إضاءة على اقتصاد الهند... نمو سريع وأجور زهيدة
يعتبر الاقتصاد الهندي ثاني أكبر اقتصاد نامٍ في العالم، ولكنه لا يزال يعاني من مشاكل في التوظيف ومن اللامساواة. نلقي الضوء في هذا المقال على سوق العمل الهندي، وبالتالي على تأثيره في الحياة السياسية والاجتماعية، وعلى البنية المتحولة للمجتمع والدولة الهندية التي تتقولب في الوقت الحالي تحت ضغط الظروف الدولية المتغيرة. خاصة وأنّ مسألة كالعمل وسوقه سوف تحوز القسط الأكبر من التركيز في الانتخابات العامة الهندية التي ستجري عام 2019.
روشان كيشور
تعريب وإعداد: عروة درويش
يوافق الجميع على أنّ توليد الوظائف هو التحدي الاقتصادي والسياسي الأكبر في الهند. وقد يكون أحد القضايا الرئيسة في الانتخابات البرلمانية لعام 2019. لكن لا يدرك الجميع التفاصيل الدقيقة الموجودة هنا. فمشكلة الوظائف في الهند ليست في عدم قدرة الناس على الحصول على عمل، بل هي في نقص الوظائف ذات الأجور الجيدة.
وظائف بأجور زهيدة
السبب الرئيس في ذلك، هو: عدم التطابق بين الدخل والتوظيف في مجال الزراعة. ففي حين أنّ حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي للهند قد تدنت، فلا تزال حصتها من التوظيف مستقرة بشكل نسبي. وقد كانت نتيجة ذلك انخفاض حصّة الدخل للعاملين في مجال الزراعة. لا تزال الزراعة توظّف أكثر من 40% من القوى العاملة الهندية، وبعد مضي 25 عاماً عليها لم تستطع الإصلاحات الاقتصادية أن تعالج اللامساواة الهيكلية الأكبر في سوق العمل الهندي. إن معدل نمو الزيادة في العمالة كان خُمس معدل زيادة الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1999- 2000 و2011- 2012، ويمكن رؤية مصطلح «نموّ بلا وظائف» المتداول في النقاشات العمالية الهندية الكبرى في هذه الإحصاءات.
هل يحل العمل الحر المشكلة؟
يتم عادة الإشارة إلى العمل الحر (أن يعمل المرء لحسابه الخاص) بوصفه حلاً لنقص الوظائف في الهند. ورغم أنّ الأمر قد يبدو مثيراً للسخرية فإنّ العمل الحر هو في حقيقة الأمر جزءٌ من المشكلة. فوفقاً لآخر الإحصاءات الرسمية الاقتصادية التي أجريت بين كانون الثاني 2013 ونيسان 2014، فإنّ وسطي الوظائف التي خلقتها المؤسسات الاقتصادية في الهند كان فقط 2,2، و30% منها فقط توظّف ستّة أشخاص فأكثر. وفي حين أنّه لا يجب استخدام هذه الأرقام للنفي المطلق لوجود قطّاع قوى عاملة رسمي، فإنّها تبيّن هيمنة قطّاع العمالة منخفض الأجور غير الرسمي والمثير للشفقة على الاقتصاد الهندي.
نشرت «منظمة العمل الدولية» تقريراً إحصائياً عن الأجور في الهند، يمنحنا سياقاً مفيداً لهذه الأرقام. فمن بين 402 مليون عامل في الهند هنالك فقط 74 مليون يملكون أعمالاً مأجورة منتظمة في عامي 2011- 2012. وهنالك 206 ملايين يعملون لحسابهم الخاص و121 مليون عامل مأجور يعملون في وظائف متقطعة.
وفي حين يمكن إرجاع الكثير من مشاكل العمل متدني الأجر في الهند إلى الافتقار لوجود ما يكفي من الوظائف ذات الأجور الجيدة، فنحن نتّجه ببطء، ولكن بثبات أيضاً نحو وضع يتزايد فيه الافتقار للعمال المؤهلين لشغل الوظائف ذات الأجر الجيد بوصفه عائقاً هاماً أيضاً.
