لإحياء الشعار اليساري القديم: لا واشنطن ولا بروكسل..!
دانييل فين دانييل فين

لإحياء الشعار اليساري القديم: لا واشنطن ولا بروكسل..!

صوّت البرلمان البريطاني الأسبوع الماضي، على تفعيل المادة «50» التي تشكّل خطوةً أولى على طريق الانسحاب من الاتحاد الأوربي. وكما هو متوقع، فقد استُقبلت هذه الخطوة بالغضب ممّن صوّتوا ضدّ «بريكست/ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي» في استفتاء العام الماضي. وبشكل أقلّ توقعاً على الأرجح، تمّ توجيه معظم هذا الغضب نحو حزب العمّال ورئيسه، جيرمي كوربين، بدلاً من توجيهه ناحية الممثلين السياسيين المسؤولين حقّاً عن إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. 

 

تعريب: عروة درويش

إن كنا لسنا في صدد تأكيد «يسارية» حزب العمال التي تشوبها شوائب عدة، إلا أن السبب الظاهري لذلك، هو قيام كوربين بتوجيه نوّاب حزب العمال للتصويت لمصلحة تفعيل المادة «50»، وهو ما يشير إلى رغبة حزب العمال بقبول نتائج الاستفتاء، أثناء طرح التعديلات التي من شأنها تقييد حكومة المحافظين البريطانية في المفاوضات القادمة. وعلى أيّة حال، لطالما حلّ الجدال حول التكتيك البرلماني محلّ نقاش أوسع، حول الطريقة الصـحيحة لمقاربة بريكست، حيث يتمّ في كثير من الأحيان توجيه اللوم إلى كوربين وحزب العمّال على أشياء لم يفعلوها، أو على أشياء لا يستطيعون (ولا يجب عليهم) فعلها. 

عرقلة بريكست: سيء من حيث المبدأ

 التصويت في البرلمان يجب أن يكون دوماً جزءاً من استراتيجية سياسية أوسع. يظنّ أغلب ناقدي كوربين أنّ هذه الاستراتيجية يجب أن تكون إيقاف حدوث بريكست ببساطة. فقد رأوا في قضاء المحكمة العليا، بوجوب استشارة أعضاء البرلمان بشأن مغادرة الاتحاد الأوربي، فرصةً من السماء كي ينهوا هذا الأمر من أساسه. وعدم رغبة كوربين بفعل ذلك، من وجهة نظرهم، هي خيانة عظمى. في الحقيقة، إنّ «الفرصة» المُفترضة لإيقاف بريكست هي مجرّد سراب، وملاحقة السراب ستنتهي بوبالٍ على اليسار البريطاني. 

إنّ فكرة محاولة الانقلاب على نتائج استفتاء العام الفائت مريبة بكلّ الأحوال، وقد طُرحت حجج متنوعة للقيام بذلك، مثل أنّ نسب المشاركة لم تكن عاليةً بما يكفي، وأنّ الأغلبية ليست كبيرةً، وأنّ حملة المغادرة بُنيت على الأكاذيب، وبأنّ الاستفتاء لم يكن ملزماً للبرلمان على أيّة حال، وبأنّ على النوّاب أن يمارسوا حكمهم، من أجل الصالح الوطني. هذه خلاصة وافية لما كانت تدور حوله النقاط. 

نهج حزب العمّال

الكثيرون ممّن طالبوا بالتصويت ضدّ المادة «50» خائفون بشكل يسهل فهمه من بريطانيا ما بعد بريكست، المعدّة من قبل تيريزا ماي ورفاقها المحافظين منذ إجراء الاستفتاء. اختارت ماي بشكل حاسم ما يسمّى «بريكست المتصلّب»، عن طريق إعطاء التحكّم بالهجرة، أولويةً على عضوية السوق الأوربية الموحدة، وإعطاء العلاقات الجيدة مع دونالد ترامب الأولوية على الكرامة الوطنية. لكن هناك طريقة لتحدّي مخطط (ماي) السام، وهي لا تتطلّب معارضة بريكست بأيّة صيغة أو شكل. 

فبينما كان الناس على دراية تامّة، بأنّهم يصوتون لمغادرة الاتحاد الأوربي في حزيران الماضي، فلم يكن هناك أيّ وضوح من قبل الشخصيات القيادية في معسكر المغادرة، بخصوص ما سيترتب على ذلك الحدث (وبشكل محدد سياسيون أمثال وزير الخارجية المحافظ الحالي بوريس جونسون، الذي أنكر أنّ الأمر سيعني مغادرة السوق الموحدة). 

