التقارب الروسي التركي... الطاقة ومصالح أخرى؟
يعود تعميق العلاقات بين روسيا وتركيا إلى فترة ما قبل تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو التعميق الذي عبّر عن نفسه بتوقيع اتفاقية تعزيز العلاقات الاقتصادية في 15 آذار 1977، وهي المعاهدة التي ركزت بشكل رئيس على التعاون في تدعيم التطوير الصناعي ومسائل الطاقة. وقد ألحق بالاتفاق واحد آخر يُعنى بالتعاون التقني والعلمي. ولهذا فإنّ مسائل الطاقة قد حازت على أهميّة خاصة في المفاوضات القائمة بين الدولتين منذ ذلك الحين.
تعريب وإعداد: عروة درويش
رغم أنّ العلاقات بين الدولتين قد توترت في عدّة مناسبات تبعاً لقضايا جيوسياسية مختلفة، فلطالما شكّل الطرفان بالنسبة لبعضهما البعض أكثر من شريكين اقتصاديين مجردين. فقد تمّ في شباط 1986، وبالاستناد إلى اتفاقية مختلطة أنشأتها حكومتا البلدين في أيلول 1984، تمّ توقيع عقدٍ مع شركة «بوتاش» التركية لتسليمها قرابة 6 مليارات متر مكعب من الغاز لفترة 25 عاماً ما بين 1987 و2011.
التحول نحو أوراسيا كرؤية مشتركة
وقد تمّ تسليم تركيا أول شـحنة غاز من الاتحاد السوفييتي في حزيران 1987 عبر رومانيا وبلغاريا باستخدام خطّ الأنابيب «العابر للبلقان». لقد فتحت الاتفاقية في واقع الأمر باباً جديداً للعلاقات الروسية التركية في مجال الطاقة في المستقبل الذي بتنا نعيشه اليوم. ففي الوقت الحالي كلا البلدين راغب بشكل كبير في تعزيز تعاونهما في مجالات عدة من ضمنها الطاقة النووية. لقد وجد الاتجاه المتنامي في رغبة البلدين تعميق علاقتيهما في ما هو أبعد من الاقتصاد المجرّد تعبيراً له عام 1997 عندما أعلنت تركيا عن استراتيجيتها للأمن الوطني، والتي لم تعتبر فيها روسيا تهديداً لأمن البلاد.
إنّ التغييرات السياسية التي شهدها البلدان منذ منتصف التسعينيات يمكن وضعها في إطار واحد. فقد بدا الميل التركي «نحو أوراسيا» جلياً وواضـحاً فيما يتخطى العلاقات مع روسيا. وحتّى في روسيا، وبدءاً من تعيين بريماكوف كرئيس وزراء، ومن ثمّ وصول بوتين إلى السلطة كرئيس فقد بدا الميل واضحاً اتجاه مفهوم «التحول لأوراسيا».
في الوقت الحالي، وباعتبار أنّ إحدى أهم الأولويات الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية هي: «التحوّل لأوراسيا» كبديل عن «التوجه نحو أوروبا» سعياً لتمتين العلاقات مع القوى الكبرى في منطقة أوراسيا، من أمثال: الصين، والهند، وإيران، وتركيا، فإنّ روسيا ترى في تركيا نظيراً إقليمياً مهماً لها. فتركيا هي ثاني أكبر مستورد للغاز الروسي. وتبعاً لتحليلات المختصين فإنّ التعاون في المجال الاقتصادي بين البلدين، وخاصة في مجال الطاقة، سيدوم لوقت طويل تبعاً «للاعتماد المتبادل» للبلدين على بعضهما البعض، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار التوافق الحديث بين مصالح البلدين في بعض القضايا السياسية الهامّة.
التراجع الأمريكي والسلوك الأوروبي
إنْ نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر الممارسة السياسية، فإنّ علاقة كلا البلدين بالاتحاد الأوروبي معقدة بعض الشيء، وقد واجهتها العقبات عدّة مرات، تبعاً لتوترات سياسية مختلفة ولحالات مربكة. وعلى الطرف المقابل فقد أثبت الاتجاه نحو أوراسيا بأنّه يجمع كلّاً من روسيا وتركيا في جميع المجالات، ومن ضمنها طرق التعامل مع المكائد الجيوسياسية، ومع شركائهما الأوروبيين.