الأتمتة والتعليم
من المرجح أن تفترس الابتكارات التكنولوجيّة والأتمتة المتزايدة (استبدال العمل البشري بالآلي) الكثير من الأعمال ذات المهارات المنخفضة نسبياً في القطّاع الرسمي. علينا أن نعزز مجموعة مهارات القوى العاملة لدينا بشكل كبير حتّى نتمكن من الحفاظ على الوتيرة الحالية من خلق الوظائف في الأيام القادمة. ففي الوقت الذي تظهر لنا الأرقام الرئيسة تحسناً في الالتحاق بالتعليم، فإنّ الإحصائيات تبيّن لنا بأنّ نتائج التعليم حتّى الابتدائي منه مخيبة للآمال بشكل كبير جدّاً.
فوفقاً لنتائج أحدث استبيان لنتائج التعليم عن عام 2016، فإنّ أقلّ من نصف طلبة الصف الثامن قادرون على إجراء عمليّة تقسيم بسيطة. تؤكد هذه الإحصائيات: أنّ التفاؤل بشأن قدرة الهند على استغلال المعرفة من أجل تخطي تحدي التوظيف لديها هو في غير محله. وأخيراً وليس آخراً، فإنّ المسألة تتعلق بقدرات خلق الوظائف في القطاع العام. يتم عادة ربط الإصلاحات الاقتصادية بخفض التوظيف في القطاع العام في الاقتصاد الهندي. لا يجب أن تكون هذه هي الحال عموماً وخصوصاً في الأنشطة التي تتناول توفير السلع العامّة.
إنّ لدى الهند عجزاً كبيراً في مجال التوفير العام للمرافق الاجتماعية، مثل: الصحة والتعليم، بل وحتّى في مجالات، مثل: الشرطة والعدل والتي لا يمكن بأيّة حال من الأحوال أن يتم إسنادها إلى القطاع الخاص. يمكن التوسّع في التوظيف في هذه القطاعات بسهولة إذا ما تمّت زيادة الإنفاق الحكومي.
الأجور وليست الفرص
إنّ نسب البطالة الهندية الرسمية قرابة 5% ليست هراءً لأنّ جميع من يريدون عملاً يجدون واحداً، لكنّ المشكلة في أنّهم لا يحصلون على الأجور التي يريدونها. إنّ الكثير من السياسيين لا يزالون عالقين في حديث الأمس عن الوظائف بدلاً من الاستماع بعناية لمتطلبات اليوم المتعلقة بالأجور.
كما أن الإنتاجية الوطنية متدنية، فقد استغرق الأمر 71 عاماً ليتخطى الناتج المحلي الإجمالي لـ 1,2 مليار هندي الناتج الإجمالي المحلي لـ 66 مليون بريطاني. تنتج 50% من العمالة الهندية فقط 13% من الناتج المحلي الإجمالي. كما أنّ 50% من العمل حر. فالفقراء لا يمكنهم أن يتحملوا أن يبقوا دون عمل، والكثير من شركات الهند البالغ عددها 63 مليون قابلة للحياة فقط عبر ما يسميه الاقتصادي الروسي تشايانوف «التوظيف- الذاتي».
التوظيف والعمل
إحدى الصعوبات التي تقف في وجه نقاش فاعل حول التوظيف في الهند هي: الميل إلى الخلط بين التوظيف والعمل. لكنّ التوظيف ليس إلّا ذلك الجزء المأجور من العمل، وفي الهند، فإنّ كميّة هائلة من العمل هي ليست مأجورة في الواقع وغالباً حتّى ليست منظمة اجتماعياً. ما أن ندرك ذلك فإنّ الكثير ممّا يبدو متعذر التعليل فيما يخصّ مشاكل التوظيف في الهند، سيصبح أسهل للفهم.
هذا صـحيح بشكل خاص فيما يخص عمل النساء، إنّ معدّل المشاركة في العمل للنساء الريفيات اللواتي يبلغن 15 عاماً فما فوق قد انخفضت من 35% في 1999- 2000 إلى 24% في 2011- 2012، في حين أنّ المعدّل بالنسبة للنساء المدنيات لم يتغيّر، وبقي عند المعدّل المتدني جداً 16,6%.