لم يدعم جميع الـ 52% الذين صوتوا لصالح بريكست أجندة اليمين المتطرف، في كراهية الأجانب، حتّى لو أثّر تصويتهم على تقوية تلك الأجندة: فقد ضمّوا حوالي ثلث مؤيدي حزب العمّال، والحزب الوطني الاسكتلندي، وثلث المصوتين السود، وذوي الأصول الآسيوية (في تناقض واضح مع التصويت لصالح دونالد ترامب، والذي نال أقل من 10% من أصوات الأميركيين السود). 

لقد كانت هنالك رجعية وكراهية قويتين للأجانب في تيار التصويت لمغادرة الاتحاد، لكن كانت هناك أيضاً رغبة أكثر غموضاً سياسيّاً، لتحقيق النصر على النخبة الحاكمة البريطانية. النهج الأكثر منطقيةً بالنسبة لليسار هو قيامه ببناء جسور تصل بين المعارضين لبريكست وبين المصوتين له دون تبني كامل برنامج «آكيب» واليمين المحافظ و»الديلي ميل».

ويبدو أنّ هذا هو النهج الذي قررت قيادة حزب العمّال السير فيه: لقد صرحوا بوضوح بأنّهم سيحترمون نتائج الاستفتاء ولن يحاولوا حظر المادة «50» بالكل، وفي الوقت ذاته سيعارضون صيغة بريكست التي تعتزم حكومة ماي أن تطبقها. قدّم المعلقون السياسيون هذا الأمر على أنّه ضرورة تمليها الاعتبارات البراغماتية: صوّت ثلثا مؤيدي حزب العمّال لصالح البقاء، وخاصةً في المدن الكبرى. لكنّ البقية دعموا المغادرة، كما فعل العديد من المصوتين الذين يحتاجهم الحزب، إن كان يريد تحقيق مكاسب انتخابية. كما أنّ غالبية أعضاء البرلمان العمّاليين الحاليين هم ممّن خرجوا من دوائر تؤيد مغادرة الاتحاد الأوربي. 

ما قيل كلّه صحيح تماماً، لكن يكمن منطق أوسع وراء ما يقوم به حزب العمّال. «إيقاف بريكست» هو وضعٌ غير قابلٍ للتحقيق، بسبب الأسباب جميعها التي ذُكرت آنفاً. أمّا «إيقاف نسخة تيريزا ماي من بريكست»، فهو أمرٌ جاذبيته أكبر بكثير. مهما كان حكمنا على التكتيك البرلماني المستخدم لدفع هذه الاستراتيجية قدماً، والتي يمكن أن تنشئ خلافاً معقولاً، يبدو عند النظر إلى الصورة الكبيرة، بأنّه المسار الواقعي الوحيد الذي ينبغي اتباعه.

الاستراتيجيات المنافسة

من المفيد مقارنة نهج حزب العمّال، مع مواقف منافسيه الرئيسيين في صفوف المعارضة: الحزب الوطني الاسكتلندي، والديمقراطيون الليبراليون. إن الوطني كان الحزب الوحيد في ويستمنستر الذي عارض إجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي، في المقام الأول، لذلك لا يمكن اتهام نوابه بالنفاق، جرّاء تصويتهم ضدّ نتيجة هذا الاستفتاء الأسبوع الماضي. لدى زعيمة الحزب الوطني، نيكولا سترغون، مسار نصف- معقول، يؤدي به إلى معارضة بريكست: فغالبية المصوتين الاسكتلنديين، يدعمون البقاء في الاتحاد الأوربي، وقد طوّرت البلاد بالفعل مؤسساتها الخاصّة. 

يمكن أن تطالب سترغون بأن يتمّ استبعاد اسكتلندا من أيّ اتفاق «بريكست متصلّب»، وعند عدم تلبية ذلك، يمكنها أن تدفع نحو الاستقلال الاسكتلندي بغية إبقاء البلد عضواً في الاتحاد الأوربي (بكل تأكيد، يرى الحزب الوطني الإسكتلندي بريكست كفرصة ذهبية لإعادة فتح موضوع الاستقلال بعد الهزيمة في استفتاء عام 2014). كلّ شيء يفعله الحزب الوطني في ويستمنستر يتماشى مع استراتيجيته العامّة. 