ويمكننا أن نأخذ مثالاً عن التقارب المستمر بين البلدين: موقفهما من الأزمة السورية. فبعد أن اتخذ كلّ بلد منهما موقفاً نقيضاً للآخر اتجاه الأزمة السورية، أدّى التقارب العام بينهما إلى الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 28 كانون الأول 2016، وهو الاتفاق الذي همّش أطرافه دور الغرب فيه، وخاصة أمريكا. إنّ وصول روسيا مع تركيا وإيران إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي لم تفعل الإدارة الأمريكية شيئاً يذكر للوصول إليه. ويمكننا أن نلمس أهمية الاتفاق بين روسيا وتركيا في سورية إذا ما تذكرنا بأنّها أدّت إلى توتير علاقتيهما بعد إسقاط الأتراك للطائرة الروسية S-24 على الحدود في 24 تشرين الثاني 2015.
وتستمر أرضية التعاون في المجال الاقتصادي، ومجال الطاقة بين البلدين، بمنحهما زخماً في التوافق على قضايا أخرى. ففي حين أنّ كلا البلدين غير قادرين بَعْد، على إيجاد الصيغة المناسبة للتفاهم مع جيرانهما في الاتحاد الأوروبي، فإنّ كليهما يعاني منه. فروسيا لديها مشكلة العقوبات الغربية المفروضة عليها، وتركيا عانت أثناء محاولة الانقلاب فيها في تموز 2016 من أنّ الاتحاد الأوروبي لم يمد يد المساعدة لتركيا أثناء الأزمة، بينما كانت روسيا أول من دعم تركيا أثناء الحادثة الدامية.
الموقف الروسي
من محاولة الانقلاب التركي
شكلت الفترة التالية لمحاولة الانقلاب في تركيا علامة فارقة جديدة في العلاقات التركية_ الروسية. فقد زار أردوغان روسيا، وعقد لقاء قرب بطرسبورغ في 9 آب 2016 توصل فيه مع الجانب الروسي إلى إزالة العقوبات الروسية التي فرضت بعد إسقاط الطائرة الروسية على الحدود التركية، كما وافق الجانبان على البدء بسرعة بعدّة مشاريع طاقة ضخمة، منها: محطّة طاقة نووية تبنيها روسيا في تركيا، وخطّ أنابيب الغاز الذي يصل البلدين، واللذين تقدّر تكلفتهما معاً بـ 18 مليار يورو.
والأمر فائق الأهمية بين البلدين هو: الاتفاق على إجراء التعاملات التجارية بين البلدين بالليرة التركية وبالروبل الروسي في المرحلة القادمة من تعاونهما الاقتصادي. ويبقى مجال الطاقة هو مجال التعاون الأهم بينهما، وفي الجدول في الأسفل النقاط الـ12 الأكثر أهمية، التي اتفق عليها البلدان أثناء تقارب بطرسبورغ.
وقد جمع بين قادة البلدين اجتماعين كبيران لاحقان لتوقيع تفاهمات حكومية أحدها في 14 تشرين الأول 2016 في إسطنبول، وآخر في 10 آذار 2017 في موسكو، حيث اعتبر كلا الاجتماعان هامين جداً ومثمرين جداً. وقد نجم عن اجتماع موسكو تثبيت خطوات عدة مرتبطة بمشروع «السيل التركي». فقد وضعوا الأسس العملية للسماح لنظام المدفوعات الوطني الروسي بالوجود في تركيا، وكنتيجة له فسيتم تنفيذ مشروع خطّ الأنابيب عبر بنك «دنيز» التركي. إضافة إلى ذلك توصل البلدان إلى اتفاقات عملية لبضعة بنود من تقارب بطرسبورغ، منها: إزالة العقوبات بشكل تدريجي وإنشاء المحطة النووية بتكلفة 20 مليار دولار واتفاقات سياحية وثقافية.