إنّ جميع الأعمال غير المأجورة تمنح مساعدات هائلة للاقتصاد المعترف به، وللقطّاع الرسمي الذي يعتمد بشكل مباشر وغير مباشر على الخدمات والبضائع التي يقدمها هؤلاء العمال غير المعترف بهم والعاملون دون مردود. ولأنّ هذه المساهمة غير معترف بها، فهي تجعل التصورات التي ترضي الذات عن زيادة إنتاجية العمالة الكليّة في الاقتصاد ممكنة، وهو الأمر المضلل بشكل تام. ويعني هذا طبعاً: أنّ صانعي السياسة العامّة سيستمرون بتجاهل الحاجة لتقليص وإعادة توزيع هذه العمالة غير المأجورة، وسيستمرون بالاعتقاد الخاطئ بأنّ نمو الناتج المحلي الإجمالي سيقوم ببساطة بتوليد ما يكفي من «الوظائف الجيدة» للجميع.
التمييز الاجتماعي
رغم أننا لا نملك إحصاءات دقيقة من «مكتب مسح العينات الوطني NSSO» بعد 2011- 2012، لكنّ الدلائل المتناقلة تشير إلى أنّ تحديات الوظائف في الهند قد تفاقمت خلال هذه الفترة. فالوتيرة البطيئة لخلق الوظائف تنعكس معاناتها الأسوأ على القوى العاملة. لكنّ هذه المعاناة ليست هي ذاتها بالنسبة لجميع العمّال. فالطبقات الأدنى الموجودة في قاع السلم الاجتماعي في الهند هي من بين أكثر المتضررين. ويزيد التمييز الاجتماعي والواقع الاقتصادي- الاجتماعي القائم من المساوئ التي تواجهها الطبقات الأدنى في سوق العمالة.
لا تملك الطبقات الأدنى أيّة أرض في الهند– وهي الأصول المنتجة الأكثر أهمية- وهذا يجعلهم أكثر اعتماداً على العمالة المأجورة. وفقاً لإحصاءات «مكتب مسح العينات الوطني» لعام 2011- 2012 فإنّ الطبقات الأدنى تشكّل 63% من العمالة المأجورة. إنّ هذا أعلى بكثير جداً من القيم الخاصة بالمجموعات الاجتماعية الأخرى. فقد كانت الأرقام 44% لبقيّة الطبقات المتدنية و42% للطبقات الأعلى و46% للبقية.
حتّى بين العاملين بأجر فإنّ الطبقات الأدنى تملك الحصّة الأكبر من العاملين غير الثابتين، الذين تتميّز أعمالهم كونهم دون أمن وذوي أجور متدنية. إنّ نسبة الطبقات الأدنى من الأعمال غير الثابتة هي 47% مقارنة بالثلث للطبقة المتدنية الأعلى وللبقية. في الواقع إنّ 32% من مجمل العمالة في الهند هم من الطبقات الأدنى، وهو ما يشكل ضعف نسبة 16% التي تشكّل حصتهم من السكان.
وتمتدّ المساوئ التي تواجهها الطبقات الأدنى إلى أبعد من اعتمادهم غير المتكافئ على العمل المأجور، فالطبقات الأدنى تواجه تمييزاً طبقياً عند التوظيف وهم يعانون من نسب بطالة أعلى من بقية السكان. وفقاً لإحصاءات «مكتب مسح العينات الوطني» فإنّ معدّل البطالة بين الطبقات الأدنى هو أعلى بنسبة 1,7% من المتوسط العام في الهند. لقد عانت الطبقات الأدنى من نسب البطالة الأعلى منذ التسعينيات.
حرمان الفقراء من حق العمل
تشير الأبحاث الاقتصادية إلى حقيقة: أنّه يتم التمييز ضدّ العمّال من الطبقات الأدنى عند التوظيف في القطاع الخاص. جادل الدكتور بيم أمبدكار عند إلغاء الطبقات في عام 1936 بأنّ القيود المفروضة على الطبقات الأدنى لتحتلّ وظيفة مخصصة للطبقات الأعلى سوف يقلل فرصها في التوظيف. تعاني الطبقات الأدنى- من إنكار حقها في الوصول إلى وظائف الطبقات الأعلى- من بطالة غير طوعية تبعاً للقيود على توظيفها. أمّا الطبقات العليا من ناحية أخرى فستمتنع عن العمل في وظائف غير مخصصة لها، وستواجه البطالة بشكل طوعي. ومع ذلك فمن المرجح أن يكون حجم البطالة غير الطوعية للطبقة الأدنى أكثر بكثير من البطالة الطوعية للطبقات الأعلى. ترينا البيانات بخصوص التوظيف هذه السمات في سوق العمالة الهندي. تظهر مسوح مكتب مسح العينات الوطني 2011- 2012 بأنّ الطبقات الأدنى يتم توظيفها لأيام عمل أقل بالمقارنة مع الطبقات الأعلى.