لكن يبدو بأنّ انتفاع المصوتين للبقاء في الاتحاد الأوربي، في إنكلترا وويلز، من هذه السياسة قد يكون ضئيلاً، فليس الحزب الوطني الاسكتلندي في موقع مؤهل لحمايتهم من أسوأ تجاوزات حكم المحافظين، في الحقيقة، تعتمد مقاربة الحزب الوطني الاسكتلندي لبريكست بشكل ضمني على زيادة سوء الأوضاع في بقية أماكن المملكة المتحدة، ممّا سيدفع بغالبية الاسكتلنديين ليتجهزوا لتحمّل مخاطر التصويت لصالح الاستقلال. 

يستحق الليبراليون الديمقراطيون الازدراء وحسب، جرّاء موقفهم من بريكست. يفهم زعيمهم، تيم فارون، المنطق السياسي مثله في ذلك مثل الجميع، فهو يعلم تماماً أنّ إسقاط المادة «50» في التصويت في ويستمنستر سيحمل ماي على الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وللفوز في غالبية المقاعد، وللشروع في فرض أقسى نسخة من بريكست. لكنّ أولويتهم الوحيدة هي الفوز بدعم الأقليّة التي صوتت على البقاء في الاتحاد الأوربي، والذين يريدون أن يتمّ تجاهل نتائج الاستفتاء. 

لقد تمّ القضاء على الحزب تقريباً، في انتخابات 2015، ذلك بعد خمسة أعوام من دعم المحافظين، في الوقت التي كانت فيه معايير الحياة تنخفض لدى الجميع باستثناء الأثرياء في بريطانيا. أمّا الآن، فهم يرون بريكست فرصةً لغسل سمعتهم، ومسح ذكرى أعمالهم في الحكومة من كتب التاريخ. سيكونون أكثر من سعداء برؤية نسخة بريكست الأكثر ضرراً وخللاً تتحقق، ما دام ذلك يعني مضاعفة حصتهم من المقاعد في ويستمنستر. 

مع قيام وسائل إعلام يمينية، مثل الغارديان، بتصويرهم كأبطالٍ للأخلاق العامّة، فقد يكسب تجّار الدجل هؤلاء بعض الأصوات، على خلفية موقفهم. لكنّ على من لديه ميول يسارية، أن يعرف بأنّهم يضللون ويخدعون (قال فارون بأنّه سيعيد التحالف مع المحافظين إن سنحت الفرصة). 

انتقادات كوربين

كان هناك بعض المدافعين غير المحتملين، عن موقف كوربين من المادة «50»: بدءاً من النوّاب العماليين الذين عادةً ما ينتقدون كلّ كلمة له، إلى المعلّق ذي الهوى «البليري»، جون رينتول، الذي يعتقد بأنّ زعيماً من الجناح اليميني للحزب سيأخذ النهج نفسه تقريباً. 

كانت هنالك تعليقات نمطية، مثل: النفاق القذر لأمثال بولي توينبي من الغارديان. وجّه توينبي نقده لكوربين واتهمه بدعم «بريكست متصلّب»، بعد أن هاجمه من قبل لموقفه المؤيد للهجرة – بتعبير: «يريدنا أن نضحي بذواتنا بشكل يثير الدهشة»– ولتردده في الدعوة إلى «ضوابط معقولة» حيث إنّ القيود موجودة بالفعل على المهاجرين، من غير الاتحاد الأوربي. تتطلّب «الضوابط المعقولة» التي تدور في رأس توينبي خروج بريطانيا بلا شك من السوق الموحدة، وهي المعروفة باسم «بريكست المتصلّب». 

والجدير بالذكر: أنّه لم يغضب من هذا الشيء عندما قام صديق خان، عمدة لندن العمّالي، والخصم المعارض لكوربين، بالثناء على نهج المحافظين تجاه بريكست، وهو من ادّعى بأنّه «لا دليل» على أنّ حكومة ماي تريد لحقوق العمّال أن تتآكل، مقترحاً بأنّ المستويات الحالية من الحماية العمّالية ستثبت بأنّها «الأرضية وليست السقف» بعد أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوربي. والهدية التي منحها خان لماي، هي: الهجوم الواضح على حزبه، وقبلتها رئيسة الوزراء بامتنان، عندما استشهدت بها في مجلس العموم خلال 24 ساعة. 