الطاقة بوصفها مجال التعاون الأهم
لقد اتفق البلدان فيما يخص خط الأنابيب على أن تكون أسعار الغاز في المرحلة الأولى متفقاً عليها ومقبولة، ووعدت روسيا بأن تخفض أسعار الغاز في المرحلة الثانية من الضخ عبر «السيل التركي». ولن يكون الغاز مخصصاً للاستهلاك التركي بل ستكون تركيا هي دولة ترانزيت لشحن الغاز إلى أوروبا. لقد أعلن بوتين خلال مؤتمر الطاقة الدولي: أنّ روسيا تزود أوروبا بالغاز منذ خمسين عاماً، وبأنّها ستستمر بذلك عبر «السيل الشمالي 2» وعبر «السيل التركي» بشكل أكثر أمناً وملاءمَة.
ولكي نحلل التأثيرات التي سيحملها خطّ أنابيب «السيل التركي» على كلٍ من روسيا وتركيا بشكل صحيح، علينا أن نبدأ وقبل كلّ شيء من العلاقات بين البلدين في مجال الطاقة بعد اتفاقية إسطنبول الموقعة في تشرين الأول 2016. فوفقاً «لاتفاقية إسطنبول للغاز» سيتم الانتهاء من إنشاء خطي أنابيب بحلول كانون الأول 2019 بكلفة تقديرية 6 مليارات دولار، حيث سيكون الخطّ الأول مخصصاً لتوريد الغاز إلى تركيا، والثاني كخطّ ترانزيت يزود الاتحاد الأوربي بالغاز. ووفقاً للاتفاق ستمنح تركيا إعفاءات ضريبية خاصة لاستيراد الآليات والمعدات وغيرها من المواد الضرورية من روسيا إلى تركيا. كما قام الجانب التركي بإزالة الضرائب عن عائدات نقل الغاز.
ستبني تركيا وتملك الخطّ الأول على أرضها، بينما ستكون ملكية الخطّ الثاني الواصل إلى الحدود التركية اليونانية مشتركة بين «غازبروم» و«بوتاش». وستموّل روسيا المرحلة الأولى من المشروع. ويذكر بأنّ بناء الخطوط الأربعة للمشروع سيكلف 11,4 مليار يورو، وهو نصف تكلفة «السيل الجنوبي» الذي كان من المقرر أن يصل بين روسيا وبلغاريا والذي كانت تكلفته 23,5 مليار يورو.
لم تسمح روسيا للعوائق التنظيمية أو التمويلية بإعاقة المشروع، فهي تسعى بأيّ شكل لتنويع خطوط الشحن لديها. ولهذا يحرص البلدان على أن يكون «السيل التركي» مغرياً جداً لكل من روسيا وتركيا. إنّ الشهية التركية للغاز تتزايد ضمن نسب لا تنزل تحتها، وستكون بحاجة لتلبية احتياجاتها من الغاز بطريقة فاعلة. ولهذا فإنّ «السيل التركي» يُعدّ صفقة ممتازة بين موسكو وأنقرة.
الطموح الجيوسياسي التركي
من جهة أخرى، ثمة سؤال يدور في أذهان البعض: ماذا لو قررت تركيا واستطاعت التقليل من استهلاكها للغاز في العقود القادمة، فما الفائدة التي ستجنيها تركيا عندها من «السيل التركي»؟ إنّ ما ستجنيه هو أن تصبح عقدة وصل لتوريد الغاز إلى أوروبا من روسيا عبر البحر الأسود. يريد الاتحاد الأوروبي من تركيا أن تشرّع أسواق الغاز لديها بما يلائم شروطه وينزع الاحتكار عن أسعار الغاز الذي يتمّ تسليمه إلى الاتحاد. وليست هذه الشروط صعبة التحقيق للوصول إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي من وجهة نظر تركية، فهي يمكنها عبر جدول زمني ملائم أن تقونن وتتبنى القواعد والأطر القانونية للطاقة المطلوبة في أوروبا.
