الصين الماوية وبناء الاشتراكية... إرثُ الصين العظيم (3)
فريد إنغست فريد إنغست

الصين الماوية وبناء الاشتراكية... إرثُ الصين العظيم (3)

اعتاد الناقدون الغربيون على توجيه اتهامات عدة للنهج الماوي في الصين، من بينها: أنّه سيّس الناس بإفراط، مما أدّى إلى التقويض المستمر للاستقرار. وللوقوف على حقيقة تلك المرحلة، نقدم فيما يلي الجزء الثالث والأخير، من حوارٍ أجراه أونوركان أولكر، مع فريد إنغست، الذي قضى الكثير من وقته في الصين الماوية. يناقض إنغست بشدة الانتقادات السائدة لماو، ويقدم رؤىً هامةً حول بناء الاشتراكية في الصين.

تعريب وإعداد: عروة درويش
عليك أن تفكّ ارتباطك أولاً كي تحظى بتنمية اقتصادية محليّة أصيلة. الاشتراكية هي الطريقة الوحيدة لفعل ذلك. لو تمّ الانفتاح منذ عام 1949، لما كانت الصين لتختلف اليوم كثيراً عن الفلبين. ولم تكن لتصبح أفضل من الهند. يفترض بأنّ الاقتصاد الهندي ينمو، لكنّه لا يملك أيّة قوة تحفظ له نموه. أمّا نجاح الصين الاقتصادي النسبي بعد «الإصلاح»، مقارنة ببقيّة دول العالم الثالث، يعود للسيادة.
دور الدولة في ضبط الاقتصاد
لقد حظيت الصين بقاعدةٍ صناعية، وتم تحديد القطاعات التي سمح فيها للشركات متعددة الجنسيات بالعمل فيها. لم تسمح الحكومة الصينية للشركات متعددة الجنسيات بالاقتراب من بعض القطاعات على الإطلاق، مثل: الطاقة والنقل والتمويل. وفي بعض القطاعات الأخرى، مثل: صناعة الآليات، سمحت لهم فقط بالدخول كقطاع مشترك. لم ترد الشركات الأجنبية أن تدخل في شراكة مع الدولة، بشركات قطاع مشترك، بل فضلت أن تنشئ شركاتها الخاصة التابعة لها، لكنّ الصين قالت: «هذه هي الشروط، فاقبلوا أو غادروا. إن أردتم العمل عندنا فيجب أن نكون شركاؤكم».
لكن لو بدأت الصين الشراكة منذ عام 1949، فما الذي كانت لتحققه؟ لم يكن لديها أيّ شيء في حينه. في الوقت الذي غادرت فيه الصين عام 1974، كانت كلّ منطقة في البلاد قادرة على صناعة الجرارات والشاحنات. لم تكن نوعيتها جيدة جداً، وكان عليهم أن يرسلوا مع كلّ شاحنة يبيعونها تقنياً لتصليحها. لكن رغم ذلك، كان لديهم شاحنات، وطالما أنّك تملكها فبإمكانك أن تحسنها. أمّا إن لم تملك أيّة شاحنات، فلن يكون لديك أيّ شيء تعمل عليه. عندما جاءت الشركات متعددة الجنسيات، أخبرهم الصينيون عن الشراكة، وقالوا لهم: «يمكننا أن نصنع الجسد، ويمكننا أن نصنع الإطارات، ويمكننا أن نصنع المقاعد، لكننا بحاجة محركاتكم وناقلات الحركة لديكم». هكذا عملت الشركات المشتركة.
لذلك، فإنّ امتلاك الصين لقاعدة اقتصادية محلية متكاملة، كانت هي المفتاح لإعادة الانطلاق في العالم الرأسمالي، ولأن تصبح قوّة صناعية ناشئة. في دول العالم الثالث التي لم تحظ بمثل ما حظيت به الصين، دمرت السياسات النيوليبرالية هذه الدول. ليس هنالك بلد تبنّى السياسات النيوليبرالية بالحماس الذي تمتعت به الفلبين، واليوم ليس لديها أيّ شيء تفخر بإنجازه. لا شيء على الإطلاق، وهو أمر محزن. ليس بإمكان الفلبين اليوم أن تصنع أي شيء، لا كماشة ورق ولا مسامير حتّى، بل مجرّد أشياء بدائية غبيّة. والموجود في أسواقهم الآن هو منتجات الشركات متعددة الجنسيات، أو بضائع رخيصة من الصين.