نقّاد كوربين أعادوا إحياء الشعار، الذي ثبّت اضطراب القيادة الفاشلة في الصيف الماضي. تمّ حينها اتهام كوربين بتخريب حملة البقاء في الاتحاد الأوربي، والرغبة سرّاً بفوز جانب المغادرة. لم تصمد هذه الحجّة على المحك: فقد صوّت 63% من حزب العمّال لصالح البقاء، مقارنة مع 64% من داعمي الحزب الوطني الاسكتلندي، وتبيّن بأنّ الدليل الوحيد على التخريب المفترض، كان رفض كوربين القول: بأنّ الهجرة أمرٌ سيء، أو مشاركة منصّة مع سياسيين محافظين أثناء الحملة، أو للتحدّث عن المنافع المزعومة لمعاهدة «الشراكة عبر المحيط». الآن، يتُهم كوربين بأنّه يدس أفكاره المعادية لوجهة نظر الاتحاد الأوربي في حزب العمّال، وكأنّه لا يوجد منطق آخر مقنع، خلف موقف حزب العمّال. 

عندما لا يتمّ استخدام هذه الحجج بنيّة سيئة، كحالة، إنّ المهم أن نهاجم، فهي تظهر خلسةً، النقص الكامل في تخيّل وإدراك الشخص الذي أطلقها.

لا يمكنهم أن يصدقوا ببساطة أن الانتقاد المزمن للاتحاد الأوربي قد يكون أيّ شيء آخر غير كونه مؤيّداً قويّاً لبريكست، عندما حانت الفرصة. في الحقيقة، لقد قام العديد من الاشتراكيين الذين كانوا ينتقدون الاتحاد الأوروبي بشدّة بالدعوة للتصويت بالبقاء فيه حين الاستفتاء، ودون أن يتعرضوا للضغوط ذاتها، التي تعرض لها كوربين، والذي عليه أن يتحدّث بالنيابة عن حزب العمّال بكامله ولا يمكنه ببساطة أن يعطي رأيه الشخصي. 

طرحت الغالبية -أمثال كوربين وحملة أوروبا أخرى ممكنة- خطّ «البقاء والإصلاح»: لقد كان الاتحاد الأوروبي معيباً بشكل كبير، لكن البقاء فيه، ومحاولة التغيير من الداخل يبقى أمراً أفضل. أقلية متطرفة جادلت بأنّه، وبينما لا يمكن إصلاح الاتحاد الأوروبي، فقد عنت طبيعة حملة مغادرته بأنّ التصويت لبريكست في ذلك الوقت، قد يقوي اليمين. 

الهوس بأوروبا، المولود من جديد

إن النوبة الأوروبية التي أصابت حتى بعض القوى اليسارية، مبنية على وهم. ليس الاتحاد الأوربي ميناءً آمناً للاحتماء من العاصفة الجيوسياسية. إنّ الأجندة الاقتصادية التي شجعتها المفوضية الأوربية والبنك المركزي الأوربي، منذ بدء الركود الكبير، والذي أُدخل رسمياً الآن في المعاهدة الأوربية، قد قام بدوره، مثل بقيّة الأشياء، في تعزيز تقدّم «اليمين المتطرّف» في السنوات الأخيرة. 

يوجد في اليونان الآن حزب نازيين جدد علني، يمكنه أن يستقطب قرابة 10% من الأصوات، ويمكننا أن نشكر الترويكا على الوصول لذلك. إن لم يكن «الفجر الذهبي» قادراً بعد على الوصول أبعد من هذا المستوى، فالفضل في ذلك يعود للحركات الشعبية المناوئة للتطرف في اليونان. ويرتفع في فرنسا وهولندا رصيد مارين لوبان، و«غيرت ويلدرز» في صناديق الاقتراع (وسيستمرّ في الارتفاع، سواء خرجت بريطانيا أم لم تخرج من الاتحاد الأوربي).

القوى الشعبية نفسها، التي كانت وراء التصويت على بريكست وفوز ترامب موجودة في القارة الأوربية، وسيكون الاتحاد الأوربي عاجزاً عن احتوائها، إن وصلت إلى نقطة الذروة. يجب أن يتحوّل الشعار اليساري القديم: «لا واشنطن ولا بروكسل» إلى مبدأ الساعة. إن كان هدفنا هو إيقاف تألق اليمين القومي، فلا يمكننا سوى الاعتماد على أنفسنا.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
804