2017.. على طريق النظام العالمي الجديد
   رنا مقداد    رنا مقداد

2017.. على طريق النظام العالمي الجديد

شهد العام الماضي تغيرات جذرية في السياسة العالمية، لا يصعب تفسيرها بعد وقت على حدوثها. لكن قبيل صدورها، لم يتوقع أحد، تقريباً، نتائج الاستفتاء في المملكة المتحدة مثلاً، أو نتيجة الانتخابات في الولايات المتحدة، أو حتى اعتذار أنقرة المفاجئ من موسكو والاستئناف السريع للعلاقات الروسية - التركية.

 

لا شك في أن ما حدث في 2016، هو نتيجة للتغيرات التي تراكمت منذ وقت طويل. فمرحلة «ما بعد الحرب الباردة» قد انتهت حين ساد الاعتقاد بأنّ النظام العالمي السائد يترسخ. وفي الواقع، كما اتضح في ما بعد، أن الذي حصل هو أمركة (هيمنة الطابع الأميركي على) المؤسسات الغربية، التي استخدمت في «الحرب الباردة» والمواجهة بين القطبين الدوليين، وليس بناء نظام جديد، بل تكييف القديم. لكن هذا كله لم ترتجَ منه فائدة. فالظروف المختلفة نوعياً في العالم، كانت وراء ظهور أشكال أخرى من العلاقات.

المشهد العام نحو الانعطافات

اليوم، صار هذا التغيّر واضحاً. لكن ما لم تتّضح معالمه بَعد هو البديل الجديد (عن النظام البايت). ويبدو أن موجة سيادة الدول (الاستقلالية) ترجح، وأن الابتعاد عن العولمة هو النازع الراجح، رغم أن أحداً لم يتخلَ عن الاعتماد المتبادل بين الدول، والترابط، ولم يقطع الوشائج بينها. 

وفي سياق تغير الأنظمة السياسية، تقع المسؤولية الأساسية على عاتق القادة، الذين يفترض بهم أن يديروا هذه العملية ويوجهوا الدفة. وكلما كانت القواعد أقل وضوحاً وأكثر التباساً، صار الاعتماد أكبر على صواب القرارات المتخذة في لحظة محددة. وهذا وثيق الصلة بنوع القيادة وما تتسم به من صفات. فمن هم الأشخاص الذين رسمت قراراتهم وجه عام 2016؟

في رأيٍ شخصيٍ لكاتب هذه السطور، من تصدّر وجه السياسة العالمية، رغم أهميته المتواضعة، هو الرئيس الفيليبيني، رودريجو دوتيرتي، الذي انتخب في حزيران، وصارت بلاده مذّاك مصدراً للأخبار. فهو (الرئيس الفيليبيني) مجرد تجسيد للاتجاه العالمي السائد اليوم، كما غيره من قادة حركة «بريكسيت- الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي» في بريطانيا وغيرهم من الشخصيات التي توصف بالشعبوية. 

تجمع هذه الشخصيات الرفض الصارخ للمؤسسات الدولية والنظام الدولي، ولفظ التوسل بالتعابير الصحيحة سياسياً، أي الخروج عن المتعارف عن قبوله في عالم السياسة، والمبادرة الى أفعال تلقى قبولاً شعبياً لكنها تخرج عن المعايير المقبولة، وأحياناً على القوانين الراسخة، إلى الرغبة في تغيير جذري في توجهات السياسة الخارجية.

وفي الأوقات العادية، أي تلك التي كانت سائدة الى وقت قريب، كان محكوماً على مثل هذه السياسة بالفشل، ولكن اليوم، كل شيء اختلف: فالسياق الخارجي (ميزان القوى في العالم) تغير، شأن مزاج الناس. والى ترامب ودوتيرتي، برز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2016. وأثارت سياسة أردوغان في العقد الحالي التوتر في البلاد وفي المنطقة، ووجدت أنقرة نفسها في طريق مسدود في السياسة الخارجية والداخلية. والرئيس التركي، على رغم طموحه الشديد وعدم الرغبة في التراجع، وجد في نفسه القوة للإقدام على منعطف في العلاقات مع روسيا. ثم استغل الفرصة التي سنحت إثر الانقلاب العسكري الفاشل الصيف الماضي. 

