هل تحمي الأوراسية الأنظمة الحالية؟
إ سعد خطار إ سعد خطار

هل تحمي الأوراسية الأنظمة الحالية؟

يكثر مؤخراً الحديث عن الموضوع الأوراسي في العديد من الدوريات السياسية والاقتصادية الأكاديمية، وإن لم يكن التطرق إلى هذا الموضوع مستغرباً نظراً لراهنيته، إلا أن ما يبدو ملحوظاً بشكل متزايد هو العمل الجاري على خلق مقولات، يبدو أنها ستشكل أساساً لبروباغندا إعلامية لاحقة حول هذا الموضوع تحديداً.

 

واحدة من المقولات التي يجري التطرق إليها على نحو متزايد في وسائل الإعلام- لا سيما الخليجية منها- هي الترويج للفكرة القائلة: أن المشروع الأوراسي المطروح منذ وقتٍ طويل، إنما يتسم بخاصيتين اثنتين: «تعزيز اقتصادات الدول المشاركة في المشروع، وتمكين الأنظمة السياسية الحاكمة فيها كما هي».

 

في الحديث عن طبيعة العلاقة، بين المشروع الأوراسي، والأنظمة السياسية الحاكمة اليوم في المجال الأوراسي، لا بد في البداية من الوقوف عند مجموعة من المغالطات حول الفكرة الأوراسية عموماً، والتي لا ينفك يروج لها الإعلام الغربي، وينسخها الإعلام العربي قصداً، في كثير من الأحيان وسهواً في حالات أخرى.

هل هي مجرد «حاجة روسية»؟

يكاد يكون «الكود» الجامع لوسائل الإعلام الممولة خليجياً، هو: الإيحاء المباشر للمتلقي بأن المشروع الأوراسي إنما هو حاجة روسية خالصة، ناتجة عن الحسابات الاستراتيجية التي تقوم بها روسيا، والتي لا تأخذ في الحسبان، سوى المصالح الضيقة لرؤوس الأموال الروسية، وفي أحسن الحالات للدولة الروسية، دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح العميقة للدول الأخرى.

في هذه الحالة، يخرج المتلقي بانطباع مفاده: أن انضمام الدول إلى المشروع الأوراسي، أو اقترابها من ذلك، يشكل انضماماً واقتراباً لمشاريع روسية، لا ناقة فيها لباقي الدول ولا جمل. وأن اقتراب أو انضمام هذه الدولة أو تلك إلى المشروع الأوراسي، هو «شر لا بد منه» ناتج عن التصاعد في وزن النفوذ الروسي في العالم، ما يجعل الدول الأخرى مضطرة لـ«مسايرة الروس» في «مشروعهم الخاص».

في الحقيقة، يشكل المشروع الأوراسي حاجة موضوعية للدول الواقعة في المجال الأوراسي جميعها. ذلك أن تغيّر ميزان القوى الدولي، وتراجع نظام القطب الأمريكي الواحد، واشتداد الأزمة الرأسمالية، في مقابل ما يعنيه من احتمالات كارثية، على الدول التي كانت حتى الأمس القريب، إما تعتمد على الريع السياسي للتبعية إلى المركز الأمريكي، أو أنها تعاني من تبعات المواجهة مع هذا المركز. وفي هذه الحالة، يصبح العمل على إنجاز المشروع الأوراسي، في ظل انكسار نظام الهيمنة الأمريكي عالمياً، هو حاجة ماسة للدول التواقة إلى اعتماد التكامل الاقتصادي، مكان الهيمنة والاحتكار والنهب الدولي السائد.

الأوراسية والأنظمة

الفكرة الأخرى التي تحتاج إلى الوقوف كثيراً عندها، هي: القول بأن المشروع الأوراسي يشكل في مضمونه إنقاذاً للأنظمة السياسية الحاكمة في عددٍ من الدول، التي أبدت رغبتها في الانضمام إلى المشروع، أو تلك القريبة موضوعياً من الانضمام إليه. وبشكل محدد، يجري تصوير الموضوع على الشكل التالي: «تفتح الأوراسية باب الدعم الروسي لتلك الأنظمة الحاكمة، بأن تتلافى احتمالات سقوطها شعبياً، وذلك عن طريق ربط البلاد بكاملها في إطار مشروع اقتصادي سياسي اجتماعي ثقافي يصبح المتحكم الأساسي فيه هو العامل الخارجي».