أنت تقول بأنّ الصين لا تزال تتمتّع بنوع من السيادة بفضل إرث حقبة ماو، إذاً كيف تقيّم دور الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين اليوم؟
يلعب الاستثمار الأجنبي المباشر دوراً ما في الصين، لكنّ معظم الباحثين يبالغون في هذا الدور. إنّ الذي تفعله الصين في الواقع هو سرقة التكنولوجيا، فالصين تحقق مزايا هائلة من قدرتها على قرصنة التكنولوجيا. لكنّ السبب الذي جعل الصين تنمو بشكل أسرع من بقيّة دول العالم الثالث، هو: استخدامها لقوّة قاعدتها السياديّة، في الاقتصاد والسياسة والجيش، من أجل تضييق الهوّة التكنولوجيّة والابتكار بشكل سريع. يمكنك تحقيق قفزات، ويمكنك أن تأخذ طرقاً مختصرة: فبدلاً من البدء من الهواتف الأرضية، يمكنك الانطلاق فوراً إلى الخلوي. وبدلاً من البدء بأجهزة تشغيل أشرطة الفيديو، يمكنك أن تذهب مباشرة إلى أجهزة الدي في دي والسي دي. حتّى صناعة السينما الصينيّة تعتمد بشكل كلي على قرصنة أفلام هوليود اليوم.
دعني أوضّح ما أعنيه ببعض الأمثلة: أتت ماكدونالدز في البدء، فتعلّم الصينيون منها، وباتت صناعة الوجبات السريعة الصينيّة تتفوّق على ماكدونالدز. أو مثل شركة الشحن فيدكس، والتي باتت شركات الشحن السريع الصينيّة تهزمها بكل سهولة. هنالك أمثلة لا تنتهي، لكنّ الأمر الأساس هنا، والذي جعل مثل هذه الأمثلة ممكنة، هو: أنّك تملك السيطرة السياديّة على القطاعات الرئيسة في بلادك.
وماذا عن التناقضات المحليّة، مثل: التناقض المعيق الناجم عن تسليع العمالة في حقبة ما بعد ماو؟ هل تشكّل ظروف حياة وعمل العمّال في الصين اليوم، وخاصة العمّال المهاجرون، تهديداً على استدامة هذا النموذج الاقتصادي؟
هنا أيضاً مكاسب هائلة تعود لحقبة ماو، يميل الباحثون للتغاضي عنها. إنّهم لا يعلمون ما هو العامل الرئيس في العمالة الرخيصة في الصين. إنّهم يقولون: أنّ الأمر عائد لحجم القوى العاملة، أو يقولون: أنّه عائد لبنية السكان المائلة إلى الشباب. لكننا نملك المقومات ذاتها في دول العالم الثالث الأخرى أيضاً، فكيف إذاً تتمتع الصين بقوى عاملة زهيدة الثمن، بينما لا تتمكن بلدان أخرى لديها عمالة زهيدة جداً من استغلالها؟ إنّه أمر مثير للسخرية أنّ باحثي الاتجاه السائد ووسائل الإعلام في الغرب ليس لديهم ما يشرح هذه الحقيقة.
لقد كان هذا الأمر محيّراً بالنسبة لي أيضاً، وذلك حتّى زرت الفلبين. ذهبت هناك ثلاث مرّات، وتحدثت إلى الناس، وحاولت فهم الوقائع الاجتماعية لذاك البلد. عندما قارنت بين الفلبين والصين، رأيت أنّ ما يميّز الصين هو إرث إصلاح الأراضي. منح إصلاح الأراضي الفلاحين جزءاً من الأراضي، وكان هذا هو العامل الرئيس في العمالة الزهيدة في الصين. إن قارنت اليوم ما بين الحدّ الأدنى للأجر الرسمي في الصين، والحدّ الأدنى للأجر الرسمي في الفلبين على سبيل المثال، فلن ترى فرقاً كبيراً. يعيش الكثيرون في الفلبين على الحدّ الأدنى للأجور، وهم يعيشون في الفقر، بينما العمّال الصينيون الذين يعيشون بالأجر ذاته تقريباً حالهم أفضل بكثير.
السبب في ذلك أنّه في الأماكن مثل الفلبين، تمّ إجبار الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً على الخروج من الريف، فذهبوا إلى المدن وبدأوا يعيشون على الحدّ الأدنى للأجور، ويعتمدون عليه من أجل إعالة كامل أسرهم. عليهم أن يعتمدوا على هذا الأجر من أجل إعالة الصغار والكبار. لكنّ عوائل العمّال الصينيين المهاجرين، أي المزارعين الذي جاؤوا إلى المدينة لكسب عيشهم، لا يعتمدون على الأجور بشكل كلي، فهم يملكون أراضٍ في قراهم.
