولات التطوير الجديدة لتحفيز قطاع التصنيع المتعثر في البرازيل، وتشجيع قطاعات معينة مثل شركات المقاولات المملوكة للدولة، من قبل نشطاء «مكافحة الفساد». تم استغلال «لافا ياتو» لإظهار أنّ تدخل الدولة في الاقتصاد هو بحد ذاته نوعٌ من الفساد.
لقد كان الأثر أن يتم تجريم سياسات «الديمقراطية الاجتماعية» البسيطة واليسار عبر الخطاب الرجعي «لمكافحة الفساد». إنّ الرئيس التالي للانقلاب ميشيل تامر، وهو الذي يتمتع بأقلّ نسب قبول في التاريخ، مع حكومته ملوثون بفضائح الفساد، ورغم أنّه متورط بشكل كبير في «لافا ياتو» فهو لم يواجه المحاكمة. فتظاهرات «مكافحة الفساد» لم تستهدف سوى حزب «العمّال»، بينما بقيت جرائم حكومة تامر غير ذات أهمية بالنسبة للقوى ذاتها التي طالبت برأس ديلما.
الأخلاق والديمقراطية
على اليسار أن ينتقل إلى ما هو أبعد من الخطاب الأخلاقي السهل لمكافحة الفساد، خاصة إن كان جاداً بشأن السيطرة على السلطة. يواجه اليسار تحديات معينة في إقناع الناس العاديين، ليس فقط بأنّ النظام الموجود غير مرغوب به، بل كذلك في إمكانية تحويله بشكل جذري عبر القيام بعمل جماعي. إنّ لدى اليمين مهمة أسهل بكثير في هذا الخصوص لأنّ كلّ ما عليه هو أن يقنع الناس بالبقاء في منازلهم والسعي وراء مصالحهم الخاصة. إنّ كلا الفساد و«حركات مكافحة الفساد» يشكّلان خطراً هائلاً على اليسار، لأنّها تعيد توجيه تضاريس السياسة ضمن حلقة مفرغة، ولأنّها أيضاً تغذي مفارقة أكبر، هي أنّ السياسة ليست أكثر من أرض للبحث عن المصالح الخاصة.
على سياسات مكافحة الفساد التي يتبعها الجناح «اليساري» أن تحقق مهمتين أساسيتين. أولاً: عليها أن تسيس الفساد بطريقة ليست لا أخلاقية ولا تكنوقراطية. ثانياً: عليها التركيز على تقليص مصادر الفساد المنهجي: سطوة النخب واللامساواة. لا يمكن مكافحة مصادر الفساد النظامي إلّا عبر النضال السياسي لتحقيق إصلاحات ذات معنى بالترافق مع السياسات الاجتماعية القائمة على المساواة. على اليسار عند وصوله إلى المنصب أن يتجنب التعرّض لآليات الدولة المفسدة، ولهذا عليه البدء بتشكيل إرث مؤسساتي يمكن للحكومات اليسارية من بعده أن تبني عليه. يتطلب هذا الأمر إصلاحات سياسيّة ذات مغزى وإجراءات لإضعاف سطوة العدو داخل جهاز الدولة. لكنّ تطبيق مثل هذه التغييرات هو التحدي الأكبر الذي يجب على سياسات مكافحة الفساد اليسارية أن تواجهه. علينا أن نحارب الفساد ليس فقط ببساطة عبر تعزيز أخلاقنا العالية، بل عبر الكفاح لتوسيع الوصول إلى الديمقراطية نفسه.