لكن إن أرادت أوروبا من روسيا وتركيا أن يوائما تشريعاتهما ووضعيهما بما يناسب قواعد وقوانين الطاقة في الاتحاد الأوروبي، فهذا سيفرض عند تقدمه أن تأخذ موقفاً أكثر منطقية تجاه كل من تركيا وروسيا من أجل الوصول معهما إلى شراكة طاقة فاعلة. خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ أوروبا لا تملك بديلاً فاعلاً للغاز الروسي ليلبي احتياجاتها المتزايدة منه في المستقبل. فالواقع الإحصائي يقول: أنّ دول جنوب ووسط أوروبا تعتمد على روسيا لتزويدها بالغاز بنسب تتراوح ما بين 60% إلى 98%. فرغم أنّ بعض دول أوروبا (مثل النرويج) تنتج موارد طاقة لبقيّة دول أوروبا، إلّا أنّها غير كافية لتلبية احتياجات أوروبا من الطاقة المتزايدة. ولهذا ومن جديد فإن الاتحاد الأوروبي مضطرّ لتغيير طريقة تعامله مع روسيا. ويبدو بأنّ دول الاتحاد تستوعب الآن مسألة وجوب تغيير موقفها في مجالات الطاقة.
ومن ناحية ديناميكية العلاقات في مجال الطاقة بين تركيا وروسيا وفتحها للكثير من الأبواب والمجالات الأخرى، فيمكننا القول: أنّ هذه الصفقات الناجحة ستستمر في العقود التالية على قدم وساق. فكلا البلدين بحاجة إلى بعضهما البعض في السياحة والتجارة والاقتصاد إضافة للطاقة. وكلا البلدين يثمنان أيّة فرصة للمزيد من التعاون مع أوروبا وخرطها في هذه المشاريع، فانضمام الاتحاد الأوروبي إلى «السيل الشمالي» إن تحقق سيحمل النفع الكثير لجميع الأطراف.
هنالك مصطلح يسمّى «التوازن الصحّي» ويمكننا إن طبقناه على العلاقات التركية_ الروسية في مجال الطاقة، أن نخرج بنتيجة منطقية. «فالتوازن الصحّي» يكون موجوداً إذا كانت دولة ما تدرك نوايا ومصالح وتوازنات دولة أخرى بشكل صحيح. فإن طبقنا «التوازن الصحّي» على العلاقات التركية_ الروسية فيمكننا أن نرى بأنّ كليهما يدرك بشكل ممتاز مصالح وأهداف الدولة الأخرى.
إنّ مثل هذا الإدراك والفهم يمكنه أن يحافظ على توازن القوّة، وأن يسهم في ضمان أمنهما الداخلي والخارجي في المنطقة. وعليه يمكننا أن نطلق على علاقتهما وصف هادفة، وتخدم مصالح وأهداف كلّ طرف بما لا يتناقض مع أهداف ومصالح الطرف المقابل.
من التنافس إلى التكامل
أعلن الرئيس الروسي بوتين مرّة: «لا تملك الدول علاقات صداقة ثابتة، بل تملك الدول علاقات مصالح وطموحات ثابتة». لقد شهدت العقود الأخيرة سمة التنافس في المصالح، ويبدو أن الحقبة الجديدة يمكن أن تتخطى هذه السمة لتحلّ محلها سمة التكامل. فإن سلمنا بأنّ مصالح تركيا تتضمن تلبية احتياجاتها المتزايدة من الغاز، وطموحها في أن تكون محور طاقة ودولة شحن بين الشرق والغرب، وإن سلمنا بأنّ طموح روسيا، هو: أن تحتل المرتبة الأكبر في سوق الطاقة الإقليمي، الأوروبي، والأوراسي، فسنرى بأنّ هذه الحوافز ستجبر الدولتين على اعتماد مقاربات بنّاءة في علاقتيهما بالمقارنة مع العلاقات السابقة التي سادها التوتر في جزء كبير منها. إنّ لدى الدولتين الحافز للتعاون في جميع المجالات دون أيّ استثناء، بدءاً من الطاقة ومروراً بكامل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ووصولاً إلى مسائل الأمن الوطني والإقليمي للدولتين. إنّ الطريق معبد كي تتحول روسيا وتركيا إلى شريكين استراتيجيين وأن تصبحا ما يطلق عليه اصطلاحاً «الزملاء الودودون» داخل النظام الدولي.