إنّ تربية الصغار والاعتناء بكبار السن في الريف لا يكلف شيئاً تقريباً، وهذا يعني أنّ عمليّة إعادة تجديد الطبقة العاملة التي تتم في الريف، يمكن أن تخفّض التكاليف بشكل كبير. بينما إن انتقلت إلى المراكز المدنية بوصفك فلاح لا أرض له، فستكون تكاليف السكن ومدارس الشباب والعناية بكبار السن...الخ أكبر بكثير. لا يزال الناس الذين في الستين والسبعين والثمانين من عمرهم في الريف الصيني، يعملون في حقولهم وحدائقهم. إنّهم يعتمدون على ذاتهم، فهم يملكون منازلهم الخاصة، وأراضيهم الخاصة. وحتّى عندما لا يستطيعون العمل، فهم يعينون أحدهم ويقومون بإدارة عمليات حرث وبذر وحصد الأرض لصالحهم، ولهذا فإنّ كبار السن ليسوا عبئاً على الشباب. هذا هو العامل الرئيسي لفهم سبب العمالة الزهيدة في الصين، والذي جعل هذا الأمر ممكناً هو: الثورة الصينيّة عام 1949. لولا تلك الأساسات، لما حظيت الصين بهذا النوع من العمالة الزهيدة، وهذا ما يفشل الباحثون الرأسماليون بإدراكه أو يتجنبون ذكره.
السبب الذي يدفع بأجور العمالة في الصين إلى الارتفاع اليوم، هو تحديداً: عمليات التمدين. تقوم الحكومات المحلية وسماسرة العقارات بإجبار المزارعين على الخروج من أراضيهم، من أجل بناء مناطق صناعية. وما أن تجبر الفلاحين على الخروج من أراضيهم إلى المدينة، يصبح واجباً عليك أن ترفع أجورهم كي يتمكنوا من النجاة وتجديد أنفسهم. هذه هي المفارقة في الرأسمالية، وهذا ما يجعلني متأكداً من أنّ الماركسيين وحدهم قادرون على فهم الرأسمالية. فالباحثون الرأسماليون والاقتصاديون الرأسماليون غير قادرين على فهمها.
دعني أسألك عن هذا. في الصين الماويّة، كانت جميع الخدمات الاجتماعية الرئيسة مجانية أو بأسعار رمزيّة، وذلك بفضل نظام «وعاء الأرز الحديدي» في المراكز المدينيّة ونظام التعاونيات الشعبية في الأرياف. لكن يتم اليوم انتقاد هذه السياسة من بعض المدافعين عن «الإصلاح» وباحثي الاتجاه السائد، الذين يدعون بأنّ نوعية هذه الخدمات كانت متدنية جداً في ذلك الحين. كيف كانت نوعيّة الخدمات الاجتماعية في الصين الماويّة؟ هل قامت حقّاً بتحسين معايير حياة الشعب الصيني؟
دعني أجري تصحيحاً بسيطاً على كلامك هنا: لم يكن كلّ شيء بالمجان. كان هنالك بعض الخدمات مخصصة لقاطني المدن دون سكان الأرياف. بعضها كان بالمجان، وبعضها كان بأسعار مخفضة. مثال: لم تكن المنازل مجانية بالكامل. كان عليك أن تدفع أجوراً رمزية مقابلها. التعليم: كان بعضه مجانياً وبعضه لا، فكان عليك أن تدفع مقابل الكتب، لكنّ أثمانها زهيدة جداً. هذا أحد الأسباب في أنّ أرقام الناتج المحلي الإجمالي في حقبة ماو، التي تمّت إعادة حسابها فيما بعد، كانت منخفضة. لو أنّ الخدمات مجانية، فلم يكن بالإمكان حساب الناتج المحلي الإجمالي، فعندها لن يكون هنالك تبادل سلع.
ونعم، ربّما لم تكن نوعية الخدمات المقدمة جيدة بقدر اليوم. لكن إن كانت معاييرك مقرونة بالمتاح، فإنّ المكاسب من ذلك النظام هائلة. مثال: تمّ في الريف إنشاء نظام يدعى «الأطباء الحفاة»، وهنالك اعتراف عالمي بكونها خدمة اجتماعية ناجحة. حتّى أنّ منظمة الصحّة العالمية قد أوصت بقيّة دول العالم الثالث باتباعه.