التمييز الطبقي في التوظيف
يعطينا مسح أولي أجرته مؤسسة «الدراسات الطبقية الهندية» بعض الأفكار حول طبيعة التمييز الطبقي في التوظيف. شمل المسح 1992 أسرة موزعة في ثمانين قرية على طول ولايات ماهاراشترا وتاميل نادو وهاريانا وأتار برادش عام 2013. أشارت الدراسة على 441 عاملاً زراعياً إلى أنّ 41% قد حرموا من العمل من قبل الطبقات الأعلى تبعاً للأحكام الطبقية المسبقة. ومن بين هؤلاء العمال حرم 76% من العمل في حصاد الحبوب و20% في جمع الخضار و12% في تجفيف الحبوب وتبريدها و11% في العمل المنزلي، بسبب الأحكام المسبقة المستندة إلى الطبقة.
وقد أعلن 71% من العمّال المأجورين من الطبقات الأدنى بأنّهم خسروا وسطياً 43 يوم عمل بسبب التمييز ضدهم في التوظيف. ويواجه العمّال غير الزراعيّين من الطبقات الأدنى تمييزاً مماثلاً. فمن بين 398 عاملاً غير زراعي أعلن 52% حرمانهم من العمل بسبب خلفيتهم الطبقية. وقد تركزت معظم القيود الطبقية على العمل في المجال المنزلي، مثل: الطهي في منازل الطبقات العليا، أو تقديم الطعام في المطاعم، أو العمل في بناء المعابد وتنظيم الاحتفالات الدينية والثقافية. كان متوسط الخسارة السنوية للعمالة من حيث عدد الأيام في سنة المسح حوالي 28.
وقد لحظت دراسة أجراها ثورات وأتويل في 2010 بأنّه من بين المتقدمين من الطبقات الأدنى ومن الطبقات الأعلى الذين يملكون المؤهلات ذاتها (حوالي 4800 من كلّ طبقة)، فإنّ المتقدمين من الطبقات الأدنى يملكون فرصاً أقل بنسبة 67% من أترابهم من الطبقات العليا في أن يتمّ استدعاؤهم لإجراء مقابلة. والأكثر إزعاجاً، هو: أنّ نسبة مئوية مرتفعة من غير المؤهلين المنتمين للطبقات العليا (غير الخريجين) يتلقون دعوات لإجراء مقابلات مقارنة مع المؤهلين أكثر، والمنتمين للطبقات الدنيا (الخريجين وأكثر). هنالك دراسات أخرى مثل التي أجراها الاقتصادي آشواتي ديسفانده قد لحظت التمييز الذي يواجهه المنتمون للطبقات الأدنى في التوظيف في المناطق المدنية.
ينجم عن التمييز ضدّ الطبقات الأدنى في التوظيف بطالة مرتفعة ومداخيل منخفضة وفقر كبير. مثال: في 2011- 2012 كان ثلث المنتمين إلى الطبقات الأدنى فقراء بالمقارنة مع 20% من الطبقات المتدنية الأخرى و9% من الطبقات العليا.
إنّ التمييز في التوظيف لا ينتج الفقر فقط بين المنتمين إلى الطبقات الأدنى، بل أيضاً يكبح النمو الاقتصادي في كامل الاقتصاد الخاص. تخبرنا النظرية الاقتصادية النموذجية: بأنّنا نحتاج كي نحصل على نموٍ أمثلٍ إلى حشد ممتاز للعمالة ورأس المال البشري. يؤدي التمييز على أساس الطبقة إلى سوق عمل مختل ومنفصم. يقلل هذا من الإنتاجية الإجمالية. يتطلب هذا سياسات إيجابية تدخلية تضمن عدم تعرض الطبقات الأدنى للتمييز عند التوظيف. كما أنّ السياسات الإيجابية مطلوبة لإزالة القيود على العمالة ورأس المال البشري من أجل تعزيز النمو الاقتصادي الأمثل.