والسمة الثانية في العام 2016 هي عجز ممثلي النخب الحاكمة في الغرب عن فهم توجهات المواطنين في بلدانهم. وقرر رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، ونظيره الإيطالي، ماتيو رينزي، الاحتكام إلى رأي الناخبين في حلّ المشاكل الإدارية، وخسرا أشد خسارة. والدعوة إلى الاستفتاء في وقت يتعاظم استياء الناخبين، ليست مجازفة فحسب، بل هزيمة مضمونة.

مرحلة الانتصار الأمريكي انتهت

وتنتمي هيلاري كلينتون، المرشحة الديموقراطية إلى الانتخابات الأميركية ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة، إلى المجموعة نفسها التي لم تحسن تقييم الوضع تقييماً موضوعياً. فهي وصفت أنصار ترامب بالبؤساء، ولم تدرك (كما لم يدرك قبلها قادة حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي)، أن هؤلاء «البؤساء» كٌثر، وأنهم قد يستاؤون منها. 

وتبقى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ممثلة الاستقرار، إيجابياً وسلبياً، في أوروبا والعالم. فميركل، على رغم التحولات الجذرية في محيطها الدولي، وفي الداخل الألماني، لا تزال تمسك بزمام الأمور. ولو كانت سيطرة سلبية. فالساسة الألمان يثابرون على انتهاج مسار معين من دون الرغبة في تصحيحه، حتى في ظلّ تغير ظروف مهمة. وفي ألمانيا، على نقيض البلدان الأوروبية الأخرى، لا يوجد تغير جذري في المشهد السياسي حتى الآن.

وأمّا باراك أوباما، المنتهية ولايته، فمن المرجح أن يدخل التاريخ على أنه سياسي شعر بحصول التغيرات، ولكنه لم يدرك سبل استخدامها. ويعد دونالد ترامب بإعادة النظر في مجمل إرث سلفه تقريباً. وقد لا ينجح في ذلك، فعلى رغم كل شيء، تمكّن أوباما من أن يكون الحلقة الانتقالية إلى مرحلة جديدة تطوي انتصار الولايات المتحدة في «الحرب الباردة». وفي المرحلة هذه لم تعد نتائج المواجهة في النصف الثاني من القرن العشرين، محورية. أمّا ما يحدث في الفترة الانتقالية كلها، فهو نادراً ما يدوم وما تكتب له الحياة. 

بداية مرحلة جديدة

نجح فلاديمير بوتين في البروز، واحداً من الرؤساء الأقوى في العالم. وهذا الرأي بلغ ذروته اليوم، ولم يعد يستند فحسب إلى قدرته على حَيْكِ الطرق الجيوسياسية الذكية، والمبادرة إلى مفاجآت استراتيجية، ولكن إلى القدرة على تقرير مصير الديموقراطية في البلدان الرائدة في العالم. 

بوتين صار مخيفاً للغرب، ليس على الساحة العالمية، بل هو يبثّ الخوف في أوصال البلدان الغربية المستميتة في الحفاظ على الوزن الأمريكي. ولا شك في أن الخلاصة الرئيسية لعام 2016 هي التغييرات في النظام العالمي وفي الدول الغربية. 

ويدير الجمهور الغربي أكثر فأكثر الظهر، للخط السياسي الذي كانت الطبقة الحاكمة تعتبر- إلى وقت قريب - أن لا بديل عنه. وأدى انفضاض الناس عن النظام هذا، إلى ارتباك وحرج الطبقة الحاكمة، وساهم في بروز الرغبة في العثور على مذنب (طبعاً لم تجد غير موسكو). لكن في نهاية الأمر، تغدو الحاجة إلى تغيير هذا الخط أكثر إلحاحاً. وفي السنة المقبلة، يمكن لمثل هذا «التغيير» أن يظهر في فرنسا، إذا حال فرنسوا فيون، دون بلوغ حزب «الجبهة الوطنية» السلطة عن طريق تبني بعضاً من شعاراته.

وأخيراً، يفتتح عام 2017 مرحلة جديدة. وإثر ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي، تنتهي المرحلة التي تلت انتهاء الحرب الباردة، وأعقبت انهياره. وعلى الدول كلها، بشرقها وغربها، إدراك أن مرحلة مختلفة تبدأ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
792