يخطر في بالي سؤال: كما تعلم، لطالما اتهمت الأوساط الأكاديميّة الغربية ماو بأنّه ديكتاتور دموي، قام طواعية بذبح ملايين الصينيين في سبيل تحقيق أهدافه المثاليّة الطوباوية. ويلجؤون عادة من أجل تبرير هذا الاتهام إلى «المجاعة الكبرى» التي تلت حملة «القفزة الكبرى للأمام». ما هو رأيك بهذا الادعاء؟ هل كان ماو حقّاً شخصاً «مثالياً»؟
لا أعلم حقيقة ما الذي يعنونه بكلمة «مثالي». عندما لا تصدّق أحدهم، تتهمه بكونه «مجنون» أو «مثالي». ليس هنالك معيار موضوعي لهذا الأمر. كيف يمكنك تعريف «المثالي»؟ الماركسيّة مجرّد شيء «مثالي» برأيهم. لذلك هذا ليس أكثر من نعت.
أمّا بخصوص «ذبح ماو للشعب»، فهذا الادعاء مُنافٍ للواقع بشكل كلي، وهنالك الكثير من الأمثلة على ذلك. فأثناء الصراع الداخلي في الحزب، لم يرد ماو أن يعدم أيّ أحد، وذلك عكس رغبة ونوايا كثيرين غيره. كان ماو أحد قلّة شددوا على فكرة: «احبسهم، لكن لا تعدمهم. ففي حال كنت على خطأ، فلن تجد وسيلة للعودة». كلّ ما يقوله باحثو الاتجاه السائد، من أنّ ماو قتل الناس هي مجرّد ادعاءات فارغة. فليس هنالك أيّ شيء يشير إلى علاقة ماو أو أوامره بقتل أيّ أحد، سواء في الحزب أو بالاغتيالات السريّة.
الشيء الوحيد الذي يمكن لوم سياسات ماو عليه هو: فترة «السنوات الصعاب الثلاث». فالسبب الذي مات الناس فيه في ذلك الحين هو المجاعة. لكن إن قمنا بالبحث أعمق، فسنجد أنّ هذا السبب بالذات، هو الذي دفع ماو إلى تسمية بعض الأشخاص «باتباع الطريق الرأسمالي». حذّر ماو الشعب من هذا النوع من الكوارث قبل حصولها. كان هذا جزءاً من الصراع الشديد بين الرأسماليّة والاشتراكية في الصين. لم يهتم الرأسماليون إن مات الناس طالما كانوا قادرين على الدفاع عن مصالحهم. كان هنالك بعضٌ من هؤلاء الناس في الحزب، وفي مراكز قيادية. لم يهتموا بموت الناس طالما هم قادرين على الدفاع عن مراكزهم ومناصبهم. لقد حدثت «السنوات الصعاب الثلاث» تحديداً بسبب أولئك الناس الذين أرادوا اتباع الطريق الرأسمالي.
السؤال الأخير: ما هو إرث الماويّة عموماً، والثورة الثقافية خصوصاً. وكيف نستفيد منها بعد أكثر من 40 عاماً على رحيل ماو؟
إرث ماو... هذا أمر مذهل. عندما يثور الشعب في أيّ مكان في العالم من أجل خلع النظام القديم، فجميعهم سيواجهون المشكلة ذاتها: كيف نمنع تحوّل الثوريين إلى قامعين جدد؟ دون فهم حقبة ماو وخاصة الثورة الثقافية، ودون فهم محاولات ماو لتخطي هذه المشكلة، فستستمر دورة الثورة والثورة المضادة ذاتها.