إن تصوير المشروع الأوراسي، وكأنه عصا خارجية تمكّن الأنظمة السياسية من تلافي حركة الشارع في دولها، هو من أكثر الطروحات تسطيحاً وابتذالاً. إذ أن الوقائع المستندة إلى منطق المصلحة الاقتصادية والسياسية تشير إلى العكس تماماً: الأوراسية خطر على أنظمة النهب المحلية..! كيف ذلك؟

ماذا تحتاج الأوراسية؟ وماذا تريد الأنظمة؟

إن كنا نتحدث عن المشروع الأوراسي (وهنا يجدر الانتباه إلى أننا لا نقصر الموضوع على إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي القائم حالياً، بل نقصد ذلك المشروع الاستراتيجي الأوراسي)، فيجب القول: إن الانضمام إلى هذا المشروع يستدعي أولاً وقبل كل شيء التفكير المطوّل في الالتزامات الموضوعية، التي يفرضها على الدول (بما في ذلك الأنظمة الحاكمة فيها).

في البداية، يقوم المشروع الأوراسي، على فكرة التكامل الاقتصادي والسياسي بين دول أوراسيا، وهذا يعني عملياً أن أوراسيا ستغدو الأولوية رقم واحد، لدى الدول المنضوية في إطارها، سواء لدى الحديث عن العلاقات التجارية، بما في ذلك حركة الاستيراد والتصدير، أو لدى الحديث عن السياسات الاقتصادية العامة التي يجب، وفق هذه الصيغة، أن تكون مبنية على أساس ما يعزز سبل التكامل، لا العكس.

والسؤال المنطقي هنا: إلى أي مدى يمكن للأنظمة الحاكمة الموجودة اليوم في المجال الأوراسي، أن توافق أو أن تعمل على هذا الأساس؟ إن كان تفسير مكامن الخلل والفساد لدى هذه الأنظمة، قائماً أصلاً على تقييم تبعيتها الاقتصادية السياسية الذليلة للغرب، فبأي معنى يمكن الحديث عن مصلحة ما لهذه الأنظمة في الانضمام إلى لواء المعسكر الأوراسي، القائم بالأصل على فكرة مقاومة الهيمنة الغربية على العالم؟

أوراسيا فكرة ثورية

يسعى المشروع الأوراسي، وكذلك مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» الصينية، إلى الاستثمار في البنى التحتية، وتعزيز هذه البنى المملوكة من قبل جهاز الدولة في البلاد المعنية، ذلك من خلال إيجاد وتشييد الطرق التي سيمر عليها إنتاج الاقتصاد الأوراسي، وغيره، بشكل تكاملي سيمتد على طول الطريق نحو أفريقيا وأوروبا. كما يهدف المشروع والمبادرة إلى تقاسم المنافع مع البلدان الشريكة، من خلال خلق الظروف الاقتصادية الجيدة والملائمة خصوصاً في مجالات الإنتاج الصناعية، والنقل والبنية التحتية للطاقة. وهذا يشمل الموانئ، والمطارات، والسكك الحديدية العابرة للحدود، وتجارة الحاويات وكابلات الألياف الضوئية.. إلخ. وأمام هذا الواقع، يبدو أن أنظمة النهب التي تعتاش عملياً من عمليات الفساد التي تقوم بها، كنتيجة موضوعية لغياب البنية التحتية القوية، والمشاريع الاقتصادية الجدية، هي المتضرر الأول من المشروع الأوراسي، وأي مشروع، تحت أي مسمى، يخرج من قبل المحور الدولي الصاعد عالمياً.

إن الأوراسية، كفكرة، هي قبل كل شيء مطلب إنساني يجمع مصلحة شعوب أوراسيا جميعها، مصلحتها في وجه أنظمتها الحاكمة التي أبعدتها مطولاً عن التنسيق والربط والتكامل الضروري مع شعوب الدول الأخرى التي تشاطرها الخضوع المؤذي للهيمنة الأمريكية الغربية التي كانت سائدة في العالم كله. وعليه، يمكن القول: إن الفكرة الأوراسية هي فكرة ثورية، لا لارتباطها بالتقدم الاقتصادي المتوقع في حال نجاحها، بل حتى في اصطدامها الموضوعي المباشر مع القمع الاقتصادي والأمني والثقافي والسياسي، الذي مارسته أنظمة الدول الواقعة في المحيط الأوراسي على امتداد الحقبة الأمريكية في القرن الماضي.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
790