بعد كومونة باريس، لخّص ماركس الدرس. قال: أنّه لا يكفي أن تسيطر البروليتاريا على السلطة، بل عليهم أن يسحقوا آلة الدولة القديمة ليبنوا واحدة جديدة. لكن حتّى ماركس لم يكن واضحاً بشأن الدور المحدد للطبقة العاملة، بعد أن تستحوذ على السلطة، فذلك لم يكن الوقت المناسب. أدرك لينين بعد سنين طوال من التأمل، أنّه لا يمكن حشد جزء كبير ومؤثر من الطبقة العاملة، إلّا عن طريق حزب مكوّن من طليعة منضبطة جدّاً تقوم بتلك المهمة، ويمكنه أن يخلع الرأسماليين المهيمنين على المجتمع اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً. تمّ تشكيل الحزب الشيوعي بعد أربعة أعوام على قيام ثورة أكتوبر، أي بعد عامين فقط من انتفاضة الصينيين عام 1919 أثناء حركة الرابع من أيار. لم يكن عليهم حينها أن يبحثوا عن طريقة، فقد كانت التجربة ماثلة أمامهم. ولهذا فإنّ مساهمة لينين قصّرت أمد الثورة الصينيّة لسنوات كثيرة. ومساهمة الثورة الثقافية لها المفعول ذاته، فعندما تثور الطبقة العاملة وتسيطر على السلطة، فليس هنالك داعٍ للبدء من جديد. سيعلمون عندها كيف يمنعون حصول الأخطاء ذاتها التي ارتكبها غيرهم من الثوار. وتحديداً في هذه الحالة، كيف يمنعون تطور نمو نظام الامتيازات البيروقراطية، وكيف يصرّون على الإشراف الجماهيري على طليعة الحزب.
العلاقة بين طليعة الحزب، والإشراف الجماهيري، هي: تناقض كبير في ظلّ الاشتراكية، تناقض لا يمكنك أن تتجاهله بكلّ بساطة. جميع المنظرين الاشتراكيين فشلوا في التعامل مع هذه المسألة، وليس ماو فقط. كان أتباع النهج الرأسمالي قابعين أمام ستالين، ولكنّه فشل كذلك في إنهائهم. اعتمد على حدسه وعلى نفسه فقط، ربّما ارتكب ستالين الكثير من الأخطاء عندها، لكنّه كان يعمل لخدمة الطبقة العاملة، ولم يسمح بإعادة الرأسمالية. ولهذا تعدّ أخطاؤه مثل أخطاء ماو، وأخطاء ماو مثل غيره من الكثيرين من كوادر الحزب الشيوعي الصيني. إن بحثنا عن حل لدى بعض الأجنحة اليسارية الأخرى، فسنجدهم غير قادرين على فهم المشكلة كلياً. فالتروتسكيون والديمقراطيون الاشتراكيون مثلاً، يستمرون في تجاهل الحاجة لحزب طليعي، ويستمرون بترديد الأحاديث المكررة ذاتها عن ديمقراطية على شكل «كونغرس عمالي» ... الخ. لكنّهم لا يقولون لنا ما الذي يجب فعله عندما تتضارب آراء العمّال. هذا ما أقوله دوماً للتروتسكيين الصينيين.
لقد ساهم ماركس في العديد من المجالات. لقد كان ماو مثل ماركس، مجرباً يعدّل نظريته بعد كلّ تجربة. ومثلما لم يدرس ماركس بهدف الدراسة فقط، فقد ساهم ماو ليس عبر نظرياته فقط، بل عبر الممارسات الثورية. لقد آمن بأنّ النظرية يمكن تصحيحها عبر الممارسة فقط، ولهذا عمل بشكل دائم على طرق جديدة للفهم. لم يكن لديه نظرة

إنجازات وحقائق موضوعية
لقد صنعت السياسات التي تمّ اتباعها في حقبة ماو فارقاً حقيقياً. ارتفعت معدلات الحياة بشكل هائل في الصين. كانت هذه الزيادة في معدلات الحياة هي الأسرع في دول العالم أجمع، وليس في دول العالم الثالث وحسب. وحتى خلال أسوأ مرحلة في حقبة ماو، أي خلال «السنوات الثلاث الصعبة»، كانت أعلى معدلات للموت هي 2,5%. وعند المقارنة، تعدّ هذه النسبة هي النسبة «الطبيعيّة» في الهند. عليك أن تكذب بشكل كبير حتّى تتمكن من انتقاد حقبة ماو. لقد كانت حقبة مذهلة. في الواقع عندما ننحاز لتأثيرات مصالحنا، فهذا لا يعني عدم وجود حقيقة موضوعيّة يمكننا رؤيتها. فإن نظرنا إلى المدافعين عن الرأسمالية، أمثال: ميلتون فريدمان، يذهلنا شغفهم «بالنمور الآسيوية». الشغف الذي يبتغون منه أن يقنعونا بأنّ الرأسمالية متفوقة على الاشتراكية. باستطاعة هؤلاء أن يتجاهلوا كليّة تجربة الاتحاد السوفييتي. إنّهم يقومون ببساطة بانتقاء الأمثلة التي تدعم وجهة نظرهم.دوغمائية. وإن قمنا بقراءة نظرية ماو بشكل ميكانيكي وليس بشكل ديالكتيكي، فهذا خطؤنا وليس